شُرم بُرم.. مفاجأة درويش الأسيوطى!

شُرم بُرم.. مفاجأة درويش الأسيوطى!

العدد 942 صدر بتاريخ 15سبتمبر2025

تحت رقم «260» أحتفظ بنص مخطوط - مكتوب بالآلة الكاتبة - لمسرحية «شرم برم»، تقدمت به فرقة أسيوط القومية عام 1987 إلى الرقابة من أجل التصريح بتمثيله. ومكتوب على الصفحة الأولى أن النص تأليف الكاتب العراقى «عبد الفتاح رواس»، أشعار «درويش الأسيوطي»، صياغة وإخراج «رأفت الدويري». وللأسف الرقابة رفضت هذا النص، ثم تراجعت ووافقت على عرضه لمدة «ليلة واحدة»! هذا هو التاريخ الرسمى الموثق لهذا النص كما تثبته الوثائق المرفقة به! لكن هناك حكاية أخرى خلف هذه الوثائق، تقول إن المؤلف العراقى هو مؤلف سورى، وأن رأفت الدويرى لم يقم بصياغة النص، بل من قام بتمصيره أو إعداده هو «درويش الأسيوطى» الذى أخفى اسمه! وأن الرقابة رفضت النص بسبب عنوانه! وعندما تم تغيير العنوان صرحت الرقابة بالعرض ليوم واحد، فقامت الفرقة بعرضه أسبوعين! هذه خلاصة الموضوع، وإليك تفاصيله:
من الواضح أن هذا النص هو أول نص يتم عرضه فى مصر من تأليف هذا المؤلف، بدليل أنهم ظنوه كاتبًا عراقيًا، والحقيقة أن المؤلف هو الدكتور المرحوم «عبدالفتاح رواس قلعجي» الكاتب المسرحى السورى الشهير!
كتب الرقيب «فتحى عمران» تقريرًا رقابيًا، قال فيه: “مسرحية مُعدّة عن نص للكاتب العراقى عبد الفتاح قلعجى تبدأ بمشهد لمُعلم يلقى تعاليمه على مجموعة من الطلاب غير محددى الملامح ليبث فيهم ويعلمهم سمات العصر ويضع أيديهم على حقائق مشوهة أو شوهت بما يقترفه الإنسان من جرائم فى حق أخيه الإنسان.. فلم يعد مكان للبطولة التى أفسد معناها التسلط والظلم والفساد فى أنظمة الحكم المستبدة التى تضع المصالح الشخصية فوق الصالح العام. ينتقل المؤلف إلى مشهد قصر ملكى يبدو أنه فى زمن الحملات الصليبية.. يستعرض المؤلف شخصيات كان لها أكبر أثر إيجابى أو سلبى مثل الأمير أرناط قائد من قواد الحملة الصليبية والمعروف بتعصبه الدينى، كذلك استعان المُعد بشذرات من التاريخ ليضمنها نص المسرحية فالمخايل أو المهرج شخصية ظهرت فى كل قصور الحكام إلا أن مخايل هذا القصر قدم عرضًا لم يُعجب السلطان ولم يخرجه من الكآبة التى سيطرت عليه نتيجة إحساسه بأن الرعية لا تهتم به. وقد استباح المؤلف أو المعد لنفسه التجول بين صفات التاريخ ليعبث بها ويقدم صورة مشوهة عن التاريخ العربى المجيد. «الرأي»: المسرحية عبارة عن مشاهد متفرقة لا يربطها سوى إصرار المعد على تشويه التاريخ العربى ولذا أرى عدم التصريح بهذه المحاولة المسرحية لتعارضها مع النظام العام ومحاولتها إثارة البلبلة، لذا أرى من الضرورى عدم التصريح بمثل هذه الأعمال”.
وكتب الرقيب «شوقى شحاتة» فى تقريره ملخصًا مشابهًا لملخص الرقيب السابق، ولكنه أنهى تقريره برأى قال فيه: “لما كانت المسرحية رمزية تحاول إسقاط مساوئ عهد المماليك على الحاضر، لذا أرى عدم الموافقة على المسرحية”. أما الرقيب الثالث فقال فى تقريره: “المسرحية من المسرحيات الرمزية التى تخلط بين الماضى والحاضر فتجعل السلطان أساس الفساد والجوع والفقر للشعب. والمسرحية تظهر فى بعض مشاهدها ومشاكلها الواقع العصرى لنا لما يعانيه الشعب من بعض النواحى الاقتصادية حيث إن السلطان يعمل من أجل نفسه، لذا نرى عدم الترخيص بهذه المسرحية حفاظًا على الأمن العام، تطبيقًا للقانون الرقابي”.
