العدد 704 صدر بتاريخ 22فبراير2021
في البدايه كانت الحركه... والحركه أصبحت رقص وبحكم انها كان لها دلالات معينه على شئ تعبيري يخرج من الجسم ليعطي إشارات لغويه قبل ان تتحول الحركه الي كلمه .
الطبيعه هي حركه دائمه منذ البدايه، تولد وتموت مع الفصول الأربعه ،فعبدها الأنسان لانها تموت وتحيا مثله، ولأنه يعود الي ترابها في النهايه، ونظر إلي السماء وخاف من الشمس والقمر والنجوم والعواصف والبحار والحيوانات وخاف من الموت أيضا، فعبدهم بل رقص لهم خوفاً ووقاراً وحباً ،وأصبح عنده رموز خاصه لجسده ... رموزاً هي أيضا بحد زاتها تحولت الي لغه جسديه بدائيه ، لم تتطور إلا عندما دخل الإيقاع ... الإيقاع الذي ظهر قبل الموسيقي .
إذا وجدت الحركه قبل اللغه ووجد الإيقاع قبل الموسيقي – فأتي الأنسان ووجد النغم ثم النوط الموسيقية وأصبحت ما نسميه لحناً ... ومن هنا رقص الأنسان على إيقاع الموسيقي، فولد من خلالهما التعبير والشعور والإحساس ومنهما آتي “المعني” الذي أصبح فن بحد ذاته فولدت الدلالات والإشارات ودخل في ترجمه الحياة وانتقل من الرقص التعيبري الي طاقه سماها الفن .
القرن العشرين كان بداية كل شئ وبنهايته انتهي كل شئ .أتت إزادورا دنكن في بدايتها وعبرت بجسدها البحر والطبيعه والنسيم والأشجار، ثم دخلت مرحلة التعبير الجسدي للفن الإغريقي وذهبت الي ترجمة الثوره البولشوفيه عند زيارتها الي روسيا، وبدخول التشارلستون ماتت إزادورا دنكن ولكن لم تمت ايدولجياتها، فاتت من بعدها في امريكا أيضا مارتاجراهام حيث لم تتأخر في متابعه خطاها في دخول الميتولجيات اليونانيه ، وهنا ولدت السيمولوجيه وعندها ظهرت الحركه المنظمه بتقنيه الجسم الخاص بها. هنا نأخذ تفسيراً فنياً يعبر مباشره إلي لغة جسد حرفي يتطوع تحت إشراف الموسيقي مباشرة، مشفره كالكتابه الهيروجرافيه الفرعونيه بدلالاتها وإشاراتها فلم تكن الهيروجرافيه لغه بقدر ما هي رموز مفككه هندسيه طارةً ورسومات مبهمه اخري وليست هي بأحرف وليست هي بدلالات حركيه وإنما هي إيقاع لغوي منظم لا يمكن ترجمته قبل أكتشاف حجر رشيد .
في العصر الحديث الان ومن إزادورا دنكن الي مارتاجراهم لغاية موريس بيجار وبينابوشي لا تزال الدلالات والإشارات في عصرنا تنبع من المعني وليس من الحركه ... بالنسبه لي الفن الحركي بدأ في ومع الحرفيين الأصليين ، فترجمت الجسم عندهم كانت واضحه لمعني واضح! وبعدها بسنين طويله آتي الفنانون فقتلوا الحرفيين وطوروا المعني وجزؤه الي عدة مدارس، فضاعت قيمته الحرفيه، فولد “الرقص الحر” بعيداً عن المعني، ولكنه أعطي الأولويه الي الانفتاح الفني للحركه فقط ، فاختفت هذه الدلالات وحل مكانها “الرسائل” مع تغيير الأجيال السريع باتت “الرسائل” هذه تحتوي على مضمون عام وشامل و متفرع حتي وصل الي تفسير الفراغ والصمت ، وهكذا “الرسائل» تحولت في عصرنا الي رموز ... نعم الرمزيه أصبحت ملك المتلقي وليست فقط ملك المصمم .
