العدد 954 صدر بتاريخ 8ديسمبر2025
إذا تعاملنا مع المسرح من منظور سيميوطيقى، فلا بد أن نتفق مع اللغويين فى براغ القائلين بأن «كل ما على خشبة المسرح هو علامة»(1)، وأن أى شيء يُوضع عمدًا لأغراض فنية يصبح علامة عندما يدخل مكانًا وزمانًا ايهاميين. أى أنه يصبح حدثًا فى ايهام قائم بذاته خارج عالم الممارسة الاجتماعية، ولكنه يشير إليه مفهوميًا بطريقة ما، ولو من خلال كون الايهام يدور حول بشر افتراضيين. وما دام هناك تظاهر، أو تمثيل، فهناك تظاهر بشيء ما، وهذا يُشكل جسرًا بين خشبة المسرح ونظيره الخيالى من العالم، أو، إن شئت، بين العلامة ودلالاتها المختلفة.(2)
ومع ذلك، إذا تطرقنا إلى المسرح من منظور فينومينولوجى، فثمة المزيد مما يُقال. فمن بين اعتبارات أخرى، ثمة شعورٌ بأن العلامات، أو أنواعًا معينة من العلامات، أو علامات فى مرحلة معينة من دورة حياتها، تحقق حيويتها - وبالتالى حيوية المسرح - ليس بمجرد إشارتها إلى العالم، بل بانتمائها إليه. بعبارة أخرى، لا تُستنفد قوة العلامة - أو كما سأشير إليها هنا، الصورة - بالضرورة سواءً بطابعها الايهامى أو المرجعى. قد يكون هذا واضحًا بما يكفى فى حد ذاته، لكن بعض مضامين الفكرة تبدو مهمة بما يكفى لتتجاوز المفهوم السيميوطيقى القائل بأن هذه الصور مجرد علامات ذات درجة عالية من «الهوية الأيقونية».(3) ولكن بغض النظر عن السيميوطيقا، فإننا نميل عمومًا إلى التقليل من أهمية الحقيقة الأولية المتمثلة فى أن المسرح - على عكس الخيال والرسم والنحت والسينما - هو فى الحقيقة لغة تتكون كلماتها بدرجة غير عادية من أشياء تبدو كما هى. ففى المسرح، تتقارب الصورة والموضوع، والتظاهر والمتظاهر، والعلامة-الوسيلة والمحتوى، على نحو غير معتاد. أو، كما يقول بيتر هاندكه، على نحو أكثر إثارة للاهتمام، فى المسرح، فالضوء سطوع يتظاهر بأنه سطوع آخر، والكرسى كرسى يتظاهر بأنه كرسى آخر، وهكذا.(4) وبصراحة، فى المسرح، هناك دائمًا احتمال أن يُنتج فعل الجمع بين ما يُسمى علامتين حملًا حقيقيًا.
الأمر، بطبيعة الحال، يتعلق بمنظور. ومن المشروع تمامًا، أن يفقد عالم السيميوطيقا اهتمامه، ما دام الشيء لا يُعدّ دلالة، وما تفعله الأشياء فى أوقات فراغها شأنٌ خاصٌّ به (أو شأنٌ خاصٌّ بغيره). ومن المشروع تمامًا، أن يُخضع الفينومينولوجى، فى سعيه وراء «جوهر» الأشياء، وظيفتها الدلالية - إلى جانب جميع الوظائف الأخرى الممكنة - لطبيعتها الفينومينولوجية كأشياء فى العالم الواقعى.(5) وبالطبع، قد يتجاهل الناقد الأدبى هذين الشاغلين برضا تام فى بحثه عن موضوع أو أسلوب أو دلالة أى مجموعة من الصور الفنية. فالجميع، كما هو الحال، عمالٌ فى الحقل نفسه يحصدون أنواعًا مختلفة من المحاصيل.
