العدد 957 صدر بتاريخ 29ديسمبر2025
1/تمهيد
فى عصر يشهد تحولات متسارعة، يصبح مسرح الثقافة الجماهيرية فى الأقاليم؛ خاصة نوادى المسرح؛ أكثر أهمية من أى وقت مضى لتعزيز الهوية. ولا يمكن بمكان النظر إلى مسرح الثقافة الجماهيرية ونوادى المسرح -على وجه الخصوص- كوسيلة للترفيه، بل ينبغى أن يُنظر إليها كمنصة للتعبير، التواصل، والتغيير الاجتماعى.
إن عروض نوادى المسرح تتيح للشباب فى أقاليم مصر فرصًا ثمينة لاستكشاف القضايا المعاصرة، وتقديم وجهات نظر متنوعة، وبناء جسور بين الثقافات.
وتختار هذه الدراسة نوادى المسرح موضوعًا لها(عددًا من عروض المهرجان الختامى لنوادى المسرح فى دورته الحادية والثلاثين)، باعتبار نوادى المسرح واحدةً من أهم روافد التجديد فى الحركة المسرحية المصرية الحديثة، وهى تقدم خطابًا مسرحيًا خاصًا عبر عروضها، إذ تحاول عروض نوادى المسرح أن تجمع بين تجديد التقنيات الفنية والجرأة فى التعبير.
لقد ظهرت نوادى المسرح للوجود بعروضها مع بداية تسعينات القرن الماضى، لتقدم للحركة المسرحية المصرية جيلًا جديدًا من المسرحيين الشباب، هذا الجيل لم يكن مزيجًا واحدًا، بل كانت مشاربه متنوعة، وتكويناته الفنية مختلفة، ولم تكن خبراته المسرحية عميقة أو أكاديمية، بل تكونت فى الأغلب من خلال التثقيف الذاتى.
ولم يكن هذا الجيل الجديد من شباب المسرحين متصلًا مع جيل سابق من الآباء والأساتذة، بل جاءوا ليعبروا عن أنفسهم ورؤاهم، ولم يكن همهم أو شاغلهم الأساسى تحرير العملية المسرحية من الركود الذى سيطر عليها طيلة ثمانينيات القرن العشرين حتى منتصف تسعينياته، ما أدى إلى ولادة عروض مسرحية متنوعة وثرية بالتجارب البصرية والفكرية.
هذا الجيل من الشباب ظل يتجدد باستمرار، وتتطور معه تجربة نوادى المسرح ببطء خلال الثلاثين العام التى استغرقتها تقريبًا. لقد نشأ أغلب شباب نوادى المسرح فى ظل ثقافة بصرية خلقتها السينما الهوليودية والتليفزيون، فجلبوا خبراتهم البصرية المبهمة - غير واضحة الأسلوب والتقنية - وثورة الاتصالات التكنولوجية التى ميزت بدايات القرن الحادى والعشرين إلى فضاء المسرح عبر رؤى متعددة لا يجمعها سياق جمالى يمكن تعيينه، ليقدموا عروضًا مسرحية تنشعل بأهدافهم الذاتية أكثر مما يمكن أن تنشغل بأهدافٍ جمالية، وإن كان الجمالى يتخلق عبر بعض التجارب التى صقل مبدعيها خبراتهم المسرحية وطوروا أساليب تعبيرهم عبر عروض نوادى المسرح.
ومع إخفاق ثورة يناير 2011م، والتخبط السياسى الدائر بعدها، ارتد عدد كبير من شباب نوادى المسرح إلى تقديم عروض تطرح ذواتهم وذوات المحيطين بهم والانغماس فى توهامات «الذات» وهذيانها، خاصة خلال الفترة (2013: 2015م). وهنا نتوقف مع استنكار (إيريكا فيشر-ليشته) حول التوفيق بين رفض البعض لمفهوم «الذات» المستقلة للفنان وبين سيطرة وسطوة المخرج على العرض المسرحى منذ ستينيات القرن العشرين(إيريكا فيشر-ليشته؛ 2012م؛ ص 289)، فهناك -لا يزال- من لا يعترف بسيطرة وسطوة المخرج المسرحى على عرضه، بل يرجع معانى العرض وما يطرحه إلى الثقافة وسطوتها أو إلى المؤلِف فى أحسن الأحوال، منكرًا ما للمخرج من سطوة على صياغة معانى عرضه المسرحى وأطروحاته.
