العدد 827 صدر بتاريخ 3يوليو2023
“الفن هو انعتاق ولحظة سكينة، هو تجاوز للإرادة نحو الرؤية، وتجاوز للرغبة نحو المتأمل” (1)
“لا إبداع بدون إرادة، وإن تلك الإرادة تشكل نفسها في أفكار شتى ينتج عنها الفنون المتفاوتة” (2)
شوبنهاور
“إن الفنان ليس إلا تجسيدا لقوى عليا وهو بذلك ناطق باسمها ووسيط لها، فالمرء يسمع ولا يبحث ويأخذ ولا يسأل من يعطي، والفكرة تومض كالبرق وتبدو كأنها لا مفر منها” (3)
نيتشة
-توطئة-
يستمد المبدع المادة الإبداعية من عالمه الخارجي، وهذا العالم الخارجي بدوره يكون ملهما له من خلال الطبيعة والأحداث الاجتماعية والسياسية والتاريخية، ويعتمد من خلال الخبرات المتراكمة وما تحفظه في الذهن من آثار، يصل إلى مرحلة الوعي بنفسه وبمن حوله وبدوره داخل حركة التاريخ ليقدم لنا عملا فنيا داخل إطار شكلي ليُعبّر منه عن مشاعره وأفكاره وفلسفته الخاصة التي كوّنها من كل ما سبق، ويمكن أن يكون مندرجا تحت فكر فلسفي خاص به أخرجه لنا داخل عمل فني ما... ونحن بصدد اثنين من الفلاسفة قدما لنا أفكارهما الفلسفية التي كان لها دور كبير في الإبداع، وقدما نظريات جمالية اهتما بها، وكان لها دور كبير في تفسير الجماليات داخل الأعمال الفنية على وجه العموم، وفي الشعر والكتابات المسرحية على وجه الخصوص. وقد كان لنيتشه دور كبير في فكر إبسن مما كان له أثر واضح في كتاباته المسرحية، وخاصة في المرحلة الأخيرة –المرحلة الروحية- من أعمال إبسن المسرحية. وبالضرورة، كانت لها تأثير كبير على كتابات برناردشو المسرحية الذي كان متأثرا بفكر إبسن وأسلوبه في أعماله المسرحية. «إن العلاقة بين الفن والميتافيزيقا قد ظهرت على مستويين: على مستوى الفن نفسه، وعلى مستوى فلسفة الفن. ومن الطبيعي أن يشعر الفنان أولا بالظاهرة، ثم يأتي الفيلسوف بعد ذلك ليعبر عنها ويقوم بتنظيرها» (4).
“إن العناصر الكلاسيكية والرومانسية في ميتافيزيقا شوبنهاور، قد امتزجت بلحن جديد آت من الشرق.
وكان شوبنهاور أول فيلسوف أوروبي مهم يتأثر بالفكر الهندي”... –باركر-
“إن ما يعرفه الإنسان – ليس شمسا ولا أرضا، ولكنه يعرف فقط عينا ترى شمسا ويدا تحس أرضا، وإن العالم الذي يحيط به إنما يوجد كتمثل فحسب، أعني أنه يوجد فقط بالنسبة لشيء آخر هو الوعي الذي يكون بمثابة الشخص نفسه.. ومعنى ذلك أن العالم هو ما يبدو لنا، وأن وجوده متوقف علينا؛ أي على الذات التي تقوم بإدراكه. فالوجود إدراك –كما قال باركلي- أي أن كل موجود أو موضوع يفترض دائما ذاتا تدركه، ومن ثم كان العالم من تمثل الذات... ولذا، فإن العالم (تمثل)... (العالم تمثلي)؛ بمعنى أنه كل ما يوجد كموضوع بالنسبة لذات، فإن معنى ذلك أن الذات هي الوعي أو الجزء العارف فينا.. والموضوع هو كل ما يتمثل للمعرفة أمام الوعي أو الذات – وأن كل الموضوعات الماثلة أمامنا –بما في ذلك أجسامنا تعتبر تمثلات– وهو رأي شوبنهاور” (5).
