مذكرات نجيب الريحاني الحقيقية والمجهولة(8) الريحاني يهاجم الجميع!!

مذكرات نجيب الريحاني الحقيقية والمجهولة(8) الريحاني يهاجم الجميع!!

العدد 816 صدر بتاريخ 17أبريل2023

في صيف عام 1934 كان الريحاني وفرقته يعرضون مسرحياتهم في تياترو «لونابارك» بالإبراهيمية بجوار محطة الترام بالإسكندرية مساءً، بالإضافة إلى حفلة نهارية كل يوم خميس في كازينو «الأنفوشي». ومن هذه العروض: الدنيا لما تضحك، أولاد الحلال، ياسمينة، نجمة الصبح، عباسية، أموت في كده، مستشفى المجاذيب، علشان سواد عينها، أتبحبح. وفي جميع إعلانات هذه العروض –المنشورة في الصحف والمجلات- توجد عبارة لا تتغير، وهي: «ثلاثون ممثلة وراقصة على المسرح!!».
وهذه العبارة لفتت نظر محرر جريدة «أبو الهول»، فقرر أن يقيم حوارا مع الريحاني بخصوصها ولكن بطريقة غير مباشرة، فذهب إليه في المسرح ونجح في أخذ الحوار – ونشره في الجريدة في منتصف يوليو 1934 - وكان حوارا غريبا تسبب في لغط كبير بسبب هجوم الريحاني على الممثلات والممثلين والإعلام.. إلخ!! وهذه تفاصيل الحوار المنشور، كما رواها محرر الجريدة:
نزلت الستار على الفصل الأول مساء الجمعة الماضي بمسرح لونابارك بالإسكندرية، وخرج الأستاذ نجيب الريحاني من المسرح يجفف عرقه فتصيدته في فترة «الأنتراكت» وخلَونا بعيدا عن الأنظار نشرب قهوة الإسكندرية الجميلة.. ولكن هل تظن أننا سنظل صامتين؟ لا، لم يكن هذا أمرا طبيعيا بين صحفي ومدير فرقة، فكان لا بد أن أسأله: «ماذا ينقص الممثلات عندنا في مصر؟» فأجاب: ينقص الممثلات؟!! إلى الآن لا توجد عندنا ممثلة على الإطلاق، ولا يمكن أن أعترف بوجود ممثلة بيننا بأي حال!! ربما كانت هناك ممثلة خفيفة الظل والروح تدخل في قلب المتفرج.. ولكن هذا النوع قلما تجده أو تعثر عليه.. خذ مثلا «زوزو حمدي الحكيم» التي تعمل معي الآن!! أين هوايتها التي يجب أن تعمل بها في التمثيل؟ إنها غير موجودة. لماذا؟ لأنها في بدء عهدها بالمسرح كانت «الغِيّة» تملك عليها نفسها، فلما قيل لها إنها «كويسة» وإن لها مستقبلا، وإن لها كذا وكذا، طغت عليها الأنانية فضاعت مواهبها، وأصبحت لا شيء بالمرة!! واستبدلت مهنة التمثيل بشيء آخر شغلها عن الفن الذي كانت قد وقفت حياتها له وعلى خدمته.
استغل الصحفي حماس الريحاني في هجومه على «زوزو حمدي الحكيم»؛ النجمة المتألقة بطلة فرقة فاطمة رشدي، والمتفوقة في معهد فن التمثيل العربي، وبادره بسؤال آخر، قال فيه: «وما هو السبيل لإيجاد ممثلات جديدات؟». فأجاب الريحاني قائلا: الممثلة قبل كل شيء يجب لكي تكون ممثلة بمعنى الكلمة أن تتوفر لديها الموهبة الفنية والثقافة الفنية، التي لا تكون بطبيعة الحال إلا بالثقافة الأدبية. وكلتا الثقافتين معدومة بكل تأكيد!! نعم، يمكن لمدير الفرقة أن يتعهد الممثلة ويزودها بمعلوماته ونصائحه وفنه، لتكون ممثلة يعتمد عليها.. ولكن أستطيع أن أقول لك بصراحة، وبعد تجارب عديدة، وخبرة أكيدة من خدمتي للمسرح كل هذه السنين الطوال، إنه من الخطأ أن يقدم مدير الفرقة بإعطاء أية ممثلة قسطا من تعاليمه وإرشاداته الفنية، لأنه بذلك يسلحها ضد نفسه! فمتى كبرت الممثلة وتزودت بالفن واعتقدت في نفسها أنها أصبحت ممثلة، تناست هذا الذي دربها، وهذا الذي خلق «الشربات من الفسيخ» فتتمرد عليه ويتملكها الغرور وحب الذات، وتتمثل فيها الأنانية بأكملها، فلا تسمع له قولا ولا تنفذ له أمرا، وتهدده كل يوم وآخر بالانفصال كأنها خلقت من بطن أمها ممثلة! وقد يبلغ بها الجحود إلى عدم الاعتراف بفضله، ناكرة جميله، ناسية مجهوده. فكيف بالله عليك يتقدم مدير فرقة وهذا حال مدعيات التمثيل عندنا، إلى ممثلة مدعية ليزودها بفنه فتعاديه ويخلق فيها النبوغ لتتمرد عليه؟ لا.. لا.. هذا خطأ، هذا مستحيل.. وهذا يرجع إلى انعدام الثقافة لأن النفسية المثقفة لا يمكن أن ترى منها جحودا للفضل أو نكرانا للجميل.