من ناحية أخرى، يبقى هناك نقاش مستمر حول دور المخرج المسرحى وسيطرته على العرض. بينما يعتبر البعض أن المخرج يجب أن يكون له دور قيادى فى تشكيل معانى العرض المسرحى، يرى آخرون أن القوة الإبداعية يجب أن تكون مشتركة بين جميع المشاركين فى العمل الفنى. هذا النقاش يعكس الاختلاف بين التقاليد المسرحية القديمة والرؤى الجديدة التى جلبها الشباب معهم، كما يعكس جزءًا من التوتر الدائر بين حاملى الأفكار النظرية حول المسرح، وبين المنغمسين فى العمل المسرحى الشاق بكل التحديات التى يحملها له السياق الإنتاجى والاجتماعى الذى يحيط به.
إن العالم المتغير الذى تواجهه عروض نوادى المسرح ليس معطياته سياسية واقتصادية وإجتماعية وحسب، ولا يمكن أن تقتصر على التكنولوجى فى أفقٍ أوسع؛ بل يشمل أيضًا معطيات نقدية حديثة يقدمها جيل جديد من النقاد يستخدم بعضهم منهجيات وإستراتيجيات نقدية لم يألفها المسرحيون فى مصر عبر النقد المسرحى التطبيقى.
إذا كان هناك من يعتقد أن تجربة نوادى المسرح قد جاءت إلى الوجود ومعها نقادها، وأن هؤلاء النقاد يمثلون جزءًا أصيلًا من تجربتها فى الحياة المسرحية المصرية، فإن المنهجيات النقدية المعاصرة ستجد لنفسها موضع قدمٍ راسخة فيما هو قادم من تجربة نوادى المسرح. وستلفظ التجربة بالتدريج تلك الفئة من النقاد التى تعتمد على خبرة الممارسة الفنية وحدها فى مقارباتها النقدية، لتفسح المجال لذلك الجيل الجديد من النقاد الذى يتعامل مع النقد المسرحى باعتباره علمًا وقد يكون مدعومًا ببعض خبرة الممارسة الفنية.
2/1 الذات المرتهنة بالحاضر
فى فضاء المسرح يكون كل الوجود –تقريبًا- حاضرًا، وهذا «الحاضر» يتغير باستمرار بالانتقال من لحظة إلى أخرى، فلا وجود مستقل للماضى أو للمستقبل، بل هى لحظات فى الحاضر المسرحى الأبدى. وهذا «الحاضر» الآنى المعاش الذى يمكن تصوره باعتباره نصًا مركبًا مؤتلفًا من عناصر عديدة، لعل أهمها «التراث» الذى يحمله الماضى معه إلى «الحاضر». و«التراث» ليس كمًا واحدًا، بل هو ذاك المتعدد: ما بين اللغة التى يحملها المبدع فى وجدانه ويستخدمها فى تواصله وتعبيره، وما بين الثقافة التى تصوغ سلوك المبدع واختياراته ورهاناته الفنية، وكذلك التراث المسرحى السابق للتجربة المسرحية الإبداعية الحاضرة.
ولعل «الذات» المنتجة للعرض المسرحى تتعامل مع «التراث» كموضوع يتعين خارجها بثلاث طرائق؛ هي:
• تستخدم «التراث» كأداةٍ لتحقيق قيمها ورؤاها الجمالية بأن تفرض عليه ما تراه ممكنًا تسعى لتحقيقه عبر عملها الفنى، فتبقى مسافة بين منُتَجها الفنى وبين «التراث» المستخدم كأداة، غير أنها مسافة قريبة وحميمة.
• أن تستعين بالتراث ليكون هو موضوعها ومادتها، فيكون حضور هذا «التراث» بقيمه وما يمكن أن يحمله من جماليات تحاول «الذات» أن تطوعه مع سياقها العصرى، لكن اخلاصها يكون لهذا «التراث» الذى استعانت به، فتكاد أن تتلاشى المسافة بين العمل الفنى و«التراث» الذى أصبح هو ذاته موضوع عملها الفنى.
• أن تعارض «التراث» وتعامله بندية كأنه منافس ينافسها على مناطق نفوذها، أو تعامله باستعلاء فتجعله مادة للسخرية والاستهجان، فتصبح المسافة بعيدة بين قيمها وجمالياتها من جهة وبين «التراث» من جهة أخرى.
ربما يكون لبعض فلاسفة علم الجمال ومقولاتهم حول نظام الثنائيات دور كبير فى الفصل بين الفن و«الحاضر» (الواقع)، وبين «الذات» والموضوع. هذا الفصل سمح لبعض التيارات بالمغالاة فى تفسير الإبداع، مما جعل أشياء أخرى غير ذات المبدع تكون مسئولة عن إبداعه –من وجهة نظرها، سواء كان مؤلفًا أو مخرجًا. وكأن تلك الذات المبدعة ليست سوى ريشة تتلاعب بها الحمولات والأنساق الثقافية والأيديولوجية وغيرها، وكأنها بلا هوية، وليس لها مقدرةً على الاختيار.
