سيد علي سماعيل يكتب: رحلتي إلى بولندا كشفت لى أسرارا جديدة

سيد علي سماعيل يكتب: رحلتي إلى بولندا كشفت لى أسرارا جديدة

العدد 560 صدر بتاريخ 21مايو2018

 عدت من أوروبا بعد أن حققت إنجازا مسرحيا مرضيا؛ بوصفي أول مصري يلقي مجموعة محاضرات عن المسرح العربي وتاريخه على طلاب قسم اللغة العربية بمعهد الاستشراق منذ 99 سنة، وهو عمر المعهد التابع لكلية الآداب جامعة ياجللونسكي في بولندا، بوصفها من أعرق جامعات أوروبا والعالم، حيث إن عمرها تجاوز 650 سنة!! وعلى الرغم من أن جميع صور وفيديوهات محاضراتي منشورة في صفحاتي بمواقع التواصل الاجتماعي وفي اليوتيوب، وأحدثت دويا هائلا بين الأصدقاء والمسرحيين في العالم العربي ونالت استحسانهم؛ إلا أن هناك أسرارا وخفايا، أرى من الواجب اطلاعكم عليها، قد تنير بعض الجوانب الغامضة، أو تفتح المجال مستقبلا لتعميق العلاقات العلمية والمسرحية بين العرب وبين معهد الاستشراق في بولندا، وهذا ما أهدف إليه من كشفي لأسرار وخفايا هذه الرحلة!!
بدأت قصة هذه الرحلة في مارس (آذار) 2017، عندما كتب صديقي الدكتور محمود العشيري تعليقا في الفيسبوك قال فيه: «صديقي المستشرق الذي قابلته في أقصى بقاع الأرض، حيث لا يعرف الناس أننا موجودون على هذا الكوكب، أتبادل أطراف الحديث معه وهو الذي يحيط بالمسرح المصري كما لا يحيط به كثيرون ممن يعملون به، عندما اقترحت عليه أعمال أخي الأكبر وصديقي د.سيد إسماعيل المؤرخة للمسرح المصري؛ باغتني بقوله: (د.سيد إسماعيل هووووووووا) وظل يتنغم ويتمايل طربا قائلا: (ومن مثل د.سيد إسماعيل...!!) كنت حقا سعيدا وفخورا».
بعد قراءة هذا التعليق اتصلت بصديقي العشيري استفسر منه عن الأمر، فقال: إنه شارك منذ عام في مؤتمر بأوروبا وتقابل مع المستشرق الدكتور سابستيان جادومسكي، وكان يتحدث عن المسرح المصري. وفي فترة الاستراحة بين جلسات المؤتمر دار بينهما الحوار الذي نشره في الفيسبوك، ثم أعطاني رقم هاتف المستشرق، فأرسلت له رسالة شكر عما ذكره في حقي على الواتساب. فكتب لي ردا هذا نصه: «السلام عليكم يا دكتور سيد علي إسماعيل أشكرك جزيل الشكر على رسالتك وكلامك. هذا شرف حقيقي وكبير لي. قرأت مؤلفاتك كلها تقريبا واستفدت منها استفادا عملاقا. ودون مجاملة لا بد أن اعترف بأنني اعتبر كتبك من أهم ما كتب عن المسرح العربي بشكل عام وعن المسرح المصري بشكل خاص في السنوات الأخيرة. مع أطيب تحياتي وتقديري واحترامي – سابستيان جادومسكي».