“عثر فريدريك نيتشه على كتاب (العالم إرادة وتمثل) لشوبنهاور.. وعبّر عن قراءته للكتاب بعبارات عديدة منها: كأن الكتاب مكتوب لي – ومهد له الكتاب أن يضع الأسس التي سيبني عليها أفكاره لأنه اعتبره مشروع حياة وكانت أولى ثمار ذلك كتابة (ولادة التراجيديا)”(6).
-إبسن بين سكون الروح أم حرية الاختيار (مخترع الدراما الحديثة)
“إن الضمير الفردي والمفاهيم الشخصية عن الحرية لا بد أن يكون لها الأولوية على متطلبات المجتمع”
-استطاع إبسن أن يضع القضايا الاجتماعية والسياسية فوق خشبة المسرح بأمانه وبلغة الحياة اليومية البسيطة، ولعل ذلك هو ما جعل كاتبا بحجم برناردشو، يعتبر مسرحياته أهم وأكثر قيمة من مسرحيات
شكسبير، فعندما ترك إبسن الشعر وبدأ الكتابة بلغة نثرية تقترب من اللغة الدارجة نأى بنفسه عن الأساطير... وعلى حد قوله: “إذا كنت أريد أن أصور شخصيات بشرية فلن أجعلها تنطق بلغة الآلهة”... كان من مميزاته أنه لا يقدم فقط شيئا جديدا وأصيلا في فنه باستمرار، ولكنه كان إلى جانب ذلك شديد الحساسية بالنسبة لمفاهيم غير مكتملة في عقول الآخرين.
كما يقول الناقد الدانمركي جورج براندز عنه: “كانت لديه أذن تصغي لتلك الدمدمة الخفيضة التي تنبئ بأفكار تتفاعل تحت الأرض”.. حيث كان لديه برنامج للتحرر الشخصي، ودعوة بأن لكل البشر فرصة لتحقيق الذات.. وفي المرحلة الثالثة من مراحل تطور إبسن المسرحي التي كانت المرحلة الختامية في حياته نزع إلى الروحانية حيث برزت مشكلات الفرد ككائن روحي” (7).
إن الشخصيات الإنسانية عند إبسن لها طعم مختلف، إنه العمق الدفين الذي لا نجرؤ على الإفصاح به أمام الجميع؛ بل حتى أمام أنفسنا، إنها العلاقات الروحية بين الشخوص التي تدفعنا للهروب منها لأننا لا نكون لدينا الشجاعة الكاملة للاحتفاظ بها.
“أهم حادث في حياة الإنسان هو اللحظة التي يبدأ فيها بإدراك ذاته وجوهره، ونتائج هذا الحادث قد تكون
جليلة خصبة، وقد تكون مريعة ضارة”. ومن هنا نتطرق إلى إرادة القوة عند نيتشه” حيث توجد حياة، توجد أيضا إرادة: إرادة قوة لا إرادة حياة.. ما الخير؟ _ كل ما يعلو، في الإنسان، بشعور القوة وإرادة القوة، والقوة نفسها. ما الشر؟ _ كل ما يصدر عن الضعف. ما السعادة؟ بأن القوة تنمو وتزيد.. إن معنى التطور أن يلبس المرء مئات الأرواح_، هذا هو قدر حياتك، وهذا ما قدر عليك... إن إرادة القوة تنزع نحو المقاومات، ونحو الألم وفي جوهر كل حياة عضوية إرادة ألم... وكلما كثرت المقاومة واشتدت الخصومة، زادت قيمة الحياة وأصبحت إرادة القوة أكبر ثروة وأعظم خصبا... هناك خلق لحالة من التوتر الدائم لأن الحياة السامية حياة تنشد الخطر وتلح في طلبه، وكأن إرادة القوة هي في الوقت نفسه هي “إرادة الخطر” ويقول نيتشه: “كي تجني من الوجود أسمى ما فيه، عِش في خطر!”... إن الحياة تحتوي على قوى لانهائية. ولذلك فهي تعلو على نفسها... والقوي هو الذي تتجه فيه كل القوى متوترة نحو غاية واحدة.. وتتحرك بذاتها مندفعة نحو تحقيق غايتها الصادرة عن ذاتها وجوهرها.... والقوي يحول الإغراء إلى طبيعته هو بأن يتمثله ويجعله جزءا من قدره...” (8).