أما التقرير النهائى الذى كتبه مدير مراقبة المسرحيات، فقال فيه: “الموضوع حول سلطان ظالم لاه وحاشيته التى تعميه عن الحقائق لصالحها وتزين له الأمور وينتهى العمل بموت السلطان الذى يزيف المذيع وصفه بما يصوره كبطل أسطوري”. ثم يثبت المدير – فى تقريره - أنه قرأ التقارير الثلاثة السابقة، ويذكر أسماء الرقباء: شوقى شحاتة، وفتحى عمران، وفاروق البهائى، وأنهم رفضوا النص بالإجماع! وبدلًا من إقرار الرفض – بناء على إجماع الرقباء – كتب الآتي: “وقد سبق لنا قراءة النص الأصلى واعترضنا عليه، وقد قدّم المُعدّ نصًا معدلًا طبقًا للمناقشة معه، وأرى الترخيص بالنص ليوم واحد بعد حذف الملاحظات ص(10، 14، 15، 17، 23، 25، 26، 29)”. وفى نهاية هذا التقرير وجدت صيغة استلام النص هكذا: “استلمت نسخة الرقابة يوم 8/2/1987 [توقيع] «عاطف رشدى فهيم» أمين مخازن قصر ثقافة أسيوط، بطاقة ع 26747 ثان أسيوط.
ومن أمثلة مواضع الحذف الرقابى، هذا الحوار بين الرجل والسلطان: «الرجل: كنت أحاول أحمل إليك صوت الشعب، منذ أن بدأت الحرب والأسعار ترتفع بجنون.. المواد الغذائية تختفى من السوق كل شيء يحتكر البطالة تتفشى. السلطان: نحن فى حالة حرب. الرجل: أنتم يا سيدى.. أما نحن ففى حالة جوع. السلطان: ألم نكافح أسباب الجوع ونقضى على المستغلين؟ ألم نصدر قانون مكافحة الجوع؟ أليس صحيحًا ما أقول يا وزيرى. الوزير: (كان غافلًا وفوجئ بسؤال السلطان) صحيح يا مولاى.. ولا الصحيح. السلطان: الجوع. الوزير: نعم.. نعم هناك جوع. السلطان: هناك قانون لمكافحة الجوع. الرجل: على الورق يا سيدى».
صدر الترخيص ونصه موجود فى نهاية النص هكذا: “لا مانع من الترخيص بنص مسرحية «شرم برم» لقصر ثقافة أسيوط، على أن يراعى الآتي: حذف الملاحظات ص 10، 14، 15، 17، 23، 25، 26، 29. وذلك لمدة ليلة واحدة فقط، على أن تخطر الرقابة بموعدى التجربة النهائية والعرض الأول، وتُراعى الآداب العامة فى الأداء والملابس”. ثم خاتم الرقابة ومكتوب بداخله: إدارة رقابة المسرحيات، رقم الترخيص «25»، تاريخه 8/2/1987.
كل ما سبق كنت أعرفه وقرأته منذ أن احتفظت بالنص ووثائقه ضمن مئات النصوص المسرحية التى حصلت عليها منذ ثلاثين سنة، لكن الأستاذ «محمد الروبى» - رئيس تحرير مسرحنا – نشر فى نشرة المهرجان القومى للمسرح المصرى يوم 26/7/2025 كلمة - عن كاتب أشعار المسرحية «درويش الأسيوطى» - عنوانها «فى محبة درويشنا الأسيوطى»، قال فيها:
«هو قدّيس التراث، وحارس الذاكرة، وراقص فى محراب الأجداد.. تخدعك ملامح وجهه أول الأمر، فتظنك أمام رجلٍ قاسٍ، جهم النظرات، لا يبتسم كثيرًا. لكن ما إن تجلس إليه دقائق، حتى تُدرك أنك فى حضرة درويش حقيقى. لا بالاسم وحده، بل بالروح أيضًا.. درويش يرقص، نعم يرقص، لا على موسيقى خارجية، بل على نغمةٍ داخلية، تنبع من إيمانه العميق بأنه ابن شجرة حضارية ضاربة فى عمق الزمان، متعددة اللحاءات، موغلة فى التنوع والثراء. وقد نذر نفسه، عن طيب خاطر، للكشف عنها، ورعايتها، وتقديمها للناس بحبٍّ وفخر.. تلك الوجوه الشعبية التى تمرّ بنا سريعًا فى