وربما يمكن النظر إلى مسرحية «السحب» (423 ق.م.) لـ(أريستوفانيس) – على سبيل المثال - باعتبارها من أقدم النماذج المسرحية التى تطرح عبر مضمونها علاقة الذات المبدعة بواقعها (حاضرها) ومدى تقيدها بها، إذ تتضمن مسرحية «السحب» مقارنةً عميقة بين التقاليد الموروثة والأفكار الجديدة، وإن كان الظاهر على المسرحية تقديم النقد اللاذع لفساد العملية التعليمية فى أثينا فى ذلك الوقت (أريستوفانيس؛ 2011م، ص 275).
فقد اعتاد (أريستوفانيس) أن يتناول جزءًا من أجزاء الحياة الاجتماعية والسياسية المحيطة به والتى كانت تعتبر حاضره، فذات (أريستوفانيس) فى كل مسرحية من مسرحياته –تقريبًا- كانت منشغلة بتوضيح حالة محددة تشغلها، من حاضرها من خلال ما يُقدمه العرض المسرحى «هنا» و«الآن».
فى المسرح نكون دائمًا «هنا» و«الآن»، نعيش فى الآنية، وأن تعاقبت هذه الآنية بحكم تدفق الزمن فى مساره الطبيعى. لكن الذات المنتجة للعرض المسرحى يتفاوت تعلقها بـ«آنية» حاضرها المعاش (واقعها)، ويظهر هذا التفاوت من خلال كيفية الأهداف التى تعتنقها الذات المنتجة للعرض (المخرج)؛ فهناك «الذات» التى تهدف إلى توضيح حالة محددة تشغلها من حاضرها باعتبارها حالة واقعية تصوغ هذا «الحاضر» – كما فعل (أريستوفانيس) فى مسرحية «السحب» (423 ق.م.) وغيرها، وهناك «الذات» التى تهدف إلى تغيير الواقع وتحويله إلى نموذج ذهنى تسعى إليه، لكنها تحقق هذا التغيير من خلال فضاء المسرح –كما فى بعض مسرحيات (صلاح عبد الصبور)، وأخيرًا هناك «الذات» التى تهدف إلى أن تعمل كوعى ذاتى مثالى بذاتها لحاضرها حتى وإن قُدر لها أن تبقى منفصلة عن حاضرها منعزلة فى فضاء المسرح فقط.
هناك وسائل (عوامل) عديدة تساهم فى تعزيز هذا «الحاضر» المتصور بـ«الآنية»، وتجعل منه فخًا -أو حفرة- تسقط فيه «الذات» وتمنحه أبدية متوهمة. من هذه العوامل/الوسائل: الضغوط الاقتصادية التى تعيد كل شيء إلى «الحاضر»؛ «بأن يسند إلى الحدث سرعةً تجعل منه مكانًا للحضور: فالاستهلاك الاستعراضى يتحول إلى وهم التأمل – قويّ بقدر ما هو لا معنى له»(برنار نوبل؛ 2017م؛ ص 17)، كذلك التطورات التكنولوجية تصنع فجوة متوهمة مع الماضى وتزيح المستقبل بعيدًا، مما يجعل «الذات» تستغرق (تغوص) أكثر فى حاضرها. كذلك، التحولات الاجتماعية تجعل «الذات» تنغمس أكثر وأكثر فى تأمل «الحاضر»، وربما تحيل هذا «الحاضر» إلى لحظة راكدة تسقط «الذات» فى وهم آنيته المطلقة. الأمر ذاته يمكن أن تصنعه «المخدرات الإعلامية»(برنار نوبل؛ نفسه)، ومواقع «التباعد الاجتماعي» -السوشيال ميديا– من وهم حاضر «الآنية المقيمة» على صفحاتها.
تبقى اللغة (التى لا يتم تعلمها فى «الحاضر»، لكن يتم التعبير بواسطتها فى «الحاضر»)، والثقافة (التى لا يتم اكتسابها فى «الحاضر»، لكنها تظهر فى سلوكيات واختيارات الإنسان فى «الحاضر») كممثلين أبديين للماضى. وتتعلق الإمكانية وحدها بالمستقبل؛ لأن تحقق وجودها يحتاج إلى الانتقال من حيز التصور إلى حيز الوجود الخارجى (جميل صليبا؛ 1982م، ص136)؛ أى إمكانية الإنجاز؛ فـ«الحاضر ينجزُ الماضى» (جاستون بشلار؛ 1992م؛ ص 15)، وربما يمكن للمستقبل أن ينجزه «الحاضر»، فكل الأحداث المستقبلية يُحتمل أن تتأثر بما يحدث فى «الحاضر». وبهذا يظل «الحاضر» لحظة فاصلة ضرورية ومتوهمة لإدراك الحد الفاصل بين ما هو ماضى وبين ما هو مستقبل.