ولإثبات وجهة نظرى الخاصة، سيكون من المفيد أن أبدأ بتعريف معروف للفن وضعه فيكتور شكلوفسكى، والذى سيشكل نقطة انطلاق لكثير مما سأقوله فى هذا الفصل:
وُجد الفن ليُعيد المرء إحساسه بالحياة؛ إنه موجود ليجعل المرء يشعر بالأشياء، ليجعل الحجر حجريًا. الغرض من الفن هو نقل الإحساس بالأشياء كما تُدرك لا كما تُعرف. أسلوب الفن هو جعل الأشياء «غير مألوفة»، وجعل الأشكال صعبة، وزيادة صعوبة الإدراك وطول مدته، لأن عملية الإدراك غاية جمالية فى حد ذاتها ويجب أن تُطول. الفن هو وسيلة لاختبار براعة الشيء؛ الشيء ليس مهمًا.(6)
ينشأ هذا المفهوم للفن من الموقف الفينومينولوجى، أو على الأقل يميل إليه،. فهنا، يُنظر إلى الفن كفعل إزالة للأشياء من عالمٍ أصبحت فيه غير ظاهرة، ثم رؤيتها من جديد. وربما يكون من الأفضل قول «رؤيتها كما كانت من قبل»، لأن الافتراض الكامن وراء نظرية شكلوفسكى هو أننا نبتعد، إدراكيًا، عن محتويات الواقع (فالعادة المميت الكبير)، وأن الفن وسيلة لإعادتنا عبر طريق «غير المألوف». هذا على الأقل ما يشترك فيه الفن مع الاختزال الفينومينولوجي: إذا كان الفن وسيلةً لمنح العالم معنىً، فهو أيضًا وسيلةٌ للسماح للعالم بالتعبير عن نفسه. إذا كانت أشياء الواقع المصورة فى الفن تحمل معها بعض معانيها الدنيوية - ولا أحد ينكر ذلك - فإنها تُرى الآن، من خلال خدعة منظورية، وكأنها كانت مخفية جزئيًا طوال الوقت بسبب المعانى. فالمعانى، بدلًا من أن تسبق الأشياء (كما تسبق النظارات الرؤية)، تتبعها الآن، كذيول المذنبات. فيبرز الموضوع، كما فى جذوع وأغصان أشجار الزيتون عند فان جوخ، ونختبر «النهضة غير المحفزة للعالم».(7) وكما يقول الفينومينولوجى، يصبح الموضوع «منحىً لذاته»، و»لا يمكن لشيء أن يكون معطى من الذات self-given إلا إذا لم يعد يُعطى من خلال أى نوع من الرمز فحسب؛ بعبارة أخرى، فقط إذا لم يكن «مقصودًا» بأنه مجرد «تحقيق» لعلامة مُعرّفة مسبقًا بطريقة أو بأخرى. بهذا المعنى، تُعدّ الفلسفة الفينومينولوجيا نزعا مستمرًا للرمزية عن العالم».(8)
إذا عدنا الآن إلى فكرة شكلوفسكى القائلة بأن الفن ينقل «الإحساس بالأشياء كما تُدرَك لا كما تُعرَف»، فسنرى كيف يختلف الموقف الفينومينولوجى عن السيميوطيقى فى نتاجه الوصفى. وهنا أساسٌ محتملٌ للتمييز بين الصورة والعلامة. فلنتفق على أنه يمكن القول إن أيًّا من المصطلحين ينطوى على الآخر، وأنه يمكن تعريف أيٍّ منهما بطرقٍ عديدة، كما نرى فى الانتقال من نظريات العلامة البسيطة نسبيًا (سارتر، رودولف أرنهايم، المعجم) إلى نظرياتٍ شديدة التعقيد (بيرس، هوسرل، دريدا). على أى حال، فإن مصطلح «العلامة» هو، فى حد ذاته، دلالة على الموقف السيميوطيقى، وهو جدلى بامتياز (أو، فى حالة بيرس، ثلاثي): إذ تتكرر إلحاحية المرجعية لكلمة «العلامة» فى مصطلحاتها الفرعية أو المترابطة - الدال والمدلول - حيث يشكل أحدهما دائمًا خلفية فهم الآخر. إن الحديث عن الدال هو بالفعل بداية للثرثرة حول مدلول، والعودة إلى مكان آخر ذى معنى قابل للتخصيص. وباعتمادى مصطلح «الصورة» الأكثر جمالية - كأى شبه أو تمثيل، مصنوع من مواد الوسيط (الإيماءة، اللغة، الديكور، الصوت، الضوء)(9) - لا أتوهم أننى أحرر نفسى من المشكلة الديالكتيكية، ولا أنكر أن الصورة تدل (فهى صورة لشيء ما) أو تجر وراءها، بمصطلح بيرس، «دلالة لا نهائية»؛ فأنا أحاول فقط اختصار عملية الدلالة والتركيز على الاستجابة التعاطفية. ففى الصورة، قد يقول قائل: نبتلع العملية السيميوطيقية برمتها، فيصاب الخيال بداءه. إن الداء هو ما يهم الفينومينولوجى، وليس الجرثومة المسببة له أو مراحل تطوره.(10)
الهوامش
1- يورى فيلتروسكى، «الإنسان والشيء فى المسرح»، فى كتاب «مقرر مدرسة براغ فى الجماليات والبنية الأدبية والأسلوب»، تحرير بول ل. غارفين (واشنطن: مطبعة جامعة جورج تاون، 1964)، ص 84.
