العدد 642 صدر بتاريخ 16ديسمبر2019
• العنوان الأصلي لهذه المقالة «تقديرات (ستاتس) لفينومينولوجيا المسرح Reckoning with States on the phenomenology of theater. وصدرت في مجلة Journal of Dramatic theory and Criticism.
نشر (مايكل كيربي) مقالة جادل فيها بأن مسرحه البنيوي structuralist theater كان مقاربة للأداء الذي يمكن اعتباره «غير سيميوطيقي nonsemiotic». وبإقامة تناظر مع مسودات (رورشاش Rorschach) أعلن (كيربي) أن مسرحه يعمل ضد إرسال رسائل حول أي شيء. وأن أي معانٍ يستنتجها المتلقي يمكن أن تكون غير دلالية، لأنها تقع خارج المعايير التي أقامها (أمبرتو إيكو) للاستنتاج السيميوطيقي.
يوضح (إيكو) أن أفعالا بعينها يجب أن تُدرك باعتبارها أفعالا سيموطيقية (دلالية) عندما يتم فهمها ثقافيا وتصاغ في شفرات منهجية. وهذا يؤكد على الشفرة الراسخة ثقافيا، ويميز التفسير الشخصي والخاص والتمييزي عن التفسير السيميوطيقي. إذن السيميوطيقا ليست تفسير المعنى، بل هي إظهار كيف يستمد المعنى من شفرة بعينها، فإن لم تكن الشفرة واضحة، فليس لدينا سوى تفسير.
في نهاية المقالة يسعى (كيربي) إلى شرح ما هي العلاقة بين مسرحياته والمشاهدين: إذ يقول إنها نوع من الشكلية التي تهتم بالطريقة التي يعمل بها العقل لإقامة الصلات بين الأشياء. ويشير إلى المشاهدين بأسلوب يخلق عواطف جديدة لا يمكن أن تستمد من الطبيعة أو الرسائل.
وهناك مشكلتان رئيسيتان واضحتان في حجة (كيربي):
(1) استبعاده المشكوك فيه لأي شفرة راسخة ثقافيا من مسرحه البنيوي.
(2) تفاعله الغامض الناتج بين الأداء المسرحي والجمهور.
وفي ما يتعلق بالمشكلة الأولى، يبدو واضحا أن فعل تقديم الأداء المسرحي البسيط للمشاهدين يستتبع نوعا ما من الشفرة الراسخة ثقافيا. علاوة على ذلك، وحيث إن (كيربي) يؤكد أن أي معانٍ يستخلصها الجمهور من عمله سوف تظهر وتختفي بسرعة، فيمكننا أن نجيب بأن هذا يجعل مهمة التحليل السيميوطيقي أصعب بلا شك، ولا تتفق من الناحية النظرية مع اهتمامات السيميوطيقا.
وفي ما يتعلق بالمشكلة الثانية، فربما نعترض بأن عبارة “الطريقة التي يعمل بها العقل للربط بين الأشياء” هي مقولة شاملة جدا وتبدو بلا معنى، وأن هذه العواطف التي لا يمكن أن تستمد من الطبيعة أو الرسائل لا تظهر ولا يمكن تحديدها.
لذلك يبدو أن حجة (كيربي) حول احتمال وجود مسرح «غير دلالي» غير قابلة للتطبيق. كما علق (مارفن كارلسون):
بالطبع، من الصعب أن نتخيل، وربما من المستحيل أن نصف، ما الذي يمكن أن يكون عليه هذا الأداء، لأننا نستطيع أن نتحدث عنه أو نتأمله بالأدوات التي تقدمها ثقافتنا. إذ لا بد لنا أن نتخيل تجربة مبتكرة بالكامل بالمصادفة، وتتعلق بعناصر بلا معنى ويفهمها المشاهدون الذين لا تمدهم ثقافتهم بطريقة لفهم هذه التجربة. إذ يمكن أن تكون النتيجة شيئا أشبه «بالارتباك الكبير الذي يفترض (ويليام جيمس) أنه تجربة الطفل حديث الولادة قبل أن يبدأ أي تمييز للظواهر التجريبية.
