جماليات مسرح المقهى في مصر

جماليات مسرح المقهى في مصر

العدد 810 صدر بتاريخ 6مارس2023

للمقهى مكانة خاصة في حياة المصريين في العصر الحديث، بما له من أهمية اجتماعية وثقافية، وبما يعنيه من قيم إنسانية قائمة على التلاقي والحوار، ويحمل المصريون عشقا خاصا للمقاهي، فعلى حد تعبير نجيب محفوظ متحدثا عن نفسه «طوال عمري أعشق المقاهي وندواتها حتى أن قصصا لا تخلو منها فالحياة هنا.. ومن هنا يبدأ التاريخ»
بالفعل فعلى المقهى بدأت علاقات أدبية وفنية وسياسية واجتماعية وفكرية وشهدت طاولاته مولد أعمال شاركت في تطور فنون الإبداع المختلفة، كما انعكست التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على أشكالها، فمن المقهى التقليدي بكراسيه وطاولته إلى «الكوفي شوب» و»مقاهي الإنترنت» التي اجتذبت  فئات مختلفة عمريا واجتماعيا، ومن كونه مشاركا فاعلا من خلالها، إلى مكان للتسلية وقتل الفراغ،ومن مكان به عناصر التشويق من خلال الطرز المعمارية المميزة، إلى طاولات تمتد على جانبي الشوارع المجاورة له.
وفكرة مسرح القهوة قريبة من فكرة مسرح «الشارع» والتي ظهرت في منتصف القرن العشرين في أمريكا وفرنسا على وجه التحديد وكانت مرتبطة بحركة اليسار، وهي «الحركة التي نما هذا المسرح من داخلها والتي ظلت تؤثر فيه دائما أو كما يقول «هنري لنيسك» في كتابه «مسرح الشارع في أمريكا»: «لقد توصلت فرق كثيرة من مسرح الشارع على قناعة فكرية مؤداها أن هناك أسباب موضوعية وتاريخية واجتماعية لإحساسهم بالاغتراب وأصبحوا يلمسون الحاجة إلى مسرح يملك أسباب التغلب على الاغتراب الاجتماعي من خلال الممارسة الاجتماعية الجماعية والنشاط السياسي»، وهذا ما فعله ناجي جورج ورفاقه من محبي المسرح.
في عام (1969) ظهرت تجربة فريدة وجديدة هي «مسرح القهوة» علي يد المؤلف المسرحي ناجي جورج، والذي اختار لعرضه «مقهى المختلط» بالعتبة بعد أن اتفق مع صاحبيها رأفت خليل الذي كان يعمل مفتشا للتموين وخليل خليل المحاسب بشركة النصر لصناعة السيارات، اللذان وافقا على الفور بدون إيجار بل إن خليل قام بدور مدير خشبة المسرح في العرض الثاني من عروض الفرقة، وظل ملازما لها حتى في عروضها التي أقيمت في أماكن أخرى. وقد تولى الفنان سمير سليمان أحد مخرجي الثقافة الجماهيرية ـ وقتها ـ عملية الإخراج لكن ترك الفرقة لظروف خاصة، ثم أكمل المشوار من بعده المخرج التليفزيوني اللامع محمد فاضل.
وقد قدمت الفرقة عرضين الأول مسرحية «قهوة المعلم أبو الهول» في يونيو (1970)، والثاني مسرحية «إني اعترض» سنة (1971)، وقد سجل التليفزيون المسرحية الأولى.. وعرضها.. كما قامت برامج ثقافية في الإذاعة والتليفزيون  باستضافة الفرقة سواء على الشاشة أو في الإذاعة وقد تكلف إنتاج العرض الأول عشرين جنيها تم جمعها من أعضاء الفرقة وشارك في بطولتها كل من وفيق فهمي، وفاروق فلوكس وعزيزة راشد وسيد عبد الكريم ومحي الدين عبد المحسين وقاسم شحاتة ويسري ناصر ومجدي وهبة ومجدي يوسف وإسماعيل ذهني وسعيد الدسوقي.
