«عبور وانتصار» ملحمة شعب وجيش

«عبور وانتصار»   ملحمة شعب وجيش

العدد 957 صدر بتاريخ 29ديسمبر2025

لم يكن المسرح، فى أى مرحلة من تاريخه، مجرد وسيلة للترفيه أو إعادة تمثيل الوقائع، بل ظل أحد أهم الفضاءات التى تُعاد فيها صياغة الوعى الجمعى للشعوب، خصوصًا فى اللحظات المفصلية التى شكّلت وجدانها السياسى والاجتماعى. وتأتى حرب أكتوبر بوصفها واحدة من أكثر هذه اللحظات حضورًا فى الذاكرة المصرية، لا باعتبارها نصرًا عسكريًا فحسب، بل بوصفها نقطة تحوّل نفسية أنهت زمن الهزيمة وفتحت أفقًا جديدًا للأمل.
فى هذا السياق، يقدّم عرض «عبور وانتصار» معالجة مسرحية لا تنشغل بتوثيق الحدث التاريخى بقدر ما تنشغل بتفكيك أثره على الإنسان المصرى البسيط، وتوضح كيف عاش الشعب ما بين النكسة والعبور وكيف تشكّل وعيه بالحرب قبل أن تبدأ فعليًا على الجبهة.
ينطلق العرض معتمدًا على المزج بين الشعب والخطاب الوطنى، فى محاولة لإعادة قراءة حرب أكتوبر من زاوية اجتماعية وإنسانية، تجعل من المسرح وسيطًا للذاكرة لا مجرد ناقل للحدث. وينجح فى توظيف الحارة الشعبية كبطل صامت يعكس تنوّع مواقف المجتمع، بعيدًا عن اختزال الحرب فى مشهدها العسكرى فقط.
تبدأ الأحداث من الحارة المصرية التى صممها الفنان محمد هاشم، لتصبح نقطة الانطلاق الأساسية لكل ما سيأتى لاحقًا. فالحارة هنا لا تُقدَّم كديكور ثابت، بل كمساحة حية تمثل صورة مصغرة للمجتمع المصرى فى لحظة مليئة بالقلق والترقب. داخل هذا الفضاء الشعبى تتجاور مشاعر متناقضة؛ أمل لم يكتمل، وخوف من تكرار الهزيمة، وانتظار طويل لما يمكن أن تحمله الأيام المقبلة.
ومن داخل هذه الحارة، يكسر العرض الحاجز الرابع منذ لحظاته الأولى عبر شخصية المعلم جابر (صاحب القهوة) الذى يخاطب الجمهور مباشرة ويسألهم عمّا يفضلون شربه. هذا الاختيار الإخراجى لا يأتى بدافع الإضحاك فقط، بل ليقرّب الجمهور من الحدث، ويضعه داخل الجو العام للحارة، وكأنه واحد من المشاركين فى النقاش الدائر حول الجيش والحرب والمستقبل. وبهذا الأسلوب لا يبقى المتفرج بعيدًا يراقب تاريخًا مضى، بل يصبح جزءًا من الحالة الشعبية التى يناقشها العرض.
وتتحول الحارة، مع تطور الأحداث، إلى مرآة واضحة لحالة المجتمع بعد النكسة، ويؤكد هذا الفضاء الشعبى على فكرة أساسية فى العرض، وهى أن الحرب لم تكن شأنًا عسكريًا فقط، بل قضية عاشها الناس فى بيوتهم وشوارعهم ومقاهيهم. ومن هنا تمهّد الحارة للانتقال إلى مشاهد القيادات العسكرية، فى توازٍ يؤكد أن القرار العسكرى كان مرتبطًا بحالة الشارع، وأن ما جرى فى غرف القيادة كان انعكاسًا لما يدور فى وجدان الناس.
لا يتعامل العرض مع شخصياته باعتبارها نماذج فردية منفصلة، بل يقدّم كل شخصية بوصفها تعبيرًا عن موقف نفسى واجتماعى من فكرة الحرب وما يحيط بها من خوف وأمل وانتظار. وبهذا التشكيل، تتحول الشخصيات إلى أصوات مختلفة داخل الوعى الجمعى، تعكس حالة المجتمع المصرى فى الفترة الفاصلة بين النكسة والعبور.
