العدد 642 صدر بتاريخ 16ديسمبر2019
خلال التسعينيات نمت بشكل متزامن في مصر مجموعة من جماليات وتقنيات الكتابات الحداثية وما بعد الحداثية في المسرح بطابعها الطليعي المتمرد على كافة الجماليات البرجوازية وسلاسل القيم والأفكار التي تحملها دافعة المسرح المصري للانفتاح على جماليات جديدة للعرض المسرحي بعد عقود من التقوقع داخل تيارات المسارح الملتزمة والتجارية وهي التيارات التي اعتمدت على مصادر موحدة برغم تنوع غياتها ، فبعد عقود من سيادة تقنيات المسرح البرشتي والواقعي وتقنيات الكوميديا الشعبية أنفتح المسرح المصري على تقنيات المسارح الحداثية وما بعد الحداثية التي استطاعت اختراق الشروط الجمالية المتعارف عليها والتي كانت تنفي إلى الهامش أي تجارب تتسم بالطليعية ... لقد تحولت الطليعية (وما بعد الطليعية) في التسعينيات من تيار هامشي في المسرح المصري إلي رافد أساسي من روافد تلك الحركة المسرحية .. بالطبع فإن تلك التقنيات الحداثية وما بعد الحداثية لم تستطع أن تجذر جماليات مضادة للجماليات السائدة لكنها اشتبكت معها في تفاوضية عميقة ومستمرة حتى اليوم.
لعل أثار تلك التفاوضات يمكن أن نرصدها بوضوح في عرض (ظل الحكايات) الذي قدمه المخرج (عادل بركات) من أنتاج فرقة الغد المسرحية عن نص الكاتب المسرحي إبراهيم الحسيني فالعرض يستعيد تقاليد التعبيرية والسريالية ضمن أطار رحلة كابوسيه وخلاصيه يخوضها البطل (منصور/ رامي الطمباري) في عالم غير واقعي يقوم بمطاردة البطل طوال الوقت ومحاصرته ومساعدته في رحله معرفية لاكتشاف الذات والعالم، حيث يدور العرض في إطار من التداعيات التي ترتبط جميعها بوعي الشخصية الأساسية بالعالم وإدراكها لها.
ولعل ذلك ما يمكن أن نجد أثاره في كافة مستويات العرض بداية من تشكيل الفضاء المسرحي الذي لا يقدم لعالم محدد الملامح بل قائم على تخليق إطار تشكيلي (كولاج بين لوحات كلاسيكية ورسومات تنتمي للبوب أرت بالإضافة لمواد بصرية ودمى وأقنعة...الخ.) أطار يعتمد بشكل أساسي على درجات الرمادي بالإضافة للون البني في ملابس بعض الشخصيات وهو ما يطرح على المتلقي التصورات الأساسية التي يحاول العرض تقديمها حول عالمه المقبض والغامض والغارق في الظلال ، عالم يناهض الواقع ويحوي على كائنات خرافية و تحولات غير منطقية و ظهور واختفاء دائم لشخصيات بلا ملامح واضحة تعكس في مستوى ما عنوان النص (ظل الحكايات) فلا توجد حكاية بالمعني التقليدي تستهدف تفسير العالم والامساك به بقدر ما نحن أمام ظلال مهتزة و غير مستقرة للعالم تعكس وعي البطل الذي يهيمن على الفضاء المسرحي طوال الوقت ويتحرك بقدر كبير من الحرية في مقابل القيود التي يفرضها المخرج على كافة الشخصيات/ الظلال المحيطة بالبطل والتي في العادة تتحرك في الفضاء المسرحي داخل حدود ضيقة ومرتبطة بمواقعها في مقابل السيطرة شبه المطلقة لمنصور/البطل على كامل الفضاء المسرحي والقدرة على الانتقال بين مجموعة من الأماكن في أطار رحلته الخاصة التي لا تعكس تطور في عالمه بسبب ثبات الوحدات التشكيلية وعدم التوجه لعملية تشكيل دائمة للفضاء المسرحي مع كل مرحلة من مراحل الرحلة .
ربما تكون الإضاءة التي تنوعت بين السخونة والبرودة كانت العنصر البصري الأكثر مرونة وحركية في ذلك الفضاء حيث ساهمت عمليات التحديد والتأطير عبر الإضاءة لمواقع بعينها في الفضاء المسرحي في تفتيت ثبات ذلك العالم لكن ثبات الديكور وعدم تصور أقل انغلاقا للفضاء المسرحي يساهم في تشكيل العالم بشكل ديناميكي قادر على تجسيد حالة الرحلة التي تتقدم من مرحلة وعي بالعالم إلى مرحلة جديدة - تضافر مع عدم اعتماد النص لبنية درامية تقليدية تصاعدية أو ممتلكه لنموها الخاص... لقد أدى كل ذلك إلى مزيد من الثبات ففي النهاية كان الخيار الأكثر وضوحاً للمخرج هو التأكيد على حالة الحصار الكابوسي التي تحاصر البطل عبر بناء الفضاء المغلق وليس حالة الرحلة التي ربما يحاول النص السعي إليها.