إذن، افتراض احتمال وجود أداء مسرحي مجرد من العناصر الدلالية مستحيل، ويظل السؤال في ما يتعلق بما إذا كان للأداء المسرحي أي عناصر يمكن اعتبارها منطقيا “غير دلالية”. وفي كتابه «التقديرات الكبيرة في غرف صغيرة: حول فينومينولوجيا المسرح Great Reckoning in Little Rooms: On The Phenomenology of Theater» يجيب (برت أو ستاتس Bert O. States) على هذا السؤال بالتأييد، وهدف هذه الدراسة تحليل المنطق الذي يكمن وراء هذا التأكيد.
لا بد أن نؤكد أن وضع (أو ستاتس) لا يتطابق مع وضع (كيربي). وأهم نقاط الاختلاف أن (ستاتس) لا يقترح بأي حال من الأحوال أنه يمكن أن يوجد مسرح غير دلالي: فهو يلاحظ أن العناصر الدلالية موجودة في كل اتصال، ولكنه يجادل بأن التحليل السيميوطيقي لا يمكن أن يفسر كل تجربة المشاهد في الحدث المسرحي. ويخبرنا (ستاتس) «من المثير للقلق أن السيميوطيقا تؤكد اعتقادا ضمنيا بأننا نستنفد الاهتمام بالشيء عندما نفسر كيف يعمل كعلامة». وفي رأيه أن السيميوطيقا هي وريث المنهج التمثيلي للنقد في أن هدفها محدود جوهريا بالأفكار الإشارية، بقدر ما تهتم بالعلامات (وكذلك ضمنيا المدلولات). وفي هذا الصدد، يجادل بأن السيميوطيقا تقف عاجزة، لأن أي اعتبار لتجربة المتلقي ككل يجب أن يقبل أن الاهتمام لم يكن مركزا فقط على ما يعنيه أي عمل فني، بل على العناصر الجسدية للعالم نفسه. وبالتالي يعلن (ستاتس) «من الواضح أن هناك شيئا ناقصا في المبدأ المرجعي كأساس للفن».
ويقدم (ستاتس) بدلا من ذلك منهجا تشارك فيه السيميوطيقا مع الفينومينولوجيا بالتساوي، ويستشهد بالسوابق النظرية لذلك عندما ربط (هوراس Horace) بين «التعليم» و«المتعة» في كتابه «فن الشعر Ars Poetica». والتلميح مفيد، لأن مثل هذه الإشارة إلى النقد الدرامي التقليدي قد تساعدنا في الحفاظ على اتجاهاتنا عبر مقاطع (ستاتس) الضبابية. في ما يتعلق بهذا المبدأ، ومع الإقرار بأن (هوراس) هو ناقد يطرح هذا التقسيم الواضح في التجربة المسرحية، فمن المفيد الرجوع إلى النموذج الأولي الأسبق، هو أرسطو.
وغني عن القول، إن كتاب «فن الشعر» الذي لا يزال الأكثر تأثيرا في تاريخ النظرية الدرامية، وبسبب أحد أشهر مقاطعه (التراجيديا هي محاكاة لفعل)، ويرتبط في معظم الأحيان بنظرية تستند إلى المحاكاة. ورغم ذلك، هناك مقاطع أخرى في كتاب أرسطو يميل فيها قليلا نحو المنهج الفينومينولوجي. ففي كتاب فن الشعر مثلا، يقول أرسطو عن تعليم الموسيقى:
الإيقاع واللحن يبعثان الغضب والوداعة، والشجاعة والاعتدال أيضا، وكل الصفات التي تتعارض معهم، وغيرها من الصفات الأخرى للشخصية، التي تكاد تعجز عنها العواطف الفعلية، كما نعرف في تجربتنا الخاصة، لأننا عندما نستمع إلى هذه الأوتار يحدث تغيير في نفوسنا. فمجرد عادة الاستمتاع أو الألم من التمثيل ليس بعيدا عن نفس الشعور بالواقع، فعلى سبيل المثال إذا ابتهج شخص لرؤية تمثال بسبب جماله، فإن ذلك يستتبع بالضرورة أن تكون رؤية الأصل ممتعة له. والأشياء التي ليس لها معنى، مثل التذوق واللمس، تشبه الصفات الأخلاقية، إذ لا يوجد سوى القليل منها، لأن هناك شخصيات ذات طبيعة أخلاقية، ولكن إلى حد ما، وجميعهم لا يشاركون في الشعور بها.