استغل الصحفي هذه الإجابة، وبنى عليها سؤالا جديدا طرحه على الريحاني قائلا: «وكيف تريد أن توجد الثقافة؟». فأجاب الريحاني: أقول لك.. مثلا الطلبة منهم من يهوى الأدب، ومنهم من يهوى الرياضة، فهواة الأدب يواظبون على دراساتهم نثرا كان أم شعرا، وهنا تكون قد توفرت الثقافة الأدبية. ولكن ما دام هذا شأنه كأديب فإنك تجده يجيد الإلقاء ومخارج الألفاظ، وهذه هي الثقافة الفنية خلقت في الأديب بطبيعته لاتصال الثقافتين ببعضهما، ولحاجة كل ثقافة منها للأخرى. وهذا المثقف أدبيا وفنيا لا بُدّ أنه يذهب لمشاهدة التمثيل، وفي أثناء مشاهدته لا بُدّ أن يكون له رأي في الإلقاء أولا، وفى لغة المسرح ثانيا، فتجده يصور شخصيات الرواية وهو يشاهدها، وينتقد الممثلين في أدوارهم وهم يمثلون أمامه، ويعرف من دراساته ومن ثقافته ما يتطلبه كل دور. وإذن فتكون قد وجدت عنده الفكرة كاملة وربما يظن بعد ذلك أنه أصبح على استعداد للتمثيل. ولكن لا، ذلك أنه إذا ما أصبح هاويا للتمثيل فإنه يجب ألا يتقدم في بداية الأمر ليأخذ دورا كما هو شأن الهواة في هذه الأيام!! ومع الأسف ترى الهاوي لا يعرف قدر هوايته، ولكنه يتقدم أولا هاويا ومهمة الهاوي الحقيقية أن يجلس ليشاهد المدير الفني وكيف يبرز كل فكرة، ويتفهم كل دور ليظهره، وبذلك يستكمل معلوماته، ويكب على دراساته حتى يكون صالحا للعمل.. وكان هذا شأني أثناء هوايتي وقبل احترافي التمثيل؛ إذ كنت أواظب على مشاهدة روايات المرحوم الشيخ سلامة حجازي، وأنتقد أدوارها وشخصياتها وممثليها في الوقت الذي هويت فيه هذا الفن. وإذا عرفنا أن هذه القاعدة يجب أن تكون عند الممثل عرفنا أن طريقة الممثلين عندنا كلها خطأ، لأن الممثل لا يريد أن يتفهم دوره وشخصيته ليندمج ويعيش فيه، إنما هو يكتفى بأن يحفظه.. وليته يحفظه؛ بل هو لا ينظر فيه إلا حين حضوره للبروفة.. بل ويعتقد أن ذلك يؤديه فوق المستطاع ويكون متسامحا كل التسامح.
إلى هنا أظن أن الريحاني لاحظ أن الصحفي لم يفهم وجهة نظره، لأنه أكمل إجابته بشيء من التفصيل، واتخذ من نفسه مثالا دالا على ما يقول!! فأكمل إجابته قائلا: أريد أن أفهمك لماذا تنجح رواياتي دائما ولم تسقط رواية منها، ذلك أنك إذا حضرت رواية جديدة أخرجتها ترى ما أخرجه من مجهود.. أظل أنفخ في الممثل، وأنفخ، وأنفخ، حتى يستطيع أن يؤدي دوره كما أريد، وأكون قد أهلكت نفسي معه، فإذا ما جاء وقت تمثيل الرواية وجدته كتعاليمي التي أعطيتها له، وهو لا يعلم قيمة هذه التعاليم، إنما هو يؤديها كأوامري له، وهذا يرجع إلى عدم ثقافة الممثلين الفنية والأدبية أيضا. ويخرج الممثل من عندي فيظن أنه ممثل عظيم، ولكنه ممثل عظيم لي فقط ولرواياتي ليس إلا.. وإذا استطاع أن يعيش على حساب هذه التعاليم، فلا يعيش إلا عاما أو اثنين على الأكثر ثم يقف عند حده ويصبح لا شيء.. ومن البديهي أني لا أعلّمه ما يصلح له خارج فرقتي!