الحقول، والمواويل، والأمثال، تقف أمامه طويلًا. هو لا يمرّ على التراث كمارٍ عابر، بل كعاشق، كباحث، كمؤمن بأن المستقبل لا يُبنى إلا فوق جذورٍ تُروى بالمعرفة.. ودرويش الأسيوطى، لمن لا يعرف من شبابنا، هو شاعر وكاتب مسرحى وباحث فى التراث الشعبى، من مواليد عام 1946 بقرية الهمامية - مركز البدارى - محافظة أسيوط. واحد من الأصوات الإبداعية الأصيلة فى الثقافة المصرية المعاصرة، كتب أكثر من عشرين ديوانًا شعريًا، تُرجم بعضها إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وصدرت أعماله الكاملة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة. نال جائزة الدولة فى الشعر، وله رصيد زاخر من المسرحيات التى كتبها للكبار والصغار، تم تنفيذها فى مصر والعالم العربى، وحصدت العديد من الجوائز. كما نُشرت مؤلفاته فى أبرز المجلات الأدبية فى مصر والعالم العربى، وترك أثرًا لا يُنسى فى ميادين الشعر والمسرح والبحث الشعبى. فى المسرح لم يكن درويش الأسيوطى مجرد كاتب تقليدى، بل كان صاحب رؤية خاصة تُعيد صياغة العلاقة بين المسرح والتراث. هو من القلائل الذين جعلوا من الخشبة معبرًا حيًّا للذاكرة الشعبية، مستلهمًا الحكايات والمواويل والعادات والأساطير من بيئته الصعيدية ليحوّلها إلى أعمال مسرحية نابضة بالحياة. فى نصوصه، لا يظهر التراث كخلفية أو ديكور، بل كجوهر درامى، ينبض بالحكمة الشعبية ويمنح الشخصيات عمقًا إنسانيًا. كُتب للأسيوطى أن يرى فى كل حكاء شعبى ممثلًا بالفطرة، وفى كل أغنية تراثية إمكانًا لمشهد، وفى كل مثل شعبى إمكانية لصراع درامى كامل. وقد امتدت تجربته لتشمل مسرح الطفل أيضًا، حيث قدّم نصوصًا تمزج الخيال بالحكاية الشعبية، مانحًا الطفل فرصة أن يرى نفسه فى مرآة أجداده. وبهذا، استطاع أن يُعيد الاعتبار للتراث بوصفه مادة حيّة قادرة على التجدد، لا مجرد ذكرى ماضوية تُعلّق على الجدران. بارك الله لنا فى عطاء درويشنا.. وكل التحية لمهرجاننا المصرى على هذه اللفتة التى منحتنا فرصة أن نقول لشيخنا شكرا.. شكرا على كل شيء».
هذا ما كتبه الأستاذ «محمد الروبى»، ونقلته هنا كاملًا لسببين: الأول أن جريدة مسرحنا لها موقع والعدد يصدر فى ملف إلكترونى، ما يعنى سهولة الوصول إلى الموقع، والاحتفاظ بملفات الأعداد، ما يعنى أننى أقوم الآن بتوثيق هذه الكلمة بصورة أقوى من نشرها فى نشرة المهرجان! أما السبب الآخر فإننى علقت على هذه الكلمة عندما نشرها الأستاذ «محمد الروبى» فى صفحته بفيسبوك، قائلًا عن درويش الأسيوطى: «يستحق الكثير.. ومنذ أيام وأثناء نبشى فى الأوراق اكتشفت أنه كان السبب فى معرفة الصعيد وأسيوط تحديدًا - وربما مصر - بكتابات المرحوم الدكتور السورى «عبد الفتاح قلعجي» عندما كتب أشعار مسرحيته «شرم برم» وعرضها فى أسيوط عام 1987». فرد على الأستاذ درويش معلقًا على كلامى، قائلًا: «من غير المعروف أننى من قمت بتمصير «صناعة الأعداد» محبة فى عمنا رأفت الدويرى واسميتها «سلاطين عمولة» لكن الرقابة لم توافق على العنوان فقال لهم رأفت أسميه‍ إيه «شرم برم» قالوا سميها!».