حتى في كتاب «فن الشعر» يقدم نقطة ذات صلة عندما يجادل بأن «العرض له جاذبية عاطفية في ذاته». وتوحي هذه المقاطع بأنه حتى أرسطو قد شعر بأن الفهم الكامل المطلوب للفنون تطلب دمج شيء مثل التحليل الفينومينولوجي، وهو منهج، ربما نستنتج، يمكن أن يمتد إلى العناصر المسرحية ذات الصلة مثل الجوانب الموسيقية للكلام، أو عوامل الجذب الجسدية للممثلين، وربما حتى في ما يتعلق بالارتباطات التي يتردد صداها بين بنية المسرحية وآليات استجابة الجمهور.
وبغض النظر عن تحديد مجموعة كاملة من الإشارات شبه الفينومينولوجية في تاريخ النظرية الدرامية، ومن المفيد أن نلاحظ بعض المقارنات الأشهر في أعمال بعض المنظرين قبل الانتقال إلى السياق الفلسفي الأكثر تحديدا في منهج (ستاتس). والحجة التي تستحق النظر إليها هي حجة (ديدرو). ومثل (أرسطو)، يفترض (ديدرو) أن أحد أعظم متع المسرح هي التشابه مع العالم الحقيقي، ولكن هذه المتعة في الإيهام توضع بوضوح ضمن إدراك مدى اصطناعية الظروف. نتيجة لذلك، فإن اقتراح (ديدرو) أن تلك العروض، وهي الابن الشرعي، يجب أن تنقل إلى المسرح، وبطريقة ما، مفهومي (ستاتس) الأساسيين للمسرح الذي يستوعب الواقع وإحساسه بالحذف الذي يجده الجمهور في هذا الواقع.
ومع القليل من العناية، يمكننا أن نضع (ديدرو) ضد التمييز الواسع الذي قدمه (هوراس) (والعودة إليه بواسطة ستاتس) بين التعليم والمتعة، لأن فهم (ديدرو) للمتعة التي يحصل عليها الجمهور عن طريق التمثيل تسير جنبا إلى جنب مع القناعة بأن الجمهور سوف يستنبط استنتاجات تعليمية من استخدام الواقع:
ألا يمكنك أن تتخيل التأثير الذي سوف يحدث لك من خلال الإعداد الحقيقي، والأزياء الأصيلة، والحوار حول الموقف والقصص العادية، والمواقف التي من شأنها تجعله مستحيلا لك ولوالديك وأصدقائك؟
بالطبع هناك فرق أساسي هنا بين مفهومي (ديدرو) و(ستاتس) للتأثير الفينومينولوجي الدقيق الذي سوف يحدثه هؤلاء المبعوثون من العالم الواقعي على المتلقي. فـ(ديدرو) يهتم بمدى قدرة هذه الأشياء على إقناع الجمهور بالمشاركة في هذا الإيهام، وتتعزز رؤية (ستاتس) مع معيار بريخت الصحي. ومع ذلك، من السهل أن يشاركوا في الاهتمام بجسدية هذه الأشياء الفعلية، وهذه نقطة مهمة لأرضية مشتركة.