تأتى شخصية عم إبراهيم فى مقدمة هذه الأصوات، بوصفها أكثر الشخصيات تعبيرًا عن جرح النكسة. فهو رجل مثقل بذاكرة الهزيمة، يفضّل الصمت والعزلة، وحين يتكلم يخرج كلامه عن إطار اليأس. تشاؤمه لا ينبع من ضعف وطنى، بل من تجربة قاسية عاشها بنفسه، وهو ما يتكشف لاحقًا فى لحظة اعترافه بمشاركته فى حرب 1967 وما صاحبها من أوامر انسحاب وفقدان للرفاق. تمثل هذه الشخصية ذاكرة جيل كامل، لا يزال يحمل آثار الهزيمة فى داخله، ويخشى تكرارها.
فى المقابل، تمثل شخصية حسين نموذجًا للوعى المتزن، الذى لا ينكر مرارة الماضى، لكنه لا يسمح لها بالسيطرة على رؤيته للمستقبل. يظهر حسين بوصفه صوت العقل والإيمان الهادئ بقوة الجيش، وهو الدور الذى ينعكس أيضًا فى علاقته بابن أخيه سمير، الطفل المندفع الذى يجسد حماس الجيل الأصغر وغضبه. فسمير لا يعرف الهزيمة، ويعبّر عن رغبته فى القتال والدفاع عن الجيش بعفوية وانفعال، ما يعكس تحوّلًا فى المزاج العام، وبداية تشكّل وعى جديد أكثر ثقة.
أما عن الجدة فهى تختصر بكلمات بسيطة معانى عميقة حول الأرض والدم والتضحية. حديثها إلى قائد الكتيبة عن غلاء التراب والدم لا يحمل خطابًا مباشرًا، بقدر ما يعكس فهمًا فطريًا لقيمة الوطن، ويمنح العرض بعدًا إنسانيًا.
أما ثنائية على ووردة، فتجسّد الحياة المؤجلة بسبب الحرب. فاستدعاءات الجيش المتكررة تؤجل زواجهما، وتجعل الفرح مشروطًا بعبور القناة والنصر. وفى إحدى المشاهد كان وجودهما فى قلب الحارة وسط الاستعراضات، يقدّم صورة عن شعب يحاول التمسك بالحياة رغم القلق.
بهذا التنوّع فى الشخصيات، ينجح العرض فى رسم خريطة نفسية للمجتمع المصرى فى تلك المرحلة، حيث لا يُقدَّم الصراع بين أبطال وأعداء فقط، بل بين مشاعر متباينة داخل البيت الواحد والحارة الواحدة، وهو ما يمنح العمل صدقه الإنسانى ويجعله أقرب إلى المتفرج.
لا يكتفى العرض بالبقاء داخل أزقة الحارة، بل ينتقل بنا المخرج محمد الخولى ببراعة إلى غرفة القرارات، حيث تدور رحى حرب من نوع آخر؛ حرب العقول والذكاء الاستراتيجى. يبرز العرض هنا جمالية التصميم المسرحى فى خلق مفارقة بصرية بين جبهتين: الجبهة المصرية التى يغلفها الهدوء المشوب بالحذر والإصرار، والجبهة الإسرائيلية التى يسكنها الغرور والاعتداد بالذات.
فى مشاهد القادة المصريين، نرى أنهم يخططون للحرب، وينسجون خيوط «الخداع الاستراتيجي» لإيهام العدو بأن الحرب مجرد احتمال بعيد. وفى المقابل، نتابع القادة الإسرائيليين، الذين يغرقون فى طمأنينة زائفة، مستندين إلى قوة النابالم وقناة السويس كحواجز لا تُقهر. هذه المفارقة بين الحذر المصرى والثقة المفرطة الإسرائيلى تُظهر التباين النفسى الاستراتيجى للطرفين قبل اندلاع الحرب الفعلية، وتعطى المشاهد إحساسًا حيًا بالتوتر المزدوج بين الشارع وغرف العمليات.
يُبرز الأداء التمثيلى براعة كبيرة فى تقمص شخصيات القادة الحقيقيين، ليس فقط فى الشكل والهيئة، بل فى استبطان الحالة الذهنية لكل منهم. فنرى المصريين كخلية نحل تعمل بصمت ودقة، تتبادل المعلومات وتخطط بحرفية، بينما يظهر الجانب الإسرائيلى بقوة وثقة مفرطة، ممثلا بالغطرسة والطمأنينة الزائفة التى سرعان ما تتفكك أمام التخطيط المصرى الذكى.
