فلسطين بالقلب دائما.. وصية إدوارد سعيد

فلسطين بالقلب دائما..  وصية إدوارد سعيد

العدد 687 صدر بتاريخ 26أكتوبر2020

قال المفكر الفلسطيني دكتور إدوارد سعيد “على كل فلسطيني أن يكتب روايته” لم نسمع تلك الفكرة الرائعة منه بل سمعناها من المسرحي غنام غنام في بداية العرض المسرحي القاسي العنوان “سأموت في المنفى”، حيث قررغنام العمل بالوصية عبر مسرحيته  ليكون هو المؤدي الوحيد أو الراوي الوحيد الماثل أمامنا، بل هو كل عناصر المسرحية الكاتب ومصمم السينوغرافيا و المطرب والمخرج ، ولم لا وهي روايته الشخصية عن حياته كمواطن فلسطيني .
 إذن نحن بصدد غنام و“روايته” تنفيذا لوصية سعيد، التي يتخذها كمبرر درامي ليحكي لنا عن حياة أسرته أسرة غنام وتاريخها الذي ارتبط بالوطن منذ عام النكبة 1948 - كما اطلق عليه كتب التاريخ العربي  -  لكننا لم نشهد أو نسمع كلمات نقلت عن  كتب أوروايات مؤرخين بل سمعنا وشاهدنا غنام غنام وهو يحدثنا عن وقائع لأشخاص حقيقين من لحم ودم عبر روايته هو التي يرويها شفاهيا  للمتفرجين المتغيرين مع كل عرض حيث اعتاد تقديمه لمدة ليلة واحدة كلما حل على مهرجان أو ملتقى مسرحي في بلد من البلدان - قدم غنام غنام العرض في أراضي عربية ودولية كثيرة منذ العام 2014 في مصر ثلاث مرات وفي الأردن وتونس وقطر والسودان والمغرب والبحرين وسلطنة عمان والكويت  وألمانيا واليابان – أي أن المكان والجمهور متغير في كل ليلة تعرض بها المسرحية  لكن الوضع المسرحي ثابت . 
  يتحلق المتفرجون في حجرة أو قاعة أو ساحة في شكل أقرب للدائرة، بينما يتحرك غنام المؤدي / الراوي، في وسط الحلقة وحيدا لايحمل  سوى الشال القماش الشهير “بالكوفية الفلسطينية” يتلفح به حول عنقه، ثم يستعين بمقعد مما يجلس عليه المتفرجين ليجلس هو عليه وسط الحلقة أو الدائرة فيرى ويراه الجميع . وتتعدد رمزية  الكرسي أو المقعد  باستخدامه  أثناء المسرحية، فالكرسي بداية حقيبة سفر ثم مقعد في مطار أو مكتب محقق جائر أو شاهد قبر أخيه وأبيه  لتتطور لدلالة هامة وهي عدم استقرار الراوي / الفلسطيني في أي مكان ثابت هو متحرك راحل دائما . 
 بتلك البساطة  يقدم بها المؤدي غنام روايته الذاتية كفلسطيني تحمل في طياتها دلالات قكرية ودرامية، فهو مؤد وحيد بين جموع من الغرباء /المتفرجين الذين يشكل أغلبهم مواطنون من دول عربية فهل قصد نفس الدلالة على مستوى الدول وليس المواطنين فقط، بمعنى أخر هل يشعر الفلسطيني أنه وحيد وسط جموع عربية لاتساعده؟ تجلس الجموع وتتفرج عليه بينما هو وبني وطنه يصارعون المحتل من أجل استعادة وطنهم وأرضهم؟ تلك علامة لايمكن إغفال دلالتها عبر تشكيل السينوغرافيا  طوال العرض المسرحي .
 إذن هي روايتك / حكايتك أنت يامن تقف أمامنا وحيدا  وسط الساحة / مكان التمثيل تخاطبنا  كمتفرجين  عرب غير متفاعلين أو بالأدق غير فاعلين، وقلت : أنا وأنتم وبتعبير إنجليزي قلت “تو دايمنشن” أي إتجاهين وليس اتجاه واحد، ولذا رفض غنام وصف مسرحيته بالتعبير الفني “مونودراما” أي مسرحية الممثل الواحد فوق المسرح  وهذا حق الفنان في توصيف عمله وذكاءه أيضا أن يضع المتفرج حيث يشاء أن تصل روايته الدرامية  ورؤيته الفكرية والفلسفية .