هنا قررت أن أعود إلى النص مرة أخرى، لتوثيق شهادة الأستاذ درويش الأسيوطى؛ لأنه كشف عن أمور غير معروفة – فى تعليقه السابق - منها أنه هو الذى قام بالإعداد أو التمصير، وأن العنوان الأصلى للمسرحية هو «صناعة الأعداد»، أما النص المُمصر أو المُعد فكان عنوانه «سلاطين عمولة»، وهو العنوان الذى اعترضت عليه الرقابة، فسخر المخرج رأفت الدويرى وتعصب وقال ساخرًا للرقباء: هل أسميها «شرم برم»، فارتفعت نبرة السخرية بين المخرج والرقباء، فقالوا له سميها «شرم برم».. وقد كان! هذا ما استنتجته من تعليق الأستاذ درويش، فكتبت إليه أطالبه بشهادته، فكتب الآتى نصًا:
«عرض المخرج الكبير «رأفت الدويرى» على الفرقة تقديم نص مسرحى باسم «صناعة الأعداد» للكاتب السورى عبد الفتاح رواس قلعجى، وكانت هى المرة الأولى التى تقدم فيها الفرقة نصًا عربيًا لمؤلف غير مصرى. وكان النص يهاجم بوضوح تسلط الحكم الدكتاتورى، ويصوره كنظام يهتم بالمظاهر أكثر من اهتمامه بالجوهر، وحاول المؤلف الاستعانة بالتراث العربى للتلطيف من الطرح السياسى. ولما كانت الصياغة تكاد تكون بالفصحى وبلهجة المؤلف السورى الكردى. كان من الصعب من وجهة نظر أعضاء الفرقة تقبل الجمهور فى أسيوط والتفاعل مع النص بلغته هذه بسهولة. فقال المخرج: (سهلة نمصر النص، وعلى ما أرجع من القاهرة يكون درويش الأسيوطى شاف النص يتعمل فيه إيه). وخلال غياب المخرج بالقاهرة قمت بإعادة كتابة النص باللهجة المصرية، وأضفت له مدخلًا مختلفًا فجعلت المحبظ يدخل من الصالة مرددًا أغنية على لسان الجزار الشعبى الذى ينادى على ما بقى من الذبيحة دون بيع يقول فيها: (اللى باقى لسه معانا.. نص دماغ البطش/ عجل صغير مخه منور.. نص دماغه بقرش/ وإيش جابك وسط الفوارس.. يا فشلة يا أبوكرش/ شوفوا شوفوا شوفوا.. غرق روحه من خوفه/ أنهوا له لمه.. وافرشوا له البرش). وهذا الاستهلال الشعبى مهد بشكل هزلى التناول الذى أعددته عن العمل والذى أسميته «سلاطين عمولة». وبعد أن أقرّ المخرج إعادة الكتابة باللهجة المصرية طلب توسيع رقعة خيال الظل، فقمت بكتابة النص العرائسى الطويل الذى قدم داخل العرض، لكن لا بد أن يعرض النص على الرقابة على المصنفات الفنية، ورغم تقدير الرقباء لقدر رأفت الدويرى رفض معظم من قرأ المسرحية إجازة النص، وكنا قد قطعنا شوطًا كبيرًا فى العمل على النص، بل كان الديكور قد اقترب من الاكتمال. أى تم الإنفاق على العرض.. ومحبة فى عمنا رأفت الدويرى لم أطلب أجرًا على الإعداد. كما أنى لم أرغب وأنا كاتب مسرحى أن أكتب اسمى على النص فأنا انتمى إلى تيار معارض وكتابة اسمى على النص قد يزيد من تعنت الرقابة. وبعد محاولات ومداولات وضغط من الفنان الكبير وافقت الرقابة على تقريبًا (17) صفحة من النص، واعترضت على العنوان «سلاطين عمولة» وقرروا بعد تغيير العنوان الموافقة على العرض لليلة واحدة، حتى يمكن تسوية نفقات العرض. قال لهم رأفت الدويرى بعدما رفضوا عنوانه الأصلى «صناعة الأعداد» أمال أسميه إيه؟ أسميه شرم برم. قالوا سميه «شرم برم». وقدم العرض باسم «شرم برم» لمدة أسبوعين! فقد اتفق المخرج مع القائم على التسوية المالية للعرض أن يقول إن الرقابة وافقت على العرض! وبهذا استمر العرض أكثر من المدة التى وافقت عليها الرقابة، وكان العرض ناجحًا بدرجة لم نتوقعها».
بناء على هذه الشهادة أقول للأستاذ درويش إن الرقابة وافقت على النص بأكمله فى «36» صفحة وليس فى «17».. وهذا يعنى أن النص مفقود بالنسبة لك، ولكنه بين يدى الآن.. فهل ستقوم بنشره مستقبلًا، بوصفك المعد، وهذا عملك، وأيضًا تخليدًا لذكرى المؤلف المرحوم عبد الفتاح قلعجي؟ أما الباحثين فأقول لهم: من سيقوم بدراسة النص من حيث إعداده، ومقارنته بالنص الأصلى، ومقارنة اللهجات المصرية والسورية بين الأصل والإعداد.. إلخ.


سيد علي إسماعيل