التراث ترك لنا أصول القواعد في التلقي المباشر في التعبير للفنون المسرحيه القديمه، ففي الرقص الكاتاكالي في الهند القديمه حيث أداء العيون والايدي والاقدام هما اشارات مباشره (حتي انهم يعطوننا في ورقه تفسر كل حركه للعين او اتجاه الاصابع والايدي وخطوات الاقدام ) (كاللغه الهيروغليفيه) حتي في مسرح “النو” أو “الكابوكي» الياباني كم في الرموز يجب دراستها لنفهمها ... ففي مسرح “نو” هناك ايقاع للبطء اللذي لا ينتهي ويخرجون اصواتا كامنه من الحنجره طبقه رفيعه ليس لها بدايه ولا نهايه، فينكسر الصوت ... ففي احدي زياراتي الي فيتنام و كومبودجيا للتأمل حيث الصمت والصلاة هما إيقاع كان عندي “معلمي الصامت” فالصمت هو فن وروح .
اخبرت “معلمي” البالغ من العمر 20 عاماً عن الصوفي وحركه الدوران وعن قانون رقصة الدراويش وما كتبه الرومي عن تفسير اليد والرجل والرأس عند جسم الدراويش ... فهو يعطي إشاره في البدايه من اليدان الي الصدر مرورا بالوجه وتصعد اليادان الي فوق، الي السماء الي فتحة في الفضاء لكي تهدي جسدك وروحك الي الخالق، وتأخذ موقع الثبات لكل يد واحده الي تحت والثانيه الي فوق، فكل ما هو تحت هو فوق، وكل ما هو فوق هو تحت، ونقطه الارتكاز هي القدم الثابته على الارض والاخري تدور بيك مع الايدي، وعندما تلف انك تلف اتجاه اليسار ورأسك منحني الي اليمين وهذا يعني تماماً كدوران الارض على نفسها في النظام الشمسي والكوني. فسألني “معلمي” وهل هناك موسيقي؟ فقلت نعم “الناي” ومن ثم ابتهالات دينيه وتلاوة القرأن، فقال لقد قلتم كل شئ الدوران لا يبدأ ولا ينتهي والكون دائري ونحن فيه نغوص ... وهنا تكمن سر الرمز الكوني اللذي فيه كل الدلالات للروح وتعبد الصوفي فيها كل الإشارات للإيمان والتعمق، ليقول لنا جلال الدين الرومي “ارقص الكون يرقص” .
في أداء أم كلثوم تكرار وفي تكرارها تكمن اسرار المعني التي تعطي لنا بعد إيقاع لمضمون الاغنيه الادبيه الشعريه او النثريه... أم كلثوم كانت تغير الكلمات لكبار الأدباء من عصر الجاهليه ابو فراس الحمداني او عمر الخيام الي أدباء عصرنا الحديث و تغير حتي موقع الأبيات، لان هناك لحن وصوت وكلمة يجب علىها ان تترجم لصوتها لتصل الي الاذن بدلالات وإشارات لمعني الحب ،ولعمق العذاب، والام العشق ،فكل اغنيه عندها تختلف موازير الأهات عن الاخري لان مضمون الأغنيه تختلف عن الاخري تماما كحركات الرقص التي تختلف من مضمون عرض عن الاخر فليست هناك ترجمه لكل حركه كصوت ام كلثوم فليس هناك ترجمه في اختلاف مصطلحات موازير صوتها للتاكد على المعني من اغنيه الي اخري .
كل هذا لأوضح بأن ليس كل حركة لها تفسيرها، إنما هي طاقه لمجموعة حركيه توضح في ملزمة موسيقيه تكوٌن معني، وهذا المعني يأتي في المضمون الذي أعمل علىه ، مضمون الفكره التي أحولها الي رقص، ان كانت تخص شخصيه عريقةٍ ما أو موضوع إجتماعي سياسي ثقافي أو فن تشكيلي ، فعندها أعمل جاهداً وأذاكر كثيراً على ما هو المحتوي الذي اقدمه، فلا اضع في اولوياتي المتلقي انما اضع “الانا” . وماذا افهم من موضوعي ومن هو الشخص الذي يهمني فنياً ويأثر على لقرأة مسرحيه حركيه جديده، وتحصل هناك علاقه حب جديده ككل مره، وبعد هذه العلاقه وتطورها الفني عندي أذهب الي أرشيفي الفني المخزون في عقلي فتخرج منه دلالات وإشارات تمدني بها للابداع ثم اقوم برسم كل شئ هيكلية العرض والاخراج المسرحي الذي إختمر في مخيلتي وتخلق مع الدلالات ممارست الحب، وهكذا اسعي الي تفكيك هذه الشخصيه اجردها كليا مما كانت علىه، واحطم افكاره، وانزع عنه كل ما كتب وكل ما ابدع وكل مارسم وادخله “بالانا” الخاصه بي ... بمعني اني الجأ الي “التفككيه” Deconstructivisme واترك الباقي الي المتلقي لاعادة بناء Reconstructivisme هذا التفكيك على ان لايكون من الضروري بما اسعي اليه انا حتي لو كانت بعيده عن قرأتي المسرحيه ... بعد انتهاء هذا التفكك اضع موضوعي على الموسيقي التي هي بدورها تتولي مسؤلية وضع كل فكره في مكانها طبقا لهيكلية الشخصيه .