  يقف الراوي / المواطن الفلسطيني وحيدا خارج وطنه وهو نموذج لكل فلسطيني، فهو بعيد عن أسرته  التي يعيش بعضها داخل أرض فلسطين مثل  ابنتاه اللاتي لم يحضر عرسهما ويتوقع أن لاتحضرا جنازته حين يموت مستقبلا، وبعضها يعيش في الداخل أيضا لكن في مدينة غير مدينتهم  مثل أسرته، كانت  مدينتهم أريحا وهجروا إلي مدينة أخرى داخل فلسطين نفسها نتيجة لتقسيم أرض فلسطين ومحو هوية سكانها من مسقط رأسهم . وهنا يتوقف الراوي ليتحدث عن الفارق بين المهجر والنازح ويستشهد بقرارات الأمم المتحدة التي تقول بأن المتحرك داخل وطنه فهو نازح أما  الخارج عن الحدود الدولية فهو مهاجر، وتلك علامة أخرى هامة تؤكد دلالتها على  الخلط والتزييف في المفاهيم الذي تعاني منه قضية فلسطين على مستوى الرؤية الدولية لها . وهنا يمسك بالشال الفلسطيني عن كتفه كرمز لوطن يحمل حول الأعناق وفوق الكتف فيربطه حول عنقه في وضع المثلث المماثل لخارطة فلسطين – وتلك أول مرة تفسر بها الشال كعلامة – في وعي المتفرج، ويشرح عبر الخريطة أماكن المدن الفلسطينية وكيف مزقها الصهاينة وفرقوا أهلها تحت سمع وبصر وجهل القرارات الدولية  .
ماحكايتك ياغنام ؟ 
  غنام غنام مواطن عربي من أصل فلسطيني عاش طفولته داخل فلسطين ثم باقي حياته خارجها وقد تخطى الستين من عمره –كما ذكر -  يشغله التفكير بالموت أي النهاية المحتومة لكل حي . الكلمة الأولى في عنوان المسرحية “سأموت” تحيل إلى مستقبل غير معلوم بالطبع لأن الأعمار بيد الله عز وجل، لكن مايعقب الكلمة الأولى يحيل إلى حالة معلومة ويبدو الكاتب متأكدا من مصيره وهما كلمتي “في المنفى”.  فهو في يوم ما من المستقبل سيموت ككل حي ونفس هذا المستقبل سيكون في المنفى، ماذا قصد الكاتب بكلمة “المنفى” الذي سيموت فيه؟  قصد كما سنجد في النص “خارج فلسطين” من أين هذا الإقرار الذي يصل لحد اليقين، من تاريخ اسرته وجيرانه وبني وطنه الكل خرج من أرضه التي ولد بها سواء رحل لمدينة أخرى مثل ابيه وأمه  أوإلى بلد أخر خارج فلسطين كلها والراوي واحد من بينهم . 
في المفتتح  يعود الراوي / المؤدي إلى ذكريات مع السفر فالمكان الأول الذي ينطلق منه الحدث هو المطار والفعل حمل حقيبة سفر، أي أن فكرة الترحال حاكمة في حياته ولكن أي ترحال إنه ترحال السفر حول الوطن /فلسطين . فيعود بذاكرته إلي  سنوات مضت وهو يعود إلى وطنه فلسطين  لعرض مسرحية “عائد إلى حيفا “ ويصف تفاصيل الذهاب من عمان إلى حيفا عبر جسر يربط بين الأردن وفلسطين فيمر بمدن رام الله وصولا إلى جنين ونابلس وتلك أسماء مدن أصيلة في فلسطين، حيث يتعمق في وصف الطبيعة وأشجار البرتقال والزيتون ويتوقف عند زيتونة السيد البدوي التى يعود تاريخ وجودها بالارض في قرية “الولجة” في القدس الشريف إلى خمسة اّلاف سنة .
   في رحلة عودته من فلسطين لعمان حيث يعيش يحمل الراوي للذكري حفنة من تراب وطنه وبضعة أحجار  وقرص يحمل كل  الصور التي سجل بها عودته بعد سنوات قاربت الأربعين، بيت أسرته في أريحا بقرية “كفرعانا” ويعود الاسم إحدى ملكات الفينيقينن، وكل مكان مر به وعاش به ليتذكر مواقف لعائلته ورفاقه ومدرسته . وعند وصوله لايجد كل تلك الذكريات، سرقت من الحقيبة في نقاط التفتيش أو القيت إلى حضن أصلها ويردد قصيدة لمحمود درويش “أنا من هناك”  ويؤكد الراوي أن الصور المسجلة على القرص الالكتروني هي ذكريات محفورة في ذاكرته وقلبه مثل كل تراث فلسطين يقول “ سيجدون في الذاكرة درويش وسميح القاسم وجورج حبش ووديع حداد وغسان كنفاني والشيخ إمام”. 
