«تحوُّل الكاپتن براسباوند» نص لبرنارد شو يحمل بذورَ الإسلاموفوبيا

«تحوُّل الكاپتن براسباوند»  نص لبرنارد شو يحمل بذورَ الإسلاموفوبيا

العدد 742 صدر بتاريخ 15نوفمبر2021

يجب أن تكون عيوننا مفتوحةً ونحن نُطالِع عملًا أوربيًّا يتناولُ الإسلام حتى ولو كان لأديبٍ في قامةِ (شو).
هي الرؤية الأوربيّة نفسها التي حمَّلَها التاريخُ كراهيةً يصعبُ الإفلاتُ منها. 

السيدة سِسِلِي: هكذا وجدَ المسكينُ نفسَه في ورطةٍ قاسيةٍ، فقد كان باستطاعته أن يأخُذَ (سير هاورد) لأنّه مسيحيّ، أمّا أنا فلا، لأنني امرأة.
كيرني (بشيءٍ من الصرامة، مشتبهًا في أنّها تعتنقُ لا إلهيةَ الأرستقراطيِّين): لكنّكِ امرأةٌ مسيحية.
السيدة سِسِلِي: لا، فالعرَب لا يَعُدُّون النساء. إنهم لا يعتقِدون أنّ لدَينا أرواحا.
رانكِنْ: هذا صحيحٌ أيُّها القبطان. تلك المخلوقاتُ المُضَلَّلة!
هكذا يدور الحوار في الفصل الثالث من المسرحية التي كتبَها (شو) عام 1900، وعرفَت طريقَها إلى خشبة مسرح جمعية المسرح في لندن في نفس العام، وصدرَت في العام التالي ضمن كتاب (ثلاث مسرحيّاتٍ للتّطَهُّرِيِّين Three Plays For Puritans). تدور الأحداث باختزالٍ مُخِلٍّ حول القاضي الإنجليزي (سير هاورد هالَم) ذي الشخصية الصارمة، وأختِ زوجتِه السيدة (سِسِلِي وِاينفليت) المغامِرة ذات الشخصية المنفتحة على العالَم، حيث يصِلان إلى Mogador (مدينة الصويرة حاليًّا بالمملكة المغربية)، ويقرران استكشافَ الطبيعة الجبلية المتاخِمة للمدينة. ينزلان في مقرّ القَسّ المَشيَخِيّ (رانكِنْ) الذي قضى زهرة حياتِه في هذا المكان ويقول إنه لم يُفلِح في هداية أحدٍ باستثناء رجُلٍ واحد. هذا الرجُل هو (درِنكوُاتر) الذي مازال يعمل على سفينة (الشُّكر Thanksgiving) التي يملِكُها القُرصان (براسباوند) السّيّء السُّمعة، كما يتعاون مع (رانكِن). يقترِح (درنكوُاتر) فرقةَ الكاپتن (براسباوند) على (هاورد) و(سسلي) باعتبارها أفضل حمايةٍ مسلّحَةٍ لهما في مغامرتِهما المعتزَمة. لا تميلُ (سِسِلي) إلى استئجار حمايةٍ مسلَّحةٍ معتمِدةً على قدرتها على الإقناع وجاذبية شخصيتها، بينما يُصِرّ (هاورد) على اصطحاب الحماية إن كان لابُدّ من الرحلة الاستكشافيّة. 
     نعرف من حديث (رانكن) مع (هاورد) أنّ لهذا الأخير أخًا يُدعَى (مايلز)، كان صديقًا لـ(رانكن)، وأنّ (رانكن) رأى صديقَه هذا للمرّة الأخيرة في إنجلترا مودِّعًا منذ أربعين عامًا، حيث كان (مايلز) على أهبة الهجرة إلى البرازيل. وقد ماتَ (مايلز) منذ ثلاثين عامًا على أرضه التي امتلكَها في إحدى جزر الهند الغربية، واستولَى على الأرض وكيلٌ قانونيٌّ منتهزًا تراخي قبضة القانون هناك، ثم انتهزَ (هاورد) فرصة سفرِه إلى تلك الجزيرة بعد عدة أعوامٍ ووضع يدَه على الجزيرة في غياب ذلك الوكيل، عن طريق رشوة وكيل الوكيل!  