والمنظر الآخر الذي تحمل أعماله تشابهات مع أعمال (ستاتس) هو (ليسينج). ولا سيما أنني أفكر في تحليل جماعة تمثال لاكون، التي تشبه منهجه لكن استنتاجاته متعارضة مع رأي أرسطو الذي استشهدنا به آنفا. فمثلا هناك ملاحظة مشهورة بأن:
يختلف انطباع الشخص الذي يصرخ اختلافا كبيرا عن الصراخ نفسه. والدراما، التي هي معنية بالفن الحي للممثل، يجب أن تحصر نفسها داخل حدود الفن المادية. فنحن لا نتخيل فيها أننا نرى «فيلوكتيتيس» ونسمعه يرقص، بل نسمع الصراخ الفعلي ونراه.
ويتم تناول هذا المفهوم مرة أخرى في كتابه «الفن الدرامي في هامبورج» حيث يقدم (ليسينج) الحجة التالية:
يصر السيد «هوفيلد» أن جوليا عندما تدعمها والدتها، فلا بد أن يوجد دم ظاهر على وجهها. ويجب أن يكون ممتنا لأن ذلك قد تم حذفه. فلا يجب تناول الأداء إلى حد التنافر. وفي مثل هذه الحالات، من الجيد أن تقنعنا خيالاتنا بأننا نرى دما؛ ولكن لا نرى أي دم فعلا.
وعلاوة على فروق الرأي الواضحة التي يمكن أن نتوقع أن نجدها بين (ستاتس) و(ليسينج) حول سؤال ما هي حدود الفن المادية فعلا، فلدينا هنا فكرة يمكن أن تأتينا من كتابات (ستاتس) مثلما تأتي من كتابات (ليسينج). في الواقع، هناك نقطة اختلاف معينة بين (ستاتس) و(ليسينج) تشير إلى نوع ما من الفرضية النظرية المماثلة. فـ(ستاتس) يهتم جدا بالطريقة التي يحاكي فيها المسرح استجابة معينة عند المتلقي التي يسميها «صدمة متفق عليها Preconventional shock». باختصار، ما يشير إليه هو أن إثارة توقعات المتلقي التي تنتج عن الظاهرة التي ينظر إليها في سياقها المعتاد، وتوضع على خشبة المسرح.
هذا المفهوم بالطبع ليس هو المجال الحصري للمسرح. فالأمثلة في الفن البصري كثيرة: نفكر في مبولة (مارسيل دو شامب)، أو ذريتها الأحدث، وصلب «أندريه سيرانو» في البول، وتبول المسيح المصنوع من علب حساء (آندي وارول)، ومن الأمثلة الكثيرة التي تعود بالكامل للفن، مثل تقديم التقصير والمنظور والظل وما إليها. وهناك أيضا تناظرات موجودة في الموسيقى (مثل تقديم بيريلوز لبعض آلات الإيقاع في السيمفونية، ومقدمة بوب ديلان في الأغاني الفكرية لموسيقى الروك)؛ إذ يقدم تمثيل (إريك أويرباخ) بعض المعنى لتاريخ الابتكارات في الأدب.
ما يميز المسرح عن نظائره – وهنا نبدأ في رؤية الأرضية المشتركة بين (ستاتس) و(ليسينج) – هو حقيقة أنه يوظف الكثير من الكيانات الحقيقية مثل البشر والكراسي، بدلا من مجرد تمثيل الأشياء؛ وهذا ما أطلق عليه (مارفن كارلسون) اتباعا لـ(شارلز بيرس) «الأيقونية Iconicity». والآن، يمكن أن يتردد غالبية المنظرين في المطالبة بمكانة خاصة للمسرح على مثل هذه الأرضية، أو إذا فعلوا ذلك، فمن الممكن أن يحرصوا على أن يحملوا الحجة بعيدا جدا، لأنهم يمكن أن يعترفوا بأن الأيقونية موجودة بدرجات متفاوتة في أعمال فنية أخرى (مثل أجراس بيريلوز ومبولة دوشامب). ومع ذلك فإن (ستاتس) و(ليسنج)، على حد سواء، مصممان على أنه ينبغي السماح لمثل هذه التشابهات بين الفنون بإخفاء الاختلافات فيما بينهما. وهذا يعني بالنسبة لـ(ليسينج) أن هناك بروتوكولات جمالية لا ينبغي خرقها؛ بمعنى أنه يجب تمثيل المعاناة بشكل مختلف وفقا للطابع الفينومينولوجي للوسيط المعني. وبالنسبة لـ(ستاتس)، ابن العصر الحديث، فإن هذا يعني أن المسرح قد ينظر إليه باعتباره متميزا، ولا سيما في ما يتعلق بالسعي إلى هدم التقاليد – أو ربما في ضوء المناقشة والمصطلحات المعنية، سيكون من الأنسب أن نقول إنه السعي وراء إصلاح التقاليد.