ولكي نظهر تلك الفلسفة بشكل أعمق ينبغي أن نركز الضوء على بعض من نصوص إبسن وبالتحديد في المرحلة الثالثة من حياته الفكرية –المرحلة الروحية– التي كتب فها نصوصا تناقش هذه الفكرة بل وتطرق منها إلى مدى أوسع وأشمل، مستغلين تيمة واحدة وهي التطور الروحي والفكري للشخصية بمفهوم الإرادة والحرية والسوبرمان عند
نيتشه، وما المدى الذي تجاوزه إبسن انطلاقا من تلك الفكرة... من خلال النصوص المسرحية الآتية:
امرأة قادمه من البحر
سيد البنائين
عندما نبعث نحن الموتى
ففي نص «امرأة قادمة من البحر» لإبسن، نجد العلاقات بين الشخصيات في بداية المسرحية تكون هادئة من على السطح حيث الأحداث تبدو لدينا عائلة سعيدة حيث نجد (إليدا) متزوجة من (فانجل) وهو رجل لديه ابنتان من زوجة سابقة ويحيا الجميع معا في هدوء، ولكن حينما تختبرهم الحياة، وبوصولهم لدرجة من الوعي نجد أن تلك الحياة تحمل بركانا من النيران يجعلهم يدركون بوعيهم حقيقة أنفسهم التي ينشدونها والتي كانوا يخشونها ولا يجرأون على مواجهتها». تدور المسرحية حول شخصية سيدة أشبه بجنية البحر في ملبسها وفي ولعها بالبحر وفيما يعتري نفسيتها من موجات صاخبة وفترات من السكون الرهيب». (نلاحظ انفتاح الروح للشخصية حول التأمل والبحث عن ذاتها).. وتتعرف إليدا على بحار غريب قام بجولات بحرية طويلة ورست سفينته في بلدتها النرويجية الصغيرة، وكان حديثهما حول البحر والعواطف والليل، وكان يبدو البحر جزءا منهما وأنهما جزء منه، وفي صحبته تتلاشى إرادة إليدا -وهو الشيء المحير في النص- ويأخذ منها وعدا بالانتظار ويرحل، وتتزوج من الدكتور فانجل وتكتب للبحار مبينة عبث ما فعلاه. لكن في كل مرة يصر ويؤكد العزم على العودة إليها» (9). إن إبسن يشبه البحر في مسرحيته بالعقل حيث يوجد فيه المد والجزر وهما ما يقوم عليهما الفعل والحركة داخل النص، حيث إليدا التي تعيش في حيرة الاختيار والتردد وتظل في حالة المد والجزر بكل كيانها حتى يتم فعل الاختيار الحر كما يصوره إبسن، فالوعد عنده يتم بالاختيار الحر وهو قادر على -عودة النصف الآخر لها– الرجل الذى يكملها، ولكن كما دار على لسان حال إليدا:
(إن البحث عن ميولنا الأصيلة بمطلق الحرية والإرادة هو ما يدفعنا فجأة أن نغير اتجاهنا... حيث إن الرغبات الروحية لا تستطيع أن تقيدها). وهو تماما لب الموضوع عند نيتشه، حيث الإراده الحرة التي لا تقاس إلا بالافعال وتحديدا في لحظة الاختيار، وهي اللحظه التي يحررها زوجها من قيد الزواج، لتختار بحرية من تذهب معه، وبالرغم من ترددها وضعفها تجاه ذلك البحار فإنها حينما يطلق سراحها، تختار زوجها وحياتها وتواجه البحار-نفسها– بالقرار الذي يتجسد لنا بقوة فعل واثقة من اختيارها، وتقول: (عندما تتحول إلى مخلوق بري لا تجد طريقا للعودة للبحر أو لحياة البحر أيضا). وكان تحررها من قيد الزواج هو من ردها لحياة البر بإرادتها المطلقة، حيث إن الأفكار المادية تتغير وقت حرية الاختيار لتتحول إلى فعل حر مطلق. وتؤكد إليدا ذلك حينما تقول للبحار: (إنك رجل ميت حضر من البحر إلى الوطن، لن أفزع منك).