     حين يَظهر (براسباوند) نلاحظُ فجاجته في التعامُل مع (هاورد) وتعمُّدَه خشونةَ اللهجة، وتحذيرَه للرجُل مِن أنّ العدالةَ في تلك البقاع الجبلية تَحكُمها كلمةُ الشرفِ لا ساحات القضاء. ثم نكتشف أثناء الرحلة الجبلية أنّ (هاورد) عَمُّ (براسباوند)، وأنّ هذا الأخيرَ يعتبرُه قد حرمَه إرثَه من أبيه من خلالِ التعقيدات القضائيّة التي كان خبيرًا بها، وتسبّبَ في موت أمِّه، ثم يعلنها صريحةً أنّ (هاورد) أسيرُه في القلعة المغربية الأثرية التي توقفَت فيها الرحلة، وأنه يعتزِمُ إلقاءه إلى شيخٍ من شيوخ القبائل المتعصّبين المتعطّشين إلى دماء المسيحيِّين. يدور نقاشٌ بين (سِسِلي) و(براسباوند)، تنجح من خلاله في إقناعه بالتّخلّي عن الانتقام، لأنّ عدالةَ كلمة الشرف التي يطبّقها لا تقلُّ وحشيّةً عن النظام القضائي الذي يطبّقه عمُّه. يَصِلُ إلى القلعة الشيخ المُشارُ إليه (سيدي الآسف Sidi el Assif)، ويخاطبُه براسباوند في توقيرٍ نَفعِيٍّ باعتبارِه من سلالة النبيّ. يُطالبُ (سيدي) بالأسير القاضي الكافر كما يسمِّيه، لكنّ (براسباوند) يرفضُ تسليمَه ويَعرض أيَّ ثمنٍ له يرتضيه (سيدي)، فيطالبُ (سيدي) بالمرأة (سِسِلي) ثمنًا لـ(هاورد)، ويرفضُ كلٌّ من (براسباوند) وعمِّه هذا الثمنَ بالطبع، لكنَّ (سِسِلي) تُبدي ترحيبًا وقَبولًا، منطلِقةً من قدرتها على إقناع أكثر آكلي لحوم البشر وحشيّةً في رحلاتها السابقة بمعاملتِها معاملةً حسنة. في الوقت المناسب يحضُر قاضي (قنطافي) الحاكم العامُّ من قِبَل السُّلطان على هذه البقاع، ويتدخّل لحفظ سلامة النبيلَين الإنجليزيّين ويُلقي القبضَ على المهرّب السيء السمعة (براسباوند). 
     تُعقَد في الفصل الأخير محاكمةٌ في بيت (رانكن) يرأسُها القبطان الأمريكيّ (كيرني) للفصل في قضية (براسباوند)، وتُدلي (سِسِلي) بشهادتِها التي تبرّئ البحّار الإنجليزيّ المَوتورَ لأبيه وإرثِه، بعد أن تستخدِم جاذبيّتها وقُدرتَها على الإقناع في كَسب تعاطُف الجميع لـ( براسباوند). يصارحها الأخيرُ برغبته في الزواج منها، لكنّها تُبدي مخاوفَها مِن أن تقع تحت تأثيرِ شخصيّته الآسِرة – رغم اعترافِها بانجذابها إليه هي الأخرى – فتفقِد حرّيّتها التي تستمدُّ منها قدرتَها على إدارةِ الآخَرين وتجنيدِهم لعمل ما تراه صوابا. تنتهي المسرحية بأن يسمعَ (براسباوند) صفّارة سفينتِه فيقولُ إنها صفّارةُ الأمان والحرّيّة لـ(سِسِلي) التي أعادَت إليه ثباتَه وقوَّتَه، وأطلَعَته على سِرّ القيادة الذي تُديرُ به مشاعر وتحرُّكات الآخَرين، ويودّعُها!  
          ما قِيلَ في هذا النّصّ المسرحيّ كثيرٌ بالتأكيد، شأنُه شأنُ كلّ نصوص أديب أيرلندا الكبير، فالموضوع المُباشِر للأحداث هو العدالةُ وضَياعُها بين ساحات القضاء من ناحيةٍ، وكلمة الشرَف الخاضعة لنزوات قائلِها ورغباتِه الانتقاميّة من ناحيةٍ أخرى، والموضوعُ الأعمَق هو ضرورةُ السُّمُوّ فوق العواطِف والنزَعات والرغَبات الإنسانيّة إذا كان للمرء أن يحقِّق أيَّ شيءٍ يستحِقُّ الذِّكر. 