بعد عدة أشهر تقابلنا في الإسكندرية وتناقشنا في أمور علمية ومسرحية كثيرة، حيث وجدته مهتما بالنصوص المسرحية قبل وبعد ثورة 2011، وأعطيته بعض المقترحات ودار الحديث بيننا في أمور مسرحية أخرى، فباغتني بقوله: أنت موسوعة مسرحية يا دكتور سيد ونريد أن نستفيد من علمك، فهل توافق أن تأتي إلى بولندا لإعطاء بعض المحاضرات، فقلت له سأسعد بذلك. وبعد عدة أشهر استلمت خطاب الدعوة، ولم أشأ نشره أو الإعلان عنه وقتها، خشية تأثيره في حالة فشل المهمة؛ ولكن بعد نجاحها – بتوفيق من الله عز وجل – أستطيع أن أذكره كاملا، وهذا نصه:
» الأستاذ الدكتور / سيد علي إسماعيل أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة حلوان. بناء على مكانتك العلمية في مجال تاريخ المسرح العربي وتوثيقه، تلك المكانة التي وصلت إلى أوروبا، وتحديدا في بولندا، يسرنا دعوتكم للحضور إلى قسم اللغة العربية وآدابها – معهد الاستشراق بجامعة ياجللونسكي (كراكوف، بولندا) في الفترة من 6 إلى 12 مايو (أيار) 2018 لإلقاء مجموعة من المحاضرات العلمية حول تاريخ المسرح العربي ليستفيد منها الطلاب وأعضاء هيئة التدريس بقسم اللغة العربية وآدابها علما بأن كافة تكاليف السفر والإقامة والتنقلات سيتحملها الطرف البولندي».
وتواصلت بعد ذلك مع سابستيان بخصوص برنامج الزيارة وتحديد الموضوعات المسرحية التي سأحاضر فيها، بعد أن علمت أن الطلاب لا يعلمون شيئا عن المسرح العربي!! وبالفعل بدأت تحضير المحاضرات بحيث اشتملت على معلومات عامة دون تفاصيل عن المسرح العربي، ومناسبة للطلاب وفقا لمستوياتهم المختلفة، فمثلا جعلت المحاضرة الأولى بعنوان (كيف نشأ المسرح في الوطن العربي؟) عندما علمت أنها محددة لطلاب الفرقة الثالثة، لأن هذا الموضوع يتناسب مع مستوى تفكيرهم وتمكنهم من اختيار الأطروحات العلمية المطلوبة منهم. وجعلت المحاضرة الثانية بعنوان (كيف عرف العرب المسرح الغربي؟ وكيف عرف الغرب المسرح العربي؟)، لأنها محاضرة لطلاب الفرقتين الأولى والثانية وهذا مستوى يتناسب مع الموضوع وإشباع فضول مستوى طلابه. أما المحاضرة الثالثة والأخيرة فكانت بعنوان (الصورة العامة للمسرح في البلدان العربية)، وهو الموضوع الذي يتناسب مع مستوى الطلاب في الفرقتين الرابعة والخامسة، وهم طلاب مرحلة الماجستير، وهم أهم فئة مستهدفة ومؤهلة للتخصص في المسرح العربي لمن سيشرع منهم في كتابة أطروحته للدكتوراه مستقبلا.
كما اتفقنا أن إلقاء هذه المحاضرات سيكون بالعربية الفصحى المبسطة من أجل تدريب الطلاب أكثر على الاستماع إلى اللغة التي يدرسونها. وتعمدت أن تكون المحاضرات معروضة أمام الطلاب ومشتملة على الصور والوثائق بواسطة (الداتا شو)، حيث إن تأثير الصور أقوى من الكلام المكتوب، وأرسلت إلى الدكتور سابستيان أوراق جميع محاضراتي لتكون بين يديه قبل سفري بأسبوعين، ووجدها تحقق الهدف المنشود في معرفة الطلاب بالمسرح العربي معرفة عامة.
وعندما بدأت القراءة عن بولندا والاستشراق فيها، لاحظت أن أكثر المستشرقين من ألمانيا وإنجلترا وفرنسا وإسبانيا، أما بولندا فليس لها نصيب كبير من المستشرقين!! وعندما وصلت إلى بولندا واستقبلني سابستيان وفي الطريق إلى الفندق قال لي إن أغلب الطلاب في قسم اللغة العربية بمعهد الاستشراق يخجلون من الحديث الشفهي بالعربية، ولكنهم يستمعون إليها جيدا. كما أخبرني بأن الطلاب لا يعلمون شيئا عن المسرح العربي، بل ولا يعلمون أن مسرحا موجودا في البلدان العربية!! كل هذا علمته قبل 24 ساعة من إلقاء أول محاضرة لي!! لذلك قررت أن أغير الهدف من محاضراتي، فبدلا من أن يكون الهدف معرفيا فقط، سأضيف عليه هدفا مهاريا بحيث أعرّف الطلاب المسرح العربي وتاريخه، وفي الوقت نفسه أحثهم على دراسته وعمل أبحاث في بعض موضوعاته من خلال وجهة النظر الأوروبية الاستشراقية.