لقد عالج إبسن الحيرة والتردد والخوف النفسي للبطلة بالإعلاء النفسي والروحي الحر دون قيود لأفكارها فانطلقت بقوة السوبرمان نحو الفعل الحر للاختيار المطلق، وهو ما يقدمه لنا في جميع نصوصه المسرحية في تلك الفترة من كتاباته؛ بل كانت كتاباته السابقة لهذه الفترة تمهيدا لقوة الأفكار وانطلاقها بحرية لهذه المرحلة الروحية له. إن البحر في هذا النص رمز للحرية التي تنشدها البطلة، والأرض قيد وهي بينهما تتصارع مع روحها ممزقة مع الاختيار، والإجبار.. ومع فك قيودها –بقرار الزوج أن يحررها من قيد الزواج– تتحرر وتختار بالفعل المتحقق في الوجود -نلاحظ إبسن وتأثره بالعناصر الأربعة الموجودة في الفلسفات القديمة التي تأثر بها نيتشه أيضا، وهي: الماء، والنار، والتراب، والهواء، وقد استخدم الماء كعنصر مهم للحرية وأيضا استخدم النار في نص (سيد البنائين)، حيث نجد أنفسنا أمام نص مسرحي يعبر من أول وهلة عن فكرة السوبرمان لدى نيتشه، وهو يعبر عن القرن التاسع عشر الذي عاشه إبسن وتفهمه جيدا”. هو زمن العظمة، والرجل العظيم الذي هو يمتاز على الآخرين، الرجل الذي يصل عقله إلى مدى أوسع من عقولهم، أو يتسلل وجدانه إلى عمق لا يستطيع أن يصل إليه الرجل العادي. ويكون لديه القوة، والمقدرة على أن يصنع العمل الذي يعجز عنه الناس. وكثير من العظماء يدفعهم فرط الإحساس بعظمتهم إلى الإحساس بضآلة البشر... وتلك العظمة التي تلتهم حياة الآخرين، وتبتلعها دون بادرة ندم أو غصة ضمير، فكان بطل المسرحية (هالفارد سولنس) وهو تماما ما جاء في فلسفة نيتشة التي تؤمن بأن الخلق الذي يجدر بالرجل العادي هو الضعف واللين والتسامح، بينما القوة والاستعلاء والسيطرة هي فضائل الرجل العظيم. ويضيف نيتشه أنه لا ضير على العظيم إذا استلب حياة أو دمر بنيانا أو طغى على المجتمع لأن ذلك هو الثمن الحتمي لعظمته” (10).
وهنا استخدم إبسن عنصر النار حيث الرغبة الدفينة لسيد البنائين –هالفارد سولنس- أن يحترق منزله كاملا، ولكن ظلت تلك الرغبة في مخيلته فقط لم يسعَ إليها ولكنه سكت عنها –تستر على الشرخ الذي رآه يكبر يوما بعد يوم في مدخنة المدفأة الخالصة بالمنزل، حتى تحول لحريق كبير ابتلع المنزل وكانت نتيجة الحريق موت طفليه التوأم، وتسبب في انهيار نفسية زوجته وتباعده عنها يوما بعد يوم، ولكن كان هذا الحريق السبب الرئيسي في الانتصار العظيم ليصبح سيد البنائين. وكان هذا هو ثمن تحوله ليكون المعماري العظيم– وتحولت معه الشخصيات التي حوله لتدعمه فنجد كايا السكرتيرة التي تم توظيفها لاستكمال حياة هارلفارد ليكون البنّاء العظيم ولتحافظ له على -اللقب– وعلى فكرة السوبرمان داخله التي تنمو من تلقاء نفسها؛ بل وتتغذى على حياة الأشخاص التي تحيط به في النص المسرحي نجد هارلفارد يوظفها ليبقي على المهندس الذي يعمل عنده حتى لا يترك عمله ويتطور بعيدا عنه؛ بل أيضا يعلق قلبها بحبه ويقنعها أن تقبل خطبة المهندس، ودون