إلى هنا عزيزي القارئ، يحق لك أن تشك في أن المتحدث هو الريحاني!! بل ويحق لك أن تشك في الموضوع نفسه، وتتساءل: هل فعلا نجيب الريحاني قال هذا الكلام؟! وهل فعلا هذا الكلام منشور في صحيفة وقرأه الناس وقتذاك؟!! عموما إذا كنت متعجبا لما سبق من كلام الريحاني، فإليك تكملة أقواله للصحفي لتزداد عجبا على عجب!!
قال الريحاني للصحفي في محاولة لزيادة توضيح فكرته ووجهة نظره: ثم لا تنسَ أنه يجب أن يكون لهذا الهاوي في بداية عهده بالتمثيل أستاذ يقتدي به يعشقه ويعشق فنه بالمعنى الصحيح، حتى يندمج معه وفي فنه!! وبمن تظن يكون الاقتداء؟!! بالأستاذ عزيز عيد.. نعم، أقول بالأستاذ عزيز عيد لأنه نوع ما، ولا أقول بالأستاذ يوسف وهبي فالأستاذ يوسف ليست عنده الثقافة الفنية المطلوبة مطلقا. أما ميزة يوسف وهبي في تمثيله ونجاحه أن عنده من «العصبية» في الأدوار ما يساعده على أن يؤثر على الجمهور. وهذه من نعم الله على «أبو حجاج» ولولاها ما كان شيئا.. فهو بهذه «العصبية» يؤثر عليه ويجعله يندمج معه، ويجعل الجمهور يخرج يتيه إعجابا به وينطق ثناء عليه، ولكن على «عصبيته» لا على فنه! ولا أظن أن هذه الروايات «التهويشية» التي يخرجها الأستاذ يوسف وهبي إلا من تأليف صبي!! لأنها وليدة من خيالات الأطفال!! فإن أي طفل يمكن أن يجلس ويتخيل حلما فيه قتل، وفيه شنق، وفيه موت، وفيه جناية، يجد نفسه في دراما مفيش كده في الدنيا (تبكّي اللي طول عمره ما يبكيش، وتحزّن اللي ما يحزن)، وهذه تعد مهارة، لكنها المهارة الخارجة عن دائرة الفن. 
ومن الواضح أن الريحاني كان في حالة مزاجية غير مستقرة، فكل هذا الهجوم على يوسف وهبي كان مفاجأة للصحفي وللجمهور أيضا!! وواضح أن الريحاني قرر ألا يتوقف في حواره عند الهجوم على زوزو حمدي الحكيم، وعلى يوسف وهبي.. فهاجم أكثر منهما، وجعل من نفسه المعلم الأوحد القادر على تدريس التمثيل وتخريج الممثلين في مصر بأكملها!! وهذا ما ذكره الريحاني في أهم جزء من الحوار، وهو أشرس جزء منشور، وفيه قال الريحاني:
أقسم لك أنني لو تفرغت لإخراج ممثلين -أعطني ثلاثة أعوام فقط على شرط ألا أشغل نفسي بشيء آخر سوى تعليمهم- أُخرج لك بعد هذه السنوات الثلاث فطاحل بمعنى الكلمة، يرفعون رؤوسهم عن علم وخبرة ودراية فنية صحيحة، وليس مثل هؤلاء الأدعياء الذين تملك الغرور نفوسهم على لا شيء! لقد قابلني الأستاذ عزيز عيد مصادفة على غير موعد بشارع عماد الدين. وجلسنا في قهوة وأخذ يعاتبني على ما صرحت به على صفحات «الصباح» الغراء بشأن ممثلي الدراما، ولكني على الرغم من ذلك صارحته مما أرضيت به نفسي، وأرضيت به ضميري، وضربت له مثلا بما شاهدته من تمثيل «حسن البارودي»، وغيره من زملائه الذين يتكلفون في التمثيل، كلفة مكروهة ليست متفقة مع الطبيعة بفضل التعاليم الخاطئة، التي تلقوها على يديه لأن التمثيل في الواقع ليس إلقاء كلمات فقط. وإلا كان أفضل منه أن تسمع قصة بأذنيك أو تقرأها في كتاب. ولكن يجب