فمثلا طلبت منهم البحث في أمر المسرح بوصفه فنا غربيا وافدا إلى البلدان العربية، فهل نجحنا كعرب في استقباله واستيعابه وإلباسه الثوب العربي، أم أخطأنا في ذلك؟ وهل كانت عقليتنا أقل من الغرب أم أفضل منهم في التعامل مع هذا الوافد الجديد؟ كما طالبتهم ببحث ظاهرة انتشار المهرجانات المسرحية في البلدان العربية من خلال وجهة النظر الأوروبية الاستشراقية. كذلك طالبتهم بإبداء رأيهم فيما توصلت إليه بخصوص ريادة جيمس سنوا، وقلت لهم صراحة: إنني اجتهدت في هذا الأمر من خلال رؤيتي كعربي في الأمر، ويهمني رؤيتكم كأوروبيين ومستشرقين في الأمر نفسه. ومن يتابع فيديوهات محاضراتي في ال«يوتيوب» سيلحظ أنني شجعتهم على كتابة بحوث متنوعة حول المسرح العربي بوجهة نظر أوروبية استشراقية.
ومن جانب آخر تذكرت مقولة سابستيان بأن الطلاب يخجلون من الحديث الشفهي بالعربية الفصحى لعدم تمكنهم منها بطلاقة. فقمت بتشجيعهم على التحدث والمناقشة والجدال والمحاججة بالعربية الفصحى كما هو واضح في ختام فيديوهات المحاضرات الثلاث. وقد نفذت ذلك بأنني طالبت من كل طالب (وبالدور) أن يسألني أي سؤال يتعلق بالمسرح العربي أو بالمنطقة العربية أو بأي شيء يرغب في معرفته!! ومن هنا جاء التشويق والتشجيع لأن كل طالب أراد أن يثبت أنه يتحدث العربية ويناقش بها. وأتذكر أن سابستيان استحسن طريقتي هذه لطلاب الفرق المتقدمة، وكان مشفقا على طلاب المستوى الأول من التجربة. ورغم ذلك طبقت الأسلوب نفسه على الجميع، وكان طلاب المستوى الأول من أفضل المستويات في النقاش وطرح الأسئلة. وقد يسألني القارئ: هل هم كطلاب أجانب فهموا جيدا ما ذكرته في المحاضرات بالعربية الفصحى؟ والإجابة على هذا السؤال، جاءتني من صديقي الشاعر الدكتور يوسف شحادة – الأستاذ بالقسم في المعهد – عندما حضر مع الطلاب المحاضرة الأخيرة، فسألهم بعدها مباشرة: هل فهمتم ما ذكره الدكتور سيد في المحاضرة؟ فقالوا له: نعم فهمنا أغلب ما طرحه بالعربية بنسبة كبيرة وصلت إلى 80%
ومن المواقف المهمة التي حدثت مع الطلاب، إنني سألت في أول محاضرة سؤالا، قلت فيه: من منكم يعرف أي شيء عن المسرح العربي؟ فلم يجب أي طالب!! فكررت السؤال مرة أخرى، ولم أتلق أية إجابة!! وعندما أنهيت المحاضرة، سألهم سابستيان: هل منكم من سيقرأ أو يكتب عن المسرح العربي في أطروحته مستقبلا، فجاءه أكثر من رد إيجابي بأنهم سيقومون بذلك؛ لذلك وضعت في مكتبة القسم 16 كتابا من مؤلفاتي عن المسرح العربي، لتكون نواة للطلاب في معرفة المسرح العربي. واتفقت مع سابستيان بأنني على استعداد لإمداد أي طالب مستقبلا بالمراجع العلمية المسرحية في حالة تخصيص أطروحته حول المسرح العربي. كما سعدت جدا بمناقشة الطلاب عندما أنهي المحاضرة معهم، وأجدهم يسألون عن المسرح العربي ومقارنته بالمسرح الغربي، وسؤالهم عن أهم مسرح في مصر، ومن هي أفضل ممثلة مسرحية، وما هو أهم مسرح، وما هو أهم مهرجان، ومن هو أهم كاتب مسرحي.. إلخ
وفي اليوم الثالث من زيارتي لبولندا، تقابلت مع الدكتورة المستشرقة باربارا ميخالاك بيكولسكا رئيسة قسم اللغة العربية ومديرة معهد الاستشراق بالجامعة، وتحدثت معي في أنها تتوقع أن تزداد الدراسات حول المسرح العربي بعد زيارتي هذه، بسبب ما سمعته من الأثر الإيجابي لأول محاضرة لي، وأبانت لي عن سعادتها بما سمعته عني من الدكتور سابستيان الذي يُعد المتخصص الأول في الدراسات المسرحية العربية في معهد الاستشراق. ودار نقاش بيني وبينها في حضور سابستيان، حيث نقلت لي رغبتها في أن أصفها وأصف سابستسيان أيضا بالمستعرب وليس بالمستشرق!! وأبان سابستيان وجهة نظره في الأمر، بأن المستشرق هو الشخص الذي يعرف أكثر من لغة شرقية مثل (العربية والعبرية والفارسية والتركية والهندية... إلخ)، أما باربارا وسابستيان فهما متخصصان في اللغة العربية فقط، لذلك هما مستعربان!! ناهيك بعلمهما بأن اسم مستشرق غير مستحب عند العرب، لأنه يرتبط بالتجسس والاستعمار، فوافقتهما على رأيهما هذا.