لقد أدى تضافرت تلك العناصر السكونية وغير المتحركة في تشكيل فضاء يتسم بالثبات وعالم لا يتقدم بقدر ما يدور في حلقات يتم الانتقال بينها داخل نفس الفضاء الثابت .... ثبات لا يمكن الإفلات منه إلا في المشاهد الافتتاحية والختامية للعرض التي تحوي الأفعال الرئيسية دخول عالم القرية والقرار النهائي بالتحرر من الخضوع للعالم وهي المشاهد التي تتسم بطابع درامي واضح بالإضافة إلى استخدام شاشة العرض التي ورغم ضعف تقنيات الخدع البصرية المستخدمة فيها إلا أنها كانت قادرة على فتح فضاء أكثر رحابة خلال المشاهد الافتتاحية واللحظات التي تم استخدامها فيها خلال العرض.
من المؤكد أن المخرج قد حاول تخفيف الحالة السكونية التي يتسم بها العرض (على مستوي النص على الأقل) عبر مستوي تشكيل الحركة وعبر الوسائط المرئية التي تطرح رحلة البطل لعالم القرية وحالة السقوط الدائم التي يحيا فيها وهو داخل ذلك العالم الكابوسي. لكن تلك العناصر لم تنجح إلى حد بعيد في تخليص العالم من سكونيته ظلت تتصاعد مع الطبيعة التكرارية للنص القائم على تمثل بنية كوابيس الحصار التي ينتقل فيها البطل في حالة هرب دائم ومستمر يقوده بشكل مستمر إلى حلقات حصار أكثر قسوة وضراوة...
ربما كان الأداء التمثيلي من أكثر العناصر تميزاً في العرض المسرحية حيث تمكن المخرج ومجموعة العمل من تشكيل تسق أدائي قائم على التأرجح دائم بين قطبين أولهما: الانفعالات العنيفة والمضخمة القائمة على أوضاع جسدية بين السكون والأفراط في الحركة والتحولات الانفعالية المفاجئة والقومية ... أما ثاني تلك الأقطاب فهو الاقتراب من الأداء الواقعي وإن كان ذلك القطب الثاني للأداء في العرض يستخدم بشكل دائم لتذويب الحالة الغرائبية التي تسود العالم الدرامي سواء على مستوى النص أو على مستوي العرض... بالطبع فإن تلك الثنائية بين الوقعي والانفعالي القائم على المبالغة والأوضاع الجسدية المتصلبة أو المتشنجة كان أهم ما يميز أداء بطل العرض (رامي الطمباري) و(محمود الزيات) الذي قام بأداء أكثر من شخصية تتقارب في البنية .
في النهاية ربما كانت تلك اللحظة التي يبحث عنها العرض أو لحظة التنوير الداخلي التي يتخلص فيها البطل من ضغط العالم هي لحظة كانت لتبدو ملائمة للغاية في مسرح التسعينيات الذي كانت تسوده حالة البحث عن الخلاص الفردي في ظل تمدد اليأس الاجتماعي... ولكن في لحظة زمنية مغايرة مثل التي نحيا فيها ربما يصبح السؤال عن عودة تلك الحالة للمسرح المصري وأسبابها وهل هي مجرد خيارات فنية وشخصية للمخرج والكاتب أم أنها تؤشر على تحولات في الواقع الذي يفقد اليقين الجمعي يوماً بعد يوم ويغرق أعضاءه في سعيهم الذاتي للخلاص بعدما فشل الخيار الجمعي؟
إن ذلك السؤال ريما يكتسب قيمته إذا ما حددنا اعتماد العرض على أسطورة كرونوس الأب الذي يلتهم أبناءه والأبن الذي يقتل أباه بوصفهما أشارات مرجعية يتم العودة إليهما بشكل دائم ومستمر والإلحاح عليهما في سواء عبر لوحة جويا التي تحتل جانب كبير من خلفية خشبة المسرح أو عبر الحوار الذي يعيد تكرار العلاقة المشوهة بين الأبن والأب ، الأبن والأم ، الزوج والزوجة... الخ ..إن عملية الاستدعاء لذلك النمط من العلاقات الأوديبية وجريمة قتل الأب ربما يشير في مستوى ما إلى جانب نفسي يمكن متابعة أثاره عبر العرض من خلال الإكسسوار والعلاقة بين المرأة (الحبيبة/الشهوانية/ القاتلة) ... الخ . لكن ورغم كل ذلك فإن الرحلة ذاتها التي يتم التحلل فيها من تلك الجريمة أو العلاقة الأبوية عبر ربطها بالموت بالإضافة إلي الجملة الختامية التي تتحول إلى حديث للسماء ربما تؤجل ذلك الجانب الأوديبي الذي يطرحه العرض لصالح ربط العرض بوضع اجتماعي يدفع الفرد إلى المزيد من التحلل والبحث عن خلاص فردي.