سلك شائك بين ضحايا الحروب وصناعها

سلك شائك بين ضحايا الحروب وصناعها

العدد 546 صدر بتاريخ 12فبراير2018

جلس المخرج في مكان متميز، داخل المسرح الكبير بمكتبة الإسكندرية، واتخذ مقعدا يعلو عن مقاعد جميع أبطال العرض وعناصره، متابعا عرضه “سلك شائك” باهتمام وقد دانت له جميع عناصر العرض بالخنوع والاستسلام، عن طواعية تنفذ ما يطلبه ببساطة، والبساطة هنا ليست صفة ولكنها منهج اتبعه المخرج محمد الطايع، وأعتقد أنها كانت في ذهنه عند التخطيط غير المفهوم لغير المخرج ورفاقه في بداية العمل، وقد أدى ذلك لحالة تتملك وتغلف العرض بأكمله يمكننا أن نسميها الانسجام، لنرى أن البساطة هي الغلاف الرقيق أو الشفاف الذي نرى منه العمق وليس التكلف الذي يشغل الأذهان في تفسيريه، فيتوه المضمون والجماليات، ويتحول العرض إلى أُحجية.
قدم عرض «سلك شائك» في إطار منحة مكتبة الإسكندرية، لعام 2018 التي تعد أهم المنح السنوية بمدنية الإسكندرية، ومع ذلك فلم يلجأ العرض لفريق كبير بل اكتفى بأربعة مؤدين فحسب، ولم يتورط مع القاعة الكبيرة ذات الألف متفرج؛ حيث قدم العرض فوق خشبة المسرح مما جعل جمهوره شديدي الالتصاق به بالتفافهم حوله، وهو ما أدى لصنع حالة من الحميمية والتركيز، ليصب انشغاله حول 150 مقعدا فقط، ويقلص مساحة الخشبة إلى النصف، مما وفر على العرض حلولا هو في غنى عنها لشغل الفضاء وإشغال تلك الخشبة الكبيرة جدا، فببساطة شغلها بالجمهور، مستفيدا من الحالة المسرحية التي تعطيها القاعة لمن يدخلها.
وإن كان طايع قد أبدع، فقد أبدع في الاختيار وما بني عليه ذلك الاختيار، ابتداء من الورق مرورا بالممثلين ثم المنفذين والرؤية، مهمة أخرى تمثل عبئا كبيرا على المخرج وهو التوظيف والتوليف بين تلك العناصر وهؤلاء الأشخاص، محددا قدراتهم وإمكانياتهم، وما الذي يريده منهم، وهو قد يعود لحالة التآلف والانسجام والتفاهم بينه العاملين في العرض، نظرا لسوابق تعونهم الفني الطويل مع بعضهم، والقيام بأعمال كثيرة سابقة، فليست هذه هي التجربة الأولى بين المخرج ومؤلف العرض سامح عثمان أو أبطاله، محمد بريقع، محمد زلابيا، نادر محسن، عبد الوهاب محمد، وهم جميعهم امتلكوا حضورًا مسرحيًا جيد واستغلالهم لقدراتهم الكوميدية وتوظيفها بما يتماهى مع الموضوع الأصلي، حتى يرتبط بها ارتباطا يصعب معه تحديد الأصل من الإضافة.
يدور العرض حول جنديين على الحدود في منطقة بها اضطرابات عسكرية، وحالة حرب، وكل منهما يمثل جهة، وهو هناك يحمي جهته من الآخر، ولكنهما صارا وحيدين بعد أن مات كل من كان معهم، ومن الأحداث نتبين أن الأول يهوى صناعة العرائس، والآخر يهوى العزف على الهيرمونيكا ويتبين أن لكل منهما أحلاما وطموحات، حيث يجمع بين تلك الهوايات كونها غير عنيفة، العزلة والوحدة تجعل كل منهما يروي حكايات عن نفسه، سواء لنفسه (للجمهور) أو لغريمه أو صديقه الآخر بعد أن اقتربا من بعضهما بفعل العزلة، وهي حكايات في مجملها نستالوجيا للحياة التي كانا يعيشانها قبل الحرب ويتمنيان العودة إليها، وقد جعلهما المخرج، من خلال الرؤية المسرحية، داخل مساحة