مراعاة لمشاعر تلك الفتاة مطلقا، تحت مبرر أنه يدير حياته بما هو ينبغي عليه أن يحدث كعظيم من خلال بعض التضحية من المحطين به. وهذا الموقف يذكرنا بما فعله مع زوجته حينما تسبب بشكل أو بآخر في فقدانها لتوأمها وحولها لامرأة مطيعة، صمتاء، تستجيب لأفعاله، خاصه بعد موت طفليها التوأم بعد الحريق، فتحولت بعد الحادث إلى إنسان بلا روح يتفاعل مع الحياة كالأموات تماما كما يريد. ولكن مع ظهور هيلدا تتغير الأحوال، تلك القادمة إليه من بلدتها لتجعل هارلفارد ينفذ وعده الذي قطعه لها منذ عدة أعوام وهي طفلة صغيرة –وكان الوعد عندما رآها ضمها بين ذراعيه وهمس إليها أنه بعد عشرة أعوام سيأتي إليها ليأخذها إلى قلعتها التي بناها لها كأميرة– ولما تأخر عنها في المجئ أتت هي إليه لتذكره بوعده لينفذه لها. إن الوعد عند إبسن دائما متميز في كتاباته، وكذلك عند نيتشه، وهو مرتبط بفكرة السوبرمان، حيث يهدف إلى السمو والارتقاء، حيث التحقق بالفعل نحو الإنسان الأعلى، المكتمل بالحرية والإرادة المطلقة عند الاختيار الحر. وهو تماما ما نفذه لها هارلفارد بأدق تفاصيله، فصعد على أعلى قمة في البرج لتلك القلعة التي وعدها بها ولوح إلى الجميع تماما كما فعل في شبابه وفي أول لحظة رأته فيها (هيلدا)، “إنه البناء العظيم الذي يقف على أعلى قمة.. ضخما كالحياة، ليغني في الهواء...” (11) كما تصورته هيلدا، مع أنه كان يخاطب الإله على حد تصريحه لها في نهاية النص المسرحي، إنه حلم هيلدا التي أرادت بإرادتها الحرة أن تحققه وأن تكون أميرة ويعطيها مملكة، ولهذا جاءت له، وفي حقيقة الأمر إنها أتت من بعيد لتخبر روح هارلفارد أنها وهو متشابهان وهو تماما ما أخبرها به هارلفارد، وكأن لقاؤهما ليتحققا بالوجود الفعلي وليكملا بعضهما البعض، فنجدها تحلم بسقوطها من أعلى البرج وتخبره بحلمها لتحفزه نفسيا بالإقدام على هذا الفعل من أجل تحقيق رغبتها هي في حقيقة الأمر.
إن الإنسان الأعلى –كما جسده هارلفارد- عند إبسن، تتحقق له كل الرغبات الكونية ليتم دعمه من قوى غيبية، ليصير إنسانا قويا سواء بالفعل، أو بمجرد بالتفكير في أمر ما، فيتجسد في الوجود، وهو ما حدث بالفعل مع هارلفارد حينما أراد الحريق وتمناه، وهو بالخارج مع زوجته وطفليه التوأم.. وكذلك ما أداره بالفعل في محيط تعاملاته مع الآخرين، وكذلك هيلدا ظهرت له نتيجة زيارته لها في الماضي، لتأتي له في المستقبل، ليحقق أمنيته الأخيرة وهي أن يخلد بموته ويحقق معنى السمو الارتفاع -سوبرمان نيتشه– وعلى حد قوله لهيلدا: “أنت أيضا مثلي، لأن هذا المارد في النفس كما ترين، هو الذي يستدعي القوى الخارجية... يناديها وعندئذ فعليك أن ترضخي سواء أأردت ذلك أم لم تريديه”(12)، إن ذلك المارد هو ما دفع هارلفارد إلى أن يصعد لقمة القلعة ليخلد، وهو ما دفع بهيلدا لتقنعه بالصعود لاكتمالهما معا وأنهما سيبنيان قلاعا في الهواء، وأنه أعظم بناء، وأن ذلك أجمل ما في الوجود.