 لوالدته “خديجة” يعود فضل حفظ هذا التراث حيث كانت تغني  موال وديع الصافي “على الله تعود بهجتنا على الله” حنينا للوطن ولإبنها البكر فهمي الذي تغرب بالمنافي وحمل وثائق سفر من كل البلاد إلا بلده، فحولت الأم الثكلى الموال لعدودة حزينة تنعى بها ولدها الذي عاد ليموت بينهم وقد ظنوه عاد ليعيش، في مفارقة درامية تتوج كل المفارقات التى مر بها الراوي عبر حياة أسرته /وطنه . وينهي الراوي مسرحيته بتأمل مقبرة “سحاب” بعمان والتي يدفن بها الجميع ويروي كيف أن شواهد القبور تحمل اسم ساكنها ومكان مولده في وطنه فلسطين، وتلك علامة لها دلالتها القوية  وهي التمسك بالأرض المنشأ والمنبت رغم البعد قصرا وظلما عنها، فكل فلسطيني يحمل وطنه في قلبه وهويته حتى موته . ولاينسى الراوي أن يثني على الكاتب الراحل إيميل حبيبي “نيالك يا إيميل حبيبي لم تترك حيفا وطلبت أن يكتب على شاهد قبرك “باق في حيفا” في إشارة هامة من الراوي لأبناء فلسطين ممن استطاعوا وأصروا على البقاء بها .  
مر الراوي الوحيد أمامنا بالعرض المسرحي بأداء عدة شخصيات روى مواقف له معها أو روى عنها “المعلم على” عامل البناء المصري زميله بالعمل، محقق اسرائيلي على الحدود، مسافرة صينية بأحد المطارات، أمه خديجة وهي تنعى والده بالعديد بعد موته، حفار القبور وهو يسأل عن موطن المتوفى، صابر غنام الوالد، المحقق الخائن للجيرة والصحبة القديمة  الذي عذب أخيه ناصر غنام، صديقه نواس في جنازته، ابنه غسان وهو يحمله لقبره .  
 تعود جماليات هذا العرض الجميل للبساطة في الشكل كما قدمنا وإلى عمق الفكر السياسي والطرح الإنساني وتلك أصل عناصر العرض المسرحي في أجل صورها  وهي :  مؤدي +متفرج + مكان واحد + فكرة أو موضوع +مهمات واكسسوارات= عرض مسرحي . ولذا ففي تقديري النقدي والفني نحن شاهدنا شكل متطور لعروض الراوي الشعبي الذي عرفته ثقافاتنا الشعبية  في الحارات والأزقة والمقاهي، راوي حاذق يجيد حرفته  في الأداء والتمثيل والحكي يمزج فيهما بين الجد والهزل حين يجد مكانا لإثارة ضحك المتفرج لايتوانى عن فعل ذلك، يلمز ويرمز بالنقد والتقريع لأعدائه وظالميه دون تصريح ونجد ذلك في قصيدة شوقي  البليغة و في قصة المحقق النذل وفي قصة اغتصاب أهل أبيه لميراثه الضخم وكأنه يشير لبكورة الخيانة والطمع من الأهل قبل المحتل. وهو يستعين بأدوات بسيطة لإيصال كل تلك الأفكار ولم يذهب مذاهب مثل أخرين لعرض وثائق مصورة  ولم يردد بالحوار بيانات وإحصائيات غليظة  بل التزم بما وعد به منذ بداية العرض حين قال “ساحدثكم عن ناس عاديين لكنهم أبطال تراجيديين .. شهداء لم يسقطوا في المعارك بل قتلتهم المنافي والغربة” 
 و من هنا  جاء تميز العرض فكريا وجماليا ذهب بنا إلى فلسطين ومدنها وأهلها وزيتونها وبرتقالها وتنسمنا عطر زهورها وبكينا على حزنها ورددنا  معه  اشعارها وبكينا على حزنها وتسألنا معه حول مصيرها لكننا صفقنا فقط ولم نفعل شيئا . لكن قبل أن تموت في المنفى ياغنام يجب أن تعلم أننا جميعا سوف نحزن  لأنك أنت وفلسطين دائما بالقلب والوجدان العربي وحين يحين الوقت نصبح جميعا واحد .  
 


سامية حبيب