وتدور أحداثها حول المعلم «أبو الهول» صاحب مقهى يهتم بالأحداث السياسية والاجتماعية من خلال أحاديث الزبائن الذين يشاركهم الأحاديث لكنه عنيد أمام مصلحته، فكل ما يهمه هو سلامة أمواله التي يقاتل من أجلها، فهو نموذج للإنسان الجشع المحب لذاته نموذج رأسمالي صغير يريد أن ينجو بمصلحته ونفسه دون النظر إلى مصلحة الآخرين، ويتجلى ذلك واضحا في حواره مع أحد الزبائن المتحمسين للحرب ضد العدوان حيث يقول له في جملة حوارية: “شوف يا أستاذ.. لا مؤاخذه في دي الكلمة.. كل واحد في الحاجات د يشوف نفسه. أحبك.. أحبك بس مش أكتر من نفسي.. ولا غلط الكلام ده يا عبدالسميع أفندي”.
والنموذج الثاني الذي تقدم المسرحية هو “فهيم” شخصية المثقف.. الشاب المهموم بقضايا مجتمعه، وإن كنت لغته الخاصة ذات الطبيعة المتعالية المتثاقفة جعلته غير متصل عمليا بواقعه، فهو شخصية خيالية في ظل واقع ملتبس ـ خاصة إذ نظرنا إلى اللحظة التاريخية التي كتب فيها النص ـ وهي السنوات التالية لهزيمة يونيو (1967) التي أحدثت هزة عنيفة في بنية المجتمع المصري وأوجدت حاجزا نفسيا وانكسارا عميقا، ربما مازالت آثاره باقية حتى الآن.
وقد استخدم محمد فاضل “القهوة” كفضاء مسرحي للعرض مع إضافات سينوغرافية قليلة للغاية، حيث اعتمد على تقنيات المسرح الفقير عند “جروتوفسكي” وأذاب الحواجز بين المتفرج وممثلي العرض مما جع الجميع في حالة شعورية واحدة بعد أن اكتسبوا حالة التمسرح، بعد أن تحول المكان كله إلى مسرح، ومن هنا كانت أهمية مسرح القهوة أنه كسر الحاجز الوهمي ـ بالفعل ـ بين النص والممثل وبين الجمهور، ربما لأول مرة في تاريخ المسرح المصري الحديث.
أما المسرحية الثانية التي قدمتها الفرقة فهي مسرحية “إني اعترض” والتي قدمت بمقهى “المختلط” في موسم (1976) من إخراج ليلى سعد، وقام ببطولتها الفنان عبد الرحمن أبو زهرة وسعيد الصالح وعبدالعزيز عيسى وخالد حمزة وناهد نائلة، ونتيجة لظروف العرض تناوب عدد من الممثلين على باقي الأدوار المختلفة فقد شارك في بعض ليالي هذا العرض فائق عزب، ممثل المسرح القومي وفنان مسرح الطليعة ناجي كامل، وكانت المسرحية قد تعرضت للرقابة والمصادرة عند عرضها لأول مرة عام (1971)، ثم تم التصريح لها بعد خمس سنوات من المعاناة، وقد لعب الفنان الكبير عبدالرحمن أبو زهرة دورا كبيرا في تحفيز باقي أعضاء الفرقة على الاستمرار ومواصلة ما بدأوه.
 وقد شهد مقهى “استرا”  بمنطقة “باب اللوق” في منتصف الستينيات من القرن العشرين،  حالة خاصة من الفن امتزجت فيه روح الشعر بالغناء والموسيقى والمسرح وفن الحكي والواو والزجل وفن القافية والنكت والإنشاد الديني وغيرها من الفنون التلقائية التي كانت تأتي وليدة اللحظة ومعبرة عن روح فنية وأدبية وثابة، استمر نشاطها الأكثر من عشر سنوات شارك في إثراء هذه التجربة عدد كبير من الفنانين أمثال عبدالرحمن عرنوس ولفنانين يونس شلبي ومحمد نوح وأحمد الشابوري وسامح الصريطي ويوسف عيد وحسن السبكي وإبراهيم رضوان والشاعر الراحل عصام عبد الله ولطفي لبيب ومحمود الجندي بالإضافة إلى الماكيير “ميشو” الذي كان يجلس على المقهى يوميا ليحكي النوادر الخاصة والذكريات التي عاصرها مع كبار نجوم السينما المصرية والعربية.