يبدو من المرجح أن كل من (ستاتس) و(ليسينج)، مع (ديدرو) و(أرسطو)، قدموا هذه الحجج بقصد إنقاذ تحليل المسرح من التجريدات المضللة. بمعنى أنها كلها مختصة بتأكيد أهمية ما يعايشه المتلقي فعلا باعتبار أنه ضد الوقوع على ما يفترض أن يفهمه حصريا من الأداء. وعلى هذا النحو، في الملاحظات التي تم الاستشهاد بها، ومعظم المقاطع المشابهة، هناك منطق واضح واستخدام للتصوير الملموس الذي يستدعي الخبرات المسرحية للقارئ والحصول على دعم واضح. وهذا هو الحال، كما قلت مع أغلب المقاطع، ولكن في الأمثلة السابقة كانت هذه ملاحظات منعزلة وضعت ضمن حجج أوسع، وفي حالة (ستاتس) فإنه يتم تقديمنا إلى كتاب كامل يبحث الآثار المترتبة على هذا المنهج. وليس مستغربا، إذن، أن نجد (ستاتس) بين لحظة وأخرى ينظر إلى ما وراء نظرية الدراما الملائمة للتقاليد الفلسفية لكي يقدم سلطة ملاحظاته وقوة حجته.
بالطبع، التقاليد الأكثر صلة هي الفينومينولوجيا. والعلاقة التي تربطها بأعمال (ستاتس) ليست واضحة. ففي الصفحة الأولى من كتابه «اعتبارات كبيرة في غرف صغيرة: حول فينومينولوجيا المسرح» وضع (ستاتس) نوعا من إخلاء المسئولية في عنوانه الفرعي حيث يقول إن كتابه ليس فينومينولوجيا المسرح بالشكل الصحيح. وهذا يثير التساؤل حول إذا ما كان يوجد اسم أكثر ملاءمة لما يقدمه (ستاتس). صراحة تبدو الإجابة هي «كلا». فهو يقدم توضيحات بأن منهجه هو منهج فينومينولوجي بمعنى أنه يركز على فعالية صناعة المسرح نفسه من مواده الأساسية، ولكن هذا قليل الفائدة إن لم يكن لدينا، في المقام الأول، فهم واضح للفينومينولوجيا التي يمكن أن نجري عليها التعديلات.
ولذلك، بينما يشير (ستاتس) إلى إخلاء مسئوليته من أن أي محاولة للربط بين عمله وأعمال الفينومينولوجيين سوف تنتهي بالإحباط، وفي حين أن يشبه الدقة الشاملة لهذا المنهج الهائل في علم الجمال، يكمن بالتأكيد بعيدا عن نطاق هذه المقالة، ومع ذلك من المفيد الإشارة إلى عدد قليل من الأفكار الأكثر صلة بالفينومينولوجيا. فأنا أستخدم كلمة «فينومينولوجي» متعجرفة إلى حد ما حتى الآن، ولذلك ربما من الحكمة كبداية، أن نعرّف المصطلح كما يفهمه الفلاسفة. والتعريف المقدم من دائرة المعارف البريطانية هو:
في القرن العشرين، تستخدم الفينومينولوجيا بشكل رئيسي كاسم للحركة الفلسفية التي يتمثل هدفها الرئيسي في البحث المباشر للظواهر ووصفها باعتبارها تجربة واعية، بدون نظريات عن تفسيرها السببي والبعيد بقدر الإمكان عن التصورات والافتراضات المسبقة.