أن يكون هناك فرق بين قصة تُقرأ وبين قصة تراها، وترى أبطالها يعيشون على المسرح ويريد المتفرج أن يحس بإحساسهم، فإذا هم لم يخرجوها على صحتها، فقد المتفرج إحساسه لأنه لا يمكن أن يشعر أو يندمج في شيء غير طبيعي، ولم أكتفِ بأن أصارحه بذلك فقط؛ بل ألقيت عليه تبعة فشل السيدة «فاطمة رشدي» في الحياة الفنية!! وفي الحقيقة السيدة فاطمة رشدي سيدة جميلة الوجه، كان عندها أكبر استعداد للظهور على المسرح لتنبغ وتصبح قديرة. ولكن تعاليم الأستاذ عزيز عيد هي التي أسقطتها.. هل تعرف ماذا قال عزيز عيد على إثر هذا التصريح؟ قال: «هذه التعاليم التي أعطيتها لهم تعاليم وقتية ليست كافية نظرا لعدم وجود الوقت الكافي». ولا شك أن هذا اعتراف من عزيز نفسه بصحة وجهة نظري. ثم انظر بعد ذلك.. دعاني عزيز لأشاهد رواية «ليلة من ألف ليلة» ولأشاهد دوره فيها، وأنتقده. وكنت قد سمعت من مئات الناس أن هذا الدور من أدوار عزيز الخالدة، فلبيت الدعوة وشاهدت الرواية، ثم طالبني عزيز بأن أبدي رأيي، ماذا تظن قلت له؟ قلت له إن هذا تهريج.. لأن رجلا مثل شحاتة خرج ليبحث عن الذي خطف زوجته وجلس على باب المسجد ليترقب الغادي والرائح، لا بُدّ أن يكون متأثرا.. وإذا كان لا بُدّ أن «ينكت».. فالنكتة التي ينطق بها لا بُدّ أن يجعل المتفرج يشعر بأنه يقولها بمرارة تحت تأثير نفسيته. وقد رأيت من عزيز في هذا الدور على العكس، ودافع عزيز عن نفسه أمامي بأنه يقول كلاما وضعه المؤلف.. وغريب أن يقول عزيز ذلك.. ألم يكن في استطاعته تكوين الشخصية كمخرج؟ وأليس تكوين الشخصيات أول أساس لإبراز الرواية للجمهور؟
شعر الصحفي بأنه نال حوارا غير مسبوق، فاختتمه بسؤال للريحاني قال فيه: «هل لا يمكن إيجاد طريقة لإيجاد عناصر تتعهدها بفنك لتخرجها؟، فأجاب الريحاني قائلا: إن شاء الله- في الموسم القادم سأعمل على أن أتعهد عناصر جديدة ليست جديدة؟ إنما هي عناصر حديثة لم يؤثر عليها الجهل بالفن إلى النهاية، وبأجسام مخصوصة مثل «روحية خالد» هذه ممثلة حقيقية عندها استعداد فني عظيم، ومثل «أمينه محمد»، هذه أيضا يمكن استغلالها».
انتهى الحوار وتم نشره، وبعد عدة أسابيع تصدى له الممثل «حسن البارودي» ورد على الريحاني ردا، نشرته الجريدة، وسننشره في المقالة القادمة! وهنا يجب أن أنوه إلى ما جاء في الحوار بأن الريحاني تحدث عن الممثلين في مجلة «الصباح»، وأنه نشر الحوار في جريدة «أبو الهول»!! وهذا الأمر سيتكرر كثيرا فيما بعد، حيث سيلاحظ القارئ أننا نتحدث عما جاء في مجلة «الصباح»، ونستكمل حديثنا بما جاء في جريدة «أبو الهول» والعكس صحيح!! وحتى أوضح هذا الأمر أقول: إن صاحب مجلة «الصباح» وجريدة «أبو الهول» هو «مصطفى القشاشي»!! وجريدة «أبو الهول» جريدة يومية بها صفحة للفن، أما مجلة «الصباح» فأسبوعية وكلها عن الفن!! لذلك كان بعض ما يُنشر كل يوم في جريدة «أبو الهول» يُنشر مُجمعا في نهاية الأسبوع في مجلة «الصباح»!!


سيد علي إسماعيل