وبهذه المناسبة أقول: إن الدكتور المستعرب سابستيان جادومسكي سيكون اسما مهما في تاريخ الدراسات المسرحية العربية مستقبلا؛ حيث إنه كتب عن المسرح في الإمارات، وترجم إلى البولندية مسرحية من تأليف الشيخ سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة، ويكتب الآن موازنة بين مسرحيات مصرية قبل وبعد ثورة 2011. وهذا يعني أنه سيصبح المستعرب الأشهر في مجال المسرح العربي مستقبلا. وبهذه المناسبة أخذني سابستيان في زيارة سياحية إلى منجم الملح تحت الأرض بمائة وخمسين مترا لأشاهد مدينة كاملة منحوتة في الصخور الملحية، وكانت المفاجأة أنني رأيت مسرحا كاملا منحوتا داخل هذا منجم الملحي!!
وفي اليوم الأخير من زيارتي إلى بولندا، وبعد نجاح محاضراتي سلمني الدكتور سابستيان خطابا رسميا من عميدة معهد الاستشراق الدكتورة باربارا، أهم ما جاء فيه إنني «أول أستاذ أكاديمي عربي ألقى محاضرات عن المسرح العربي في معهد الاستشراق في السنوات الأخيرة» وأنني قمت «بإلقاء هذه المحاضرات باقتدار كبير، ونلت إعجاب الطلاب، ونجحت في تحقيق الهدف المنشود في معرفة الطلاب بالمسرح العربي، وحثهم على داسته مستقبلا». هذا النجاح أسفر عن اقتراح جديد من الدكتورة باربارا بأن أكون أستاذا زائرا لمدة فصل دراسي واحد مستقبلا، فأبديت موافقتي لتقوم إدارة جامعة ياجللونسكي باتخاذ الإجراءات الأولية لهذه المهمة، التي من المتوقع تنفيذها – بمشيئة الله - بعد ثلاثة أعوام وفقا لنظام استضافة الأساتذة الزائرين في الجامعة البولندية.
آخر مقترح تناقشت فيه مع سابستيان، تمثل في نشر كتاب يجمع تفريغ هذه المحاضرات؛ بوصفها أول محاضرات تُلقى بالعربية في المعهد من قبل أكاديمي مصري حول المسرح العربي وتاريخه، على أن تُنشر المحاضرات داخل الكتاب باللغات الثلاث: العربية والإنجليزية والبولندية، وهو سيقوم بترجمتها إلى البولندية. وبهذه المناسبة أقول إن الدكتورة سامية حبيب كان لها السبق، عندما اقترحت - قبل سفري – في صفحة الجمعية الدولية لنقاد المسرح (IATC - EGYPT) بالفيسبوك بأن تُترجم محاضراتي التي سألقيها في بولندا عن المسرح العربي إلى الإنجليزية. وأخيرا أقول: الحمد لله حمدا كثيرا على ما منحني الله من مكانة علمية ما كنت أحلم بجزء منها يوما ما!!


سيد علي إسماعيل