و(إدموند هوسرل) هو الفيلسوف الذي يرتبط اسمه بالفينومينولوجيا: ونتيجة لذلك، يجب أن يرتكز تقديم المبادئ الأساسية لهذه المدرسة على كتاباته، ولا سيما كتابه الرئيسي «الأفكار المتعلقة بالفينومينولوجيا البحتة والفلسفة الفينومينولوجية Ideas Pertaining to Phenomenology and to a Phenomenological philosophy». وعلى الرغم من أنه كتاب شديد الصعوبة، فإنه لا يزال صاحب السلطة المركزية في هذا المجال، ويقدم أكثر المقدمات شمولا المكتوبة في الفينومينولوجيا حتى الآن. ونظرا لطريق المتاهة من خلال جميع الأعمال الأساسية التي يبدو أنها ضرورية لحجته، لم يقترب (هوسرل) من إعلان الهدف الأساسي من عمله حتى المقطع التالي، الموجود في الفصل الثاني:
في هذه الدراسات، سوف نذهب إلى أقصى حد ممكن للتأثير في الرؤية التي نهدف إليها، وهي تحديدا الرؤية التي يملكها الوعي في حد ذاته، كوجود في ذاته لم يتم التطرق إليه في جوهره المطلق من خلال الإقصاء الفينومينولوجي. لذلك تظل كبقايا فينومينولوجية، ومنطقة للكينونة التي لها أهمية جوهرية فريدة تماما ويمكن أن تصبح مجالا لعلم من نوع جديد: الفينومينولوجيا.
وبعبارات واضحة، أعتبر أن هذا يعني أنه إذا كان من الوعي بشيء، فإننا نختزل هذا الشيء، وما يتبقى هو الوعي الخالص. ومن هذا الافتراض الديكارتي بشك أساسي (في رأي)، يستمر (هوسرل) في القول إن خاصية فعل الوعي هي القصدية، التي يعني من خلالها خاصية كونه موجها نحو موضوع. وبعد توجيه نفسه نحو موضوع يضم الوعي عددا كبيرا من البديهيات. وهذه البديهيات يمكن أن تنقسم إلى بديهيات جوهرية وبديهيات متعالية (ترانسندنتالية)، واللتين يمكن تمييزهما على التوالي – وهنا أقوم بالتبسيط الشديد – باعتبارهما أفكارا عن التفكير وأفكارا عن الأشياء. إن مهمة الفينومينولوجيا الصعبة تتمثل في تحديد فعل الوعي الذي قد يفهم من خلال بديهة جوهرية، ولكن لم يلونه التفسير حتى الآن.
والمنهج الذي يزكيه (هوسرل) لهذه المهمة يتبع بنية ذات ثلاثة أطوار. تتكون باختصار من (1) الاختزال الفينومينولوجي حيث يتغير كل شيء في موضع السؤال إلى ظاهرة قابلة للتعريف بواسطة بعض نماذج الوعي (مثل الحدس والتخيل والتذكر.. إلخ)، (2) الاختزال الفكري Eidetic reduction حيث يتم عزل ما هو مستمر بين كل تعددية الوعي، (3) الاختزال الترانسندنتالي transcendental reduction، وسمته المركزية هي الوعي بالزمن، وهو العنصر الضروري لتكوين أي معنى. وقد عمل (هوسرل) على تفسير هذه المرحلة الثالثة طوال حياته: أعتقد أنه من الأفضل فهمها كجسر بين البديهة الأساسية والبديهة الترنسندنتالية التي تتيح مرور الزمن كسياق مشترك.