     أثناءَ قراءتي النَّصَّ، كنتُ أتمنّى أن تكسِبَ (سِسِلي) الثائرَ المَوتورَ لحياةٍ أهدأ وأوفَرَ حظًّا من الأمان، لكنّ (شو) أَبَى إلّا أن ينتهيَ الأمرُ بإعلاء تلك القيمة النيتشَويّة التي آمنَ بها وبشّر بها في مسرحياته الثلاث للتطهُّرِيِّين، التي تضمُّ إلى جِوار هذا النَّصِّ مسرحيَّتَي (حَوارِيّ الشيطان) و(قيصر وكليوپاترا)، وهي قيمةُ التحرُّر من العواطف الرخيصة، وبالتالي التحرُّر من (أخلاق العَبيد) كما يسمّيها ويزدريها (نيتشه). 
     أمّا ما لا يُتناوَلُ عادةً في التعليقِ على هذا النّصّ فهو عالَمُ المُسلِمين في مِخيال (برنارد شو). في تقديري أنه لا يمكننا اعتبارُ كلِّ ما تُشيرُ إليه الأحداثُ - مِن تعصُّبٍ ضدّ غير المسلِمين وشغَفٍ جنسيٍّ مكبوتٍ وتناحُرٍ داخلِيٍّ بين أفراد المجتمع الإسلاميّ الواحد – مَحضَ تَجَنٍّ من جانبِ (شو). نستطيعُ أن نرى بذورَ الخوف المرضيّ من الإسلام في هذا النّصّ، وإن كانَ من التسرُّع أن ننسُبَ آراءَ أبطال النّصّ الأوربيين إلى (شو) نفسِه. لكنّ الركائز الأساسيّة لهذا الخوف كما نعرفُه الآنَ بالحِسّ المُشترَك هي عينُها الموجودة في هذا النّصّ: العُنف الدمويّ الموجَّه إلى الغَرب، والتعامُل مع المرأة باعتبارِها كائنًا أدنَى، وتشظّي المجتمع الإسلاميّ داخليًّا، فوِجهة النظَر الرسميّة المعتدِلة نسبيًّا في مخاطبَة الآخَر غير المُسلم – ممثَّلَةً في قاضي (قِنطافي)- مختلفةٌ عن وجهة النظر الأقرب إلى الشعبيّة، المتّسمة بالحِدّة، ممثّلَةً في (سيدي الآسِف) أو (العاصِف) أو أيًّا ما كان يقصِد (شو). 
     نعَم، لن ننسُب قولَ (سِسِلي) أنّ العربَ لا يعتقدون أنّ للنساء أرواحًا – كما جاء في حوارِها الذي تصدَّرَ هذا المقالَ – إلى (شو) نفسِه، فهو بالتأكيد لم يكن ساذَجًا هكذا. لكن لماذا اختارَ مسرحَ الأحداثِ على أرض المغرب العربي؟ ولماذا كان الخصوم المؤقَّتون الذين أداروا دفّة الأحداث بحيث يتّضِح موضوع المسرحية وتُؤطّر القيمة التي يدافع عنها (شو)، لماذا كانوا مُسلِمين مغاربة؟ لماذا التناوُل الساخِرُ إلى أقصى درجات السخرية لنظرة الرجُلَين المسلِمَين (سيدي) و(القاضي) إلى المرأة الأوربية؟ ولماذا الحرصُ على أن يُشارَ إلى الزعيم الإرهابيّ (سيدي) بصِفَته قريبَ النبيِّ أو من سلالتِه؟ هذه كلُّها اختياراتُ (شو) التي لابُدّ أن تكون وراءَها قَناعاتٌ ما.
     إنّ (شو) في عملِه هذا يلفت انتباهَنا عن غير قصدٍ إلى بعض الجِراح العربية الإسلامية العتيقة التي تفتؤ تُنكَأ وتتجدد على مَرِّ الزمان، ولعلّ أهمَّها ذلك التشظّي الداخليّ للجبهة العربية، وانقسام الصفّ إلى سُلطةٍ وشَعبٍ كلٌّ منهما في وادٍ، لكنه في الوقت ذاتِه يُغفِلُ دورَ الغرب الأوربيّ في إذكاء نار الكراهية غير الرسميّة لدى المسلمين للآخَر الأوربيّ، وبّذر الشِّقاق والفُرقة بين الطامِحين إلى السُّلطة في الداخل العربيّ - باتّباع سياسة (فَرِّقْ تَسُدْ) الاستعمارية معهم. 