وهو نفسه ما حدث في النص المسرحي لإبسن “عندما نبعث نحن الموتى” التي تتجسد فيه نفس الفكرة، ولكن بالقوة الروحية التي ظهرت من جديد لتبث الروح لدى المثال روبك حيث اشتهر بسبب تمثاله الأعظم (يوم البعث) وكان هذا التمثال يجسد حبيبته إيرين التي تركها بمجرد انتهائه من التمثال الذي كان السبب في شهرته وأسماه (يوم البعث) وأسمته هي (طفلهما)، لأنها كانت تهوى روبك وكان وقتها لا يعيش إلا لفنه، ولا يعبد فيها إلا تمثاله وعمله، حتى اشتهر وأصبح في النور وصارت هي حبيسة الظلام، هائمة على وجهها يحتل قلبها لعنة الحب ويسميها روبك الفن. وتحولت بعدها لجسد بلا روح وأغلقت قلبها رافضة أن تهبه لأي أحد آخر؛ بل ظلت تنتقل من علاقات متعددة بجسدها فقط، حيث تركت روحها عند روبك. الذي صار مثالا عظيما بسببها حيث تحولت لديه لعمل فني متمثلة في صورة امرأة شابة تستيقظ من رقدة الموت، إنهما التقيا صدفة وهو مع زوجته مايا الأصغر منه وتتسم بكل سمات الحياة الأرضية الضحلة المسطحة حيث تلهث وراء مستر أولفهايم –صائد للدببة وللنساء أيضا- إن روبك تخلى عن حبه لأنه أراد تحقيق القوة في ذلك العمل الفني حينما جسد امرأة طاهرة تخيلها تستيقظ يوم البعث لا يثير عجبها أي جديد أو غير مقدس، المرأة التي يملؤها الفرح السماوي، هي نفسها المرأة الأرضية، ولكن في عالم أرفع وأسعد وأكثر حرية. إنه سما بحبه ليحقق بالفعل الحر ذلك العمل الفني الخالد. وحينما التقيا بعد سنوات دار الحديث عن أسبابه التي دمرت حياتها بتخليه عنها، ولم يكتفِ؛ بل تزوج بأخرى وتحول هو أيضا لجسد بلا روح، ولم يكتفِ؛ بل ترك زوجته لصائد الدببة ليتسلق معها الجبال وتتنزه معه، وصارحها بحبه لإيرين وأنه ينوي أن يصطحبها معه في منزلهما لتقيم معهما... وفي المشهد الأخير يقرر هو وإيرين أن يصعدا الجبل ولم ينزلا منه ليحققا الاكتمال الروحي والأبدي، وبالفعل يموتا معا ليظلا مخلدين في سمو وارتفاع، بينما تهبط زوجته مع رفيقها الأبدي صائد الدببة من أعلى لأسفل لينجوا بحياتهما، إن ذلك التضاد للأربع شخصيات هو دعم لموقف الإنسان الأعلى عند إبسن الذي يضحي بالحياة العادية مقابل الخلود الروحي، وهو ما حققه لنا فكر إبسن في تلك المرحلة الروحية الثالثة من كتاباته المسرحية.
المراجع
إ. نوكس – النظريات الجمالية: كانط – هيجل – شوبنهاور - ترجمة د. محمد شفيق شيا – نشورات بحسون الثقافية. بيروت – لبنان – الطبعه الأولى -1985.
جان برتليمى – بحث فى علم الجمال – ترجمة أنور عبدالعزيز – تقديم سعيد توفيق – المركز القومي للترجمة 2011.
بحث في علم الجمال - المرجع السابق.
سعيد محمد توفيق - ميتافيزيقا الفن عند شوبنهاور - دار التنوير للطباعة والنشر- بيروت – لبنان -1983.
ميتافزيقا الفن عند شوبنهاور - المرجع السابق.
فردريك نيتشه - شوبنهاور مربيا – ترجمة قحطان جاسم - منشورات الاختلاف – الجزائر – 2016.
هنريك إبسن - مختارات من هنريك إبسن (المجلد الأول) تقديم سمير سرحان - المشروع القومي للترجمة 2006.
عبدالرحمن بدوي - خلاصة الفكر الأوروبي سلسلة الفلاسفة نيتشة - وكالة المطبوعات - الطبعة الخامسة 1975.
هنريك إبسن – مختارات من هنريك إبسن (المجلد الثاني) تقديم عبدالله عبدالحافظ – المشروع القومي للترجمة – المجلس الأعلى للثقافة - القاهرة 2006.
10 - مختارات من مسرح هنريك إبسن - ترجمة صلاح عبدالصبور (المجلد الثالث) المرجع السابق.
11 – مختارات من مسرح إبسن – (المجلد الثالث) المرجع السابق.
12 – المرجع السابق.