بالإضافة إلى الفقرة التي كان يقدمها الشاعر عبدالرحمن الابنودي بإلقائه المتميز ولكنته الصعيدية
وقد اتسمت تجربة “مسرح الفنان” بمقهى “استرا” إلى مرحلتين: المرحلة الأولى اجتذبت عدد كبير من الفنانين، فكان الملحن محمد نوح والفنان الراحل أحمد الشابوري يشدان من أزر المواهب الجديدة حيث كان نوح بعد أ، ينتهي من أدائه في مسرحية “مد.. مدد شدي حيلك يا بلد” تأليف الشاعر إبراهيم رضوان يأتي إل المقهى ليستمع إلى المواهب الجديدة ويشجعها ثم يردد ألحانه على رواد المقهى، وكان من بينهم الصحفي محمد نجيب وفنان الكاريكاتير الراحل رخا الذي كان يدخل في مباريات الشطرنج مع المحامي سعد العمروسي، وكان الكاتب الراحل عبد الوهاب مطاوع يسجل جلسات المقهى في موضوعاته الصحفية بجريدة “الأهرام”.
أما فن القافية  والمونولوج فقد وجد أرضا خصبة وحضورا جماهيريا داخل المقهى خاصة مع الطريقة الممتعة التي كان يقدم بها سلطان الفار فقراته الأسبوعية التي كانت ـعادة ـ في منتصف السهرة قبل الاستراحة وتناول الشاي، كما كان لإلقاء فن الواو الصعيدي والبحيري مكان في تلك الأمسيات الرائعة، ثم تجئ الفقرة المخصصة للشاعر عبدالرحمن الأبنودي بأدائه الفريد الذي يحمل نكهة شعبية خاصة وبما تتضمنه قائده من موضوعات تهتم بقضايا الناس وتصورها في جمل شعرية صادقة، وكانت هذه الفقرة من أكثر الفقرات جماهيرية حيث كان يمتلئ المقهى بالرواد.
 ومن العروض التي تنتمي إلى “مسرح المقهى”  والتي شاهدتها عام 2007، عرضا قدم على مقهى “القللي” بمدينة الفيوم، قدمت فرقة نادي المسرح بقصر ثقافة الفيوم العرض المسرحي “آخر الشارع” تأليف مؤمن عبده وإخراج عادل حسان وتمثيل مصطفى الدوكي وأشعار أحمد زيدان والعرض عبارة عن مونودراما خفيفة تجسد الصراع الإنساني في ظل التحولات الاجتماعية، خاصة شخصية الفنان الذي يحاول أن تؤكد على القيمة العليا للفن رغم سطوة التسطيح عبر المستويات المختلفة للحياة اجتماعيا وثقافيا وسياسيا.
وينتمي العرض إلى ما يمكن أن أسميه بـ”مسرح المفارقة” الذي يطرح القيمة في إطار تراجيدي، ثم يعبر عنه في مشهد آخر في إطار كوميدي، وقد استخدم المخرج في ذلك تكنيك “الأراجوز”، وملابس “البلياتشو” لأبطال العرض مستخدما في الخلفية إطارا موسيقيا تسجد في أغنية “ودارت الأيام” لكوكب الشرق أم كلثوم وإن كنت أرى هذه الخلفية الموسيقية فقد اقتحمت على العرض وأخذت من فنياته. بقى أن نشير إلى أن العرض من تأليف الراحل مؤمن عبده وهو من شهداء حريق مسرح بني سويف وهو صاحب تجربة كانت تبشر بالكثير من خلال أعماله “طعم الغروب” و”حزن المطر” و”طرح الغياب” و”توب الفرح” و”أثناء الليل” و”شيكابيكا”.


عيد عبد الحليم