كل هذا مثير للاهتمام، ولكن للأهداف المطروحة هنا، لا توجد فائدة تذكر من شرح أفكار (هوسرل) بهذا التوسع إن لم نتتبعها في حجة (ستاتس). ولنبدأ إذن مع ذكر لآخر أفكار (هوسرل)، فهناك صلات معينة بين مفهوم “الوعي بالزمن” الضروري لاختزاله الترنسندنتالي وبعض المقولات التي قدمها (ستاتس) في ما يتعلق بمفهوم التطهير باعتباره سجلا تطهيريا مع الزمن، الذي يقدمه في المقطع التالي:
التطهير هو كلمتنا المفضلة لما يحدث عموما في المسرح. إنه على وجه التحديد تطهير: فما يتطهر، على الأقل على المستوى الذي يعنيني هنا، هو الزمن – خطر التتابع من أن تقع الحياة بشكل عشوائي عبر المصادفة والتكرار... المسرحية تلتقط خبرة الإنسان من الزمن وتتيح إنجازا جماليا لعملية نعرف أنها لا نهائية. فالمسرحية تحاكي الآني لكي تزيله من الزمن لكي تعطي الزمن شكلا.
بالنسبة لأولئك الذين قرأوا كتاب (فرانك كيرمود Frank Kermode) «الشعور بالنهاية The Sense of an Ending»، وهو الكتاب الذي أثار الكثير من النقاش الحالي حول «الانغلاق» والجانب ذي الصلة بالسرد، فإن ملاحظة (ستاتس) سوف يكون لها حلقة خاصة وسوف تثير سؤال كيف يمكن القول إن المسرح له مكانة خاصة بين الفنون التاريخية ما دام الاعتبار التطهيري هو المعني. ويمكن أن تبدو الاستجابة الضمنية لهذا التحدي أنها نفس الفكرة، التي يتم التأكيد عليها بواسطة (ستاتس) و(ليسينج)، كما أشرت فعلا: في المسرح «الفعل البشري يمثل الفعل البشري». ولكي أمزج ما سوف أميزه بأنه منسوب إلى (كيرمود) مع (هوسرل)، من أجل التهدئة، يمكننا أن نرى كيف أن التمثيل المباشر لأي فعل يستتبع نفس التجربة الفينومينولوجية مثل التي رسمها (هوسرل) للفعل الحقيقي، ولكن في مقابلة مع الأنا الترانسندنتالية يمكن أن يقال إنها من أجل المطالبة بتفعيل الإدراك بالزمن.
ولإعادة هذه الفكرة بدقة أكثر: هب أننا نفترض، كما يجادل (هوسرل)، أن الأنا المتعالية تربط بين المرور الذاتي للزمن (المحسوس من خلال البديهة الجوهرية) ومرور الزمن في العالم الموضوعي (المحسوس من خلال البديهة المتعالية)، وبذلك تصل إلى مفهوم “الواقع”؛ فهل سيؤدي الترتيب الغريب (أو الفوضى) للزمن الذي يوفره التمثيل الخيالي – ذلك أن الزمن الذي تكون فيه النهاية جوهرية، التي عرّفها (كيرمود) بأنها «عمر أكوينين Aquinine Aevum»، وهو ترتيب ثالث للمدى، يختلف عن الزمن والخلود، ثم يغير مهمة الأنا المتعالية بطريقة من شأنها أن تثير مزيجا معينا من البديهيات الفينومينولوجية؟ ونظرا لمنطلقات الديلكتيك، يجب أن نرد بالإيجاب.
علاوة على ذلك، إذا قبلنا أيضا مع (ليسينج) و(ستاتس) أن المسرح يستنفد الواقع بشكل مباشر أكثر من الفنون الأخرى، فسوف نجد أننا يجب أن ندعم خلاف (ستاتس) بأن فينومينولوجيا المسرح فريدة. ومرة أخرى، قد تكون هذه الفكرة ليست جديدة: فهي نفس الفكرة التي عبر عنها (ديدرو) – ولو بشكل أكثر إيجازا – عندما يعلن أن المسرح “عالم مختلف”.
...................................................................................
• كريج ستيوارت ووكر يعمل أستاذا للدراما في جامعة كوينز في كينجستون بكندا. وينشر بحوثه في Theater Research in Canada، Australian Drama studies، Modern Drama، The Legacy of Northrop Frye.