وهكذا فعلت بنجيب محفوظ وتحيه حليم وشادي عبدالسلام ومحمود مختار وقاسم امين وحتي زهاحديد وغيرهم فبعد ان تكون الهيكليه واضحه أمامي مع فكره الديكور والسينوغرافيه، ياتي دور الرقص والراقصين فاذهب وأضع تحت اقدامهم التصاميم Choreographie ومعهم اترك العرض يعيش حياته في تطور البروفات اليوميه وكأنها ورش عمل ورش بحث عن الحركه مع الفرقه وتبدأ معهم مرحلة الخلق والابداع وحيث تنشا قصة حب ثانيه مع الراقصين تماما كالتي ظهرة في اوائل علاقتي مع الشخصيه، فتبدأ هذه العلاقه معهم بتطور، دون التقيد بقواعد حركه الرقص ،فيعطي الراقص كل طاقته التي تنفذ خيالاتي ونفسيتي وهندستي فيترجمها بجسده ويعطي بعداً لعمقها الذي يعتقد المتلقي بأنها من أدائي انما هي من عذاب وعبقرية جسد الراقص الفني، فهو المؤدي وهو يصبح الرمز والدلالات والاشارات والقراة التي بالاخير من فضله يترجم ما يجب على المتلقي ان يدرك: فيصبح الجسد كلمات وروح الراقص .
وتنشأ في هذه اللحظات رسالات ورسالات جسديه عند اداء الراقص تتكون مع الموسيقي و مع ترجمة ما احب ان اوضح عن شخصيتي على المسرح واعيد التركيب مع جسد الراقص وهو ايضا يولد من جديد و يصبح الجسم رسائل متتاليه يأخذها المتلقي ليستنتج ما يريد ، ويتخيل ما اراد ، ويرى ما لا اراه انا وما لا يدري به الراقص ، فانا لا اريد ان افهم الجمهور مباشره التفهم بقدر ما اريده ان ياتي هو بالجواب بما يري في هذه الدلالات والاشارات وعمق وتخيلات، لم اكن نفسي مكتشفها ... وهكذا اكون قد اعتليت بالجمهور ان ياتي الي... وليس ان اذهب اليه ! فمن رابع المستحيلات ان نستبدل مقطع من الرقص من مشهديه واضعها عند مشهديه عرض آخر لشخصيه أخري! فيحدث خللٌ مريعً وتقتل حينئذ قرأة المشهد .
خلال 36 عمل قمت به مع فرقه الرقص المسرحي الحديث في مصر هناك اعمال فشلتُ بها عندما كان الجمهور يفهم العرض كليا كعرض “شهرزاد كورساكوف” الذي نجح جماهريا وما لبثت الا ان اعدته بصياغه ثانيه وسميته «شهرزاد موناليزا» وقلبت كل المعايير الواضحه او عندما ياتي الناقد ويصرح بمفهوم العرض ... وهكذا كان عندي دائماً مشكله مع بعض النقاد في اول مشواري في مصر قالوا “ارجع بلدك” وبعد عشرة سنوات هم انفسهم كتبوا تحاليل طويله عن اعمالي، وبل كتب كتباً عن اعمالي،واصبحت كلمه “المثير للجدل” على صفحات النقاد ومجلدات المهرجانات .
نحن نتغير والعالم يتغير والاجيال تاتي لتتغير والتفكير والتحليل لا ينتهي في عقولنا ... نحن نعيش وكأن العالم يغسل وجهه في منطق العيش و منطق الفن والانسانيه تتغير و انا اتغير وافكر بتفكير مختلف عن سنين السبعينيات في القرن العشرين ... نحن في عصر يجب ان نتاقلم مع الحروب والارهاب والوباء وحتي مع الموت ... يجب ان نبحث عن طريق أمل يتجدد كل يوم، وايمانٌ يتعمق بحكمة ومعرفة أكبر ... أليست هذه دلالات وإشارات، أليست هذه رسائل ورموز وجب علىنا تحليلها .. هذا هو عصر التفككيه لأفكارنا وفنوننا وحياتنا نسعي الى بنائها من جديد كل يوم.