     ولعلّ لحظات المبالغة في السخرية، كتلك التي يهلِّل فيها (رِدْبروك) أحدُ أتباع (براسباوند) لمَقدَم (سيدي) قائلًا «لا جلالَ ولا قوّةَ إلاّ بالله المَجيد العظيم»، فيسأله (براسباوند) هامسًا «أينَ تعلَّمتَ ذلك؟» فيجيب «من ألف ليلة وليلة بترجمة كاپتن بِرتُن، ونسختها موجودةٌ في مكتبة النادي الليبراليّ القومي!»، نقولُ لعلَّ تلك اللحظاتِ تُفصِح عن المنظور الانتقاصيّ الذي ينظر عبرَه (شو) إلى النَّمَط الإسلاميّ، فالمسلمون يهللون كلّما دخلَ الإسلامَ فردٌ جديدٌ، والصخَب لازمةٌ لا تنفصِل عن هذا الحدَث في منظور (شو)، والمسلمون يسعَون وراء إشباع غرائزِهم الجنسية في نهَمٍ وموارَبةٍ في الوقت ذاتِه، ويتعاملون مع الأقوى بكراهيةٍ لا تخلو من التَّقيّة. وهي ملاحظاتٌ تبدو للرؤية السطحية من ذلك المنظور الانتقاصيّ، لكنّ أسبابَ ما صحَّ منها وحقائقَ ما دُلِّسَ منها تحتاحُ إلى رَويَّةٍ وتأمُّلٍ وحيادٍ افتقدَها (شو) للأسف في تعامُلِه مع مُعطَى العالَم الإسلاميّ، مدفوعًا بالرؤية الأوربيّة في إجمالِها، تلك التي حمَّلَها التاريخُ كراهيةً يصعبُ الإفلاتُ من براثنِها.
     ورغمَ أنّ تحوُّل (براسباوند) في نهاية النّصّ جاءَ متوافقًا مع إرادة القوّة التي بشّرَ بها (نيتشه) وآمنَ بها (شو)، في سخريةٍ واضحةٍ من القسّ المسيحيّ المَشيَخِيّ (رانكِن) الذي فشِل في مهمته بامتيازٍ في تلك البقاع المغربية ولم يتحولْ/ يَهتَدِ على يديه إلى المسيحية إلا شخصٌ واحدٌ، فإننا نطرحُ أسئلتَنا الآن بعد مرور أكثرَ من قرنٍ على كتابة هذا النصّ. لو كان (براسباوند) موجودًا في عصرِنا هذا، فهل كانت هناك فرصةٌ لتحوُّله إلى عقيدةٍ أخرى غير النيتشويّة؟ هل كان يمكن أن يَظهر المسلمون في المسرحية – رغم بقاء جروحِهم على ما هي عليه، بل انتقاضِها وفسادِها – بصورةٍ أقوى؟ هل كان يمكنُ أن يعتدل ميزانُ القوى بعضَ الشيء؟ هل كانت فرصة (شو) لمعرفةٍ أعمقَ بالإسلام ستكونُ أكبرَ لو كان يعيشُ بين ظهرانينا اليوم؟ أظنُّ أنّ إجاباتِ هذه الأسئلة تَميلُ إلى الإيجاب، وإن كنتُ لا أصادر على الغيب ولا على مآلات هذا السيناريو الافتراضيّ، وأطرَح الأسئلةَ عينَها على قُرّاء هذا المَقال. 
     ولا يبقى ما أؤكِّدُه في النهاية إلّا أنّ عيوننا يجب أن تكون مفتوحةً على أقصى اتّساعِها إذ نُطالِع عملًا أدبيًّا أوربيًّا يتناولُ عالَمَ المسلمين والإسلام ولو بطريقةٍ هامشيّةٍ، حتى ولو كان عملًا لأديبٍ في قامةِ (شو)، وإلّا أنّ حوارَنا مع الآخَر يجبُ أن يكون أهدأَ ليصلَ إلى مكاسبَ حقيقية، غيرَ أنّ هذا الهدوء لن يتحقّقَ إلا كثمرةٍ للكثيرِ من التروّي والقراءة وتأمُّل الذات والآخَر في حيادٍ، فضلاً عن كثيرٍ من ضبط النفس الأمّارةِ بالعُنف!  


محمد سالم عبادة