تشبه حلقة المصارعة، يفصل بينهما سياج خشبي مغلفا بالسلك الشائك كانا حريصين طوال الوقت على الحفاظ أن يكون بينهما، وكل هذا يمثل مستوى أدنى، ذا لون رمادي يشبه لون ملابسهما ليأخذ شكل (الجبهة). أما المستوى الأعلى، فقد كان الإطار الذي يحيط بتلك الحلقة أو المساحة، ليظهر العمل بأكمله داخل مربع يشبه الصندوق، يتحرك عليه وحولهما طوال الوقت شخصان، هما اللذان يتحكمان في هذين الجنديين، قد يكونا القادة أو الرؤساء لهما، وهما ببدل أنيقة، ويدور بينهما حوارات حول التوأمة والتفاهم وحلول مقترحة، وإبداء الآراء وكيفية التحكم في الجنود والمعركة، ويسير الموضوع هكذا في الانتقال ما بين الجنود والقادة، عبر قصص مروية، وفواصل حوارية فكاهية، مصدرة معاني حول الصراع الديني، والعرقي والعنف وبعض البديهيات مثل بدء الخليقة وقابيل وهابيل، ومادة القصص الأولية التي اعتاد المؤلف سامح عثمان استخدامها في أعماله، وقد يكون موضوع العرض ليس بجديدة حيث سبق أن تناولته الكثير من الأعمال السينمائية والمسرحية مثل (كل شيء هادئ على الجبهة الغربية)، ولكن الفارق هنا يأتي في التناول وحالات الحكي المنفردة لكل شخص عن حياته الماضية، والقضايا المطروحة رغم رومانسياتها وأزليتها فإنها تتسم بطابع من التحديث يمثل الطبعة الحديثة لعالم 2018، وقد نكون في حاجة إلى ذلك (أي لطرح هذه الموضوعات بأسلوبنا بدلا من التحدث بها بطرق قديمة عفا عليها الزمن في الكتابات السابقة).
بما أننا نتحدث هنا عن البساطة، فيمكننا أن نشير إلى آلية الانتقال السلس من لوحة لأخرى ومن قصة لأخرى تارة عبر حركة الممثلين وتارة بالإضاءة، حيث يتركز الاهتمام في السيطرة على تكوين خشبي بسيط يتم التحرك به على المسرح، حيث كان هدف أبطال العرض كلهم هو السيطرة عليه، وعلى موقعه حيث استمر ذلك طوال العرض وهو ما دعمته مادة مصورة في البانوراما الخلفية كانت تلقى أحيانا بظلال مهمة على العرض ومضمونه كما كانت ذات جماليات، لكن ذلك لا ينفي أنها أحيانا أخرى كانت غير هامة وتعطي شعورا بأنها دخيلة وذلك نظرا لسيطرة الممثلين على الخشبة وتناسق الموضوع إخراجيا ككل فيصبح دورها غير مميز، أما آخر ما يمكننا أن نشير إليه في تحت عنوان البساطة فهو لجوء العرض لسيميترية واضحة توازن بين الإيقاع والنقلات والحواديت المقدمة.
أخيرًا، فإن الإيحاءات الجنسية التي كانت تمثل أحد مرتكزات العمل (فبعض القصص مبنية بأكملها على مفارقة تعتمد على الإيحاء الجنسي مثل قصة «الرجل الذي يحمل بلبلا يغرد – أو مناقشة التدخل المباشر في القاعدة العريضة – ديك الأم الذي مات»، وغيرها من المفارقات) لكنها كانت عديمة الجدوى ومغازلة لا قيمة لها حيث لم تكن مجرد (إفيهات) تعمل على تجميل العمل واستنفار الجمهور بحيث يمكن اعتبارها مفيدة أو تضيف للحالة الفنية، حيث علقت في المساحة الفاصلة ما بين الإسفاف وفن الإسقاط وما بين المصارحة الاجتماعية والإحراج الأسري، الأمر الذي جعل الجمهور، الذي في أغلبه من الشباب والفتيات والرجال، ما بين مصدوم وساخط في مقابل مجموعات أخرى غارقة في الضحك.


أحمد عبدالكريم