إننا لن نذهب لدراسة الزمن وفلسفاته، بل الذات المنتجة للمسرح (العرض)، فنتساءل: ما مدى تقيد «الذات» بحاضرها؟، ثم نتساءل: كيف ترى هذه «الذات» الماضى بتراثه؟ وهل لدى «الذات» تصورات تقدمها عن المستقبل؟
2/2 الذات وظلال التراث
يمثل «التراث» جزءًا كبيرًا من هوية الذات المنتجة للعرض المسرحى (المخرج)، و«التراث» ليس كمًا واحدًا، بل هو «(عناصر) الثقافة التى تتناقل من جيل إلى الآخر»(إيكه هولتكرانس؛ 1999م؛ ص 88)، و«التراث» ليس هو الثقافة، بل يمكن النظر إلى أن الثقافة بمفهومها الاجتماعى «ففى العلوم الاجتماعية، تعنى الثقافة كل ما هو موجود فى المجتمع الإنسانى، ويتم توارثه اجتماعيًا وليس بيولوجيا، بينما يميل الاستخدام الشائع للثقافة إلى الإشارة إلى الفنون والآداب» (جوردون مارشال؛ 2000م؛ ص 511و512)؛ فالثقافة إحدى مكوناته، فـ«التراث» كما يقول (زكى نجيب محمود): «هو كل ما يصنعه الإنسان، فالتراث كتب وفنون وغير ذلك. من هذا الجسم المكتوب الموروث الذى نقرؤه ونستخرج منه ما نستطيع بوجهات النظر، التى نريدها» (مراد عبد الرحمن؛ 1991م؛ ص16)، فمفهوم «التراث» هو: «مجموع النماذج الثقافية التى يتلقاها الفرد من موروث لغته وأصول مجتمعه فترة أثر أخرى»(أحمد زلط؛ 2001م؛ ص75)، وهذا «التراث» له العديد من الأشكال، والتى يمكن تمييزها فى أربعة رئيسية (إيكه هولتكرانس؛ ص90و91)؛ وهي:
• التراث الاجتماعى؛ هو ذاكرة الجماعة الحاملة للتراث.
• التراث التكوينى؛ وهو الذى يتم توارثه بين الأجيال.
• التراث المادى؛ وهو جميع المنتجات الثقافية المادية، واللغوية (الشفاهية)، والفنية (أغانى، ورقصات، وألعاب، وغيرها).
• التراث الأدبى؛ وهو التراث المرتبط بفنون الكتابة.
وتنظر الممارسة الإبداعية إلى «التراث» نفس نظرتنا له باعتباره ليس كمًا واحدًا، بل إن الممارسة الإبداعية ترفض التعامل مع «التراث» على أنه كم مهمل تجب القطيعة معه بكافة أشكالها. وعلى هذا الأساس؛ استدعى الناقد المعاصر تأثير «التراث» على «الذات»، لتكون الذات المبدعة (المخرج) -كثيرًا- فى حالة تنقيب واعٍ عن تراثها ضمن أكداس «التراث»، ويكون لها من بعد، أفق واضح تبلور منه رموزها الشخصية، وتبدع كذلك أساليب تسعى إلى استيعاب «التراث» فى الهيكل الإبداعى على اختلاف أشكاله، إما بالاستلهام أو بالتجاوز، فإذا كان بالاستلهام، وهى العملية التى سماها (زكى نجيب محمود) بعملية «الاستخراج من التراث»، والتى يحصرها العديد من النقاد فى عدة آليات؛ هي: «الاستلهام»، و«التوظيف»، و«الاستدعاء»، و«الاقتباس»؛ إلى غير ذلك من مصطلحات يضطربون فى تعاملهم معها، بينما يأتى مفهوم «التناص» كمفهوم جامع مانع فى تعامل الذات المبدعة مع تراثها، ويكاد يحصر «التراث» فى كونه مجرد أداة تُستخدم فى سياق الممارسة الإبداعية الحديثة.
ويجب أن ننتبه إلى بديهية؛ أن «التراث» من صناعة الماضى، وأن وجوده فى «الحاضر» هو شكل من أشكال الأثر الماضى الموجود فى «الحاضر»، وعلى قدر حضور «التراث» فى «الحاضر» يكون تأثير الماضى فى صياغة «الحاضر».