2- بمصطلحات سوسورية بحتة، يُعدّ الدال والمدلول جانبين لا ينفصلان عن العلامة. ومع ذلك، اهتم بعض البنيويين الأوائل فى براغ بالعلاقة المرجعية بين اللغة والعالم أكثر مما يُعتقد عمومًا، وكان عملهم، إلى حد ما، مستوحى من الظاهراتية. (انظر، على سبيل المثال، ملاحظات فيلتروسكى التمهيدية لكتاب الدراما كأدب (ليس: دار نشر بيتر دى ريدر، 1977)، حيث يوضح أن الدراسات المنشورة فى ظل الاحتلال النازى لم تستطع الاعتراف بالفضل لهوسرل وإنغاردن، من بين آخرين). وهذا هو الحال أيضًا، كما سيرى القارئ، مع عالم سيميائى يُفترض أنه سوسورى مثل رولان بارت. فى هذه الدراسة، أنا أقل اهتمامًا بالتكوين اللغوى للعلامة من اهتمامى بعلاقة العلامة (أو الصورة) وما يسميه بيرس المرجع، أو الواقع الذى تدل عليه العلامة.
3- كير إيلام، سيميائية المسرح والدراما (لندن: (ميثوين وشركاه، 1980)، ص 22.
4- Peter Handke, Kaspar and Other Plays, trans. Michael Roloff
(New York: Farrar, Straus and Giroux, 1969), p. 10.
5- أستخدمُ صفة «phenomenal» طوال الوقت بمعنى الظواهر أو تجربتنا الحسية مع الأشياء التجريبية. أما صفة «فينومينولوجي»، فتشير بالطبع إلى المشكلة التحليلية أو الوصفية المتعلقة بالتعامل مع هذه الظواهر.
6- فيكتور شكلوفسكى، «الفن كتقنية»، فى النقد الشكلى الروسي: أربع مقالات، ترجمة لى ت. ليمون وماريون ج. ريس (لينكولن: مطبعة جامعة نبراسكا، 1965)، ص 12.تجدر الإشارة إلى أن شكلوفسكى (كما قد توحى الجملة الأخيرة فى الاقتباس) لا يرى فى البراعة غايةً فى حد ذاتها، بل وسيلةً لإعادة اكتشاف الشيء فى تفرده. ويكاد يكون جوهر فكرته متبادلاً مع مفهوم هايدغر (الذى طُوّر بعد شكلوفسكي) عن «تأسيس الحقيقة» فى العمل الفنى. على سبيل المثال: «إنّ ترسيخ الحقيقة يُبرز ما هو غير مألوف وغير عادى، وفى الوقت نفسه يُسقط ما هو عادى وما نعتقد أنه كذلك. الحقيقة التى تُكشف فى العمل لا يُمكن إثباتها أو استخلاصها مما سبق. ما سبق يُدحض فى واقعيته الحصرية من خلال العمل. وبالتالى، لا يُمكن تعويض ما يُؤسسه الفن أو تعويضه بما هو موجود ومتاح بالفعل. التأسيس فيض، وهبة، وعطاء» («أصل العمل الفني»، فى الشعر واللغة والحقيقة، ترجمة ألبرت هوفستاتر [نيويورك: هاربر ورو، 1975]، ص 75).
7- موريس ميرلوبونتى، ظاهراتية الإدراك، ترجمة كولين سميث (نيويورك: دار نشر هيومانيتيز، 1970)، ص 14.
8- Max Scheler, Selected Philosophical Essays, trans. David R. Lach-
terman (Evanston, 111.: Northwestern University Press, 1973), p. 143.
9- للتيسير، أستبعد هنا المعنى الصحيح لكلمة «صورة» باعتبارها الصورة التى تُلقيها أى مادة على شبكية العين، سواءً فى الفن أو خارجه. وبهذا المعنى، بالطبع، تُطبق كلمة «صورة» عالميًا على أى شيء يراه المرء.
10 - بول ريكور: «يمكن تقديم الفينومينولوجيا كنظرية معممة للغة. فاللغة لم تعد نشاطًا، أو وظيفة، أو عملية من بين أمور أخرى: بل أصبحت متماهية مع البيئة الدلالية بأكملها، مع مجموعة العلامات التى تُلقى كشبكة على مجال إدراكنا، وفعلنا، وحياتنا» (صراع التفسيرات، تحرير دون إيده [إيفانستون، 111: مطبعة جامعة نورث وسترن، 1974]، ص 247).