فى المسرح كما فى الحياة كارهون للنجاح.. مستسلمون للنقمة

فى المسرح كما فى الحياة   كارهون للنجاح.. مستسلمون للنقمة

العدد 945 صدر بتاريخ 6أكتوبر2025

منذ أيام زارنى شاب مسرحى جلس أمامى يقول بمرارة:
«أستاذ.. فى بلدنا النجاح مش للموهوبين. النجاح للى عنده واسطة أو فلوس. المسرح بقى مليان نفاق وشراء ذمم، واللى عنده علاقات هو اللى يلمع.. مش اللى عنده موهبة».
كان صوته يحمل تعبًا صادقًا، لكننى شعرت أن وراء شكواه شيئًا من الاستسلام أكثر من السعي. حاولت أن أفتح له نوافذ أبعد من ضيقه، فأعطيته أمثلة محلية وعالمية تدلل على فكرتي: رويت له عن موتسارت وساليري، وكيف تحوّلت الغيرة إلى لعنة أبدية خلدها الأدب والفن، ونصحته أن يقرأ المسرحية ويشاهد الفيلم. ثم ذكرت له جي. كيه. رولينج، المرأة التى تجاوزت الأربعين بعد حياة اجتماعية بائسة كللها الطلاق، قبل أن تكتب «هارى بوتر» وتصبح أشهر كاتبة فى العالم. أردت أن أقول له إن النجاح ليس ابن الواسطة ولا المال، بل ابن الإصرار والخيال.
حين غادرنى الشاب، بقيت أتأمل ما دار بيننا. كانت نظراته – وإن لم يفصح – تقول إنه لم يقتنع تمامًا. وربما جاءنى لا ليسمع حجتي، بل ليجد ما يؤكد ما يردده داخله من أسباب يعلّق عليها عجزه: الواسطة، النفاق، شراء الذمم بما يملكه الآخرون من أموال وسلطة.
عندها تذكرت عشرات من أمثاله؛ أولئك الذين لا يثيرون غضبي، بل يثيرون شفقة عميقة فى قلبي. مساكين هم؛ يظنون أن نجاح الآخرين صفعة موجهة إليهم شخصيًا، بينما الحقيقة أن ما يؤلمهم ليس النجاح ذاته، بل المرآة التى يعكسها عليهم.
علماء نفس كثيرون تحدثوا عن هذه الظاهرة. ليون فيستنجر مثلا تحدث عن «المقارنة الاجتماعية»، وكيف يقيس الإنسان نفسه بالآخرين لا بما أنجزه فعلًا. ومن هنا يولد الحسد: ليس من عجز مطلق، بل من شعور داخلى بأن الآخر تقدم خطوة بينما أنا ما زلت مكاني. أما ألفرد أدلر فربطها بعقدة النقص، حيث يعجز الفرد عن مواجهة ضعفه، فيستسهل اتهام الظروف أو الحظ أو المؤامرات. كأن إزاحة المرآة أفضل من مواجهة الحقيقة.
هؤلاء الكارهون للنجاح لا يعادون الناجحين بقدر ما يعادون أنفسهم. فالناجح يصبح شاهدًا على ما لم يفعلوه، على الطرق التى لم يسلكوها، على الفرص التى أضاعوها. هو ليس خصمًا لهم، لكنه يكشف خيبتهم، وهذا ما لا يحتملون.
ومع ذلك، لا أجد فى قلبى غضبًا عليهم. بل أشفق على أرواحهم المتعبة، وعلى تلك القيود الخفية التى تمنعهم حتى من لذة الفرح بنجاح الآخرين. وهى لذة وصفها إريك فروم بأنها «أسمى درجات الحرية الإنسانية»: أن ترى الجمال فى إنجاز غيرك دون أن تشعر أنه ينتقص منك شيئًا.
إن النجاح فى جوهره لم يكن يومًا إلا ثمرة جهد وصبر ووعى بالذات. أما كراهية النجاح فهى عجز عن مواجهة المرآة. وبين المرآة والحقيقة مسافة، هى ذاتها المسافة بين من يحتفل بالضوء ومن ينكر وجود الشمس.
فهل نختار أن نكون من كارهى النجاح، أم من أولئك الذين يجدون فى نجاح الآخرين فرصة للانتصار على أنفسهم؟


محمد الروبي