وفى تواز ذكى، يمتد التوتر من غرف العمليات ليصل إلى الحارة الشعبية، حيث تتفاعل حياة الناس اليومية مع تلك القرارات المصيرية. حيث يظهر أن الحرب تضحية بالدم والوقت والسعادة الشخصية، فى سبيل استعادة التراب الغالى.
بالإضافة إلى استخدام الاستعراضات والأغانى الوطنية لتعكس مشاعر الشعب وتوتر الحارة، وربطت بين الأحداث الشعبية والقرارات العسكرية، موضحة أن النصر لم يكن مجرد قوة سلاح، بل ثمرة التخطيط والصبر والتضحيات.
كما يوضح العرض أن الانتصار لم يكن حدثًا مفاجئًا، بل نتيجة تضافر جهد الاستراتيجية العسكرية مع القوة الداخلية للشعب، وهو ما يبرز فى اللحظات التى يتهيأ فيها المواطنون للمواجهة، بينما يظهر القادة وهم يحسبون خطوات العدو بعناية، ويحددون يوم الهجوم وفقًا لتوقيت دينى واستراتيجى يضمن عنصر المفاجأة. هذا الربط بين البعد الإنسانى اليومى والبعد العسكرى يضيف بعدًا دراميًا، ويجعل العرض تجربة شاملة تعكس عبقرية التفكير المصرى فى حرب أكتوبر.
فى النهاية ينتقل العرض من الفن إلى الواقع التسجيلى عبر شاشة العرض التى احتلت صدارة المشهد. هنا، يتداخل التاريخ الحى مع الدراما الممثلة؛ فنرى صور القادة الحقيقيين ونسمع صوت الرئيس السادات وهو يعلن نبأ الاقتحام والعبور. حيث انحلّت عقدة اليأس التى سكنت الحارة لسنوات. لقد كان مشهد ضحكة إبراهيم الصافية فى النهاية هى الإعلان الحقيقى عن النصر؛ فإذا كان القادة قد عبروا القناة، فإن إبراهيم قد عبر أخيراً نفق اليأس المظلم، ليعود إلى نسيج الوطن مرة أخرى.
ثم اختتمت المسرحية بعودة ياسين محملا بالنصر لجدته الصابرة، عودة على ليفى بوعده لوردة، ولقاء وردة بفستان زفافها المتفق عليه يمثل الذروة العاطفية للعرض، حيث تعلن الحياة أنها قد انتصرت على الموت. مشهد وردة بفستان الزفاف يمثل تتويجًا لكل معاناة الحارة والشعب المصرى. يتحول المسرح إلى مساحة تصالح مع الماضى، ويصبح الفرح الشخصى والانسجام الاجتماعى مكافأة على صبر الشعب وتضحياته. الفستان الأبيض يرمز إلى النقاء وبداية جديدة، والمشهد يوحى بأن الحارة كلها تحتفل باستعادة كرامتها. وجاءت الملابس الاستعراضية ببريقها الأزرق والذهبى، مع زغاريد فى الاستعراض الختامى وانتهاء العرض على اغنية «يا أحلى أسم فى الوجود».
وبهذا نجح المخرج محمد الخولى فى تقديم عرض متكامل العناصر، استطاع فيه أن يبرز أن الحرب لم تخضها الجيوش وحدها، بل شعب آمن بأن حق الشهيد لا يضيع. العرض يحقق توازنًا بين الجانب العسكرى والبعد الإنسانى الشعبى، مستخدمًا الأداء الحى وشاشة العرض لتقريب الأحداث التاريخية من المشاهد وإشعاره وكأنه يعيش لحظات الحرب.
استعراضات أشرف وائل أضافت طاقة وحركة للمشاهد، بينما اختيارات ألوان الملابس الأزرق والذهبى فى النهاية نقلت الجمهور من «غبار الحرب» إلى «بريق الانتصار». ضحكة عم إبراهيم ولقاء على ووردة بالفستان الأبيض تعكس انتقال الجمهور من القلق واليأس إلى الفرح، مؤكدة أن الانتصار الحقيقى لم يكن فقط على العدو، بل فى استعادة الحياة والأمل.
إن عرض «عبور وانتصار» كعمل مسرحى متوازن بين التاريخ والفن، بين الواقع الشعبى والقرار الاستراتيجى، وبين الألم والأمل، ليصبح نموذجًا ناجحًا فى نقل تجربة حرب أكتوبر بطريقة إنسانية ودرامية متكاملة.


نورهان ياسر