ينفرد خالد جلال دومًا عن غيره من المخرجبن بقدرته العبقرية على اختيار موضوعات مسرحياته التى تمس كل الأجيال وليس جيل بعينه.. فهو تعدى كونه مخرجًا مسرحيًا ليرتقى الى مرتبة اعلى بعدما اصبح مخرج بدرجة طبيب نفسى.. فهو يكشف أوجاع ذواتنا ثم يعالجها ويضع يده على الحلول.. لكنه لا يعطى لك الحل فى صيغة نصح او خطابة ومباشرة.. لكنه حل لن تدركه إلا بإعمال العقل لتضع يدك عليه فى لحظات معبنة من العرض المسرجى (سكرولينج)؛ ومن خلال مجموعة من الوجوه الجديدة التى أول مرة تطأ قدماها خشبة المسرح دفعة شركة كنج توت التالتة (المنتج عصام شعبان)؛ يستعرض لنا جلال فى سكرولينج إخراجى بديع على خشبة مسرح الريحانى؛ كل خبايا وأضرار جهاز الأندرويد أو كما أطلق عليه فى مسرحيته (الحرامى)، فهو جهاز مغرى شكلًا وموضوعًا لكنه لص وضيع يسرق أعمارنا وأحلامنا ومشاعرنا وعاداتنا وتقاليدنا.. كل هذا يستعرضه لنا خالد جلال فى قالب عبثى أشبه بالخيال العلمى بما يتناسب مع فكرة ذاك الاختراع الذى تغيرت معه مظاهر الحياة فى العالم رأسًا على عقب.أصاب خالد جلال فى رؤيته بالمشاركة مع كل من «شيما الخراط – نهى فريد” مصممى ديكور العرض، فى اختياره للشكل الفنى للديكور الملائم لفكرة العرض المسرحى، فالعرض تدور فكرته حول اقبال الناس فى كل أوقات حياتهم، على هواتف الأندرويد الذى وصل بهم الى حد الهوس الأشبه بالجنون، مما كان له أكبر الأثر السلبى على صحتهم النفسية، وكذا على انهيار كل عادات وتقاليد المجتمع فضاعت معه النخوة والشهامة والصدق وصلة الرحم وبر الوالدين وأشياء أخرى عديدة لا حصر لها، استطاع جلال إيجازها فى غضون ساعتين من الزمن، وبالتالى جاءت فكرة الديكور أشبه بمصحة نفسية لعلاج أمراض الأندرويد المستعصية، وهى فكرة فى محلها تماما وتتطابق مع ما يصيب مدمنى الهواتف الذكية من إكتئاب وعزلة وعدم رغبة فى المشاركة الاجتماعية والإقبال على الحياة.فوجدنا الديكور عبارة عن سرير من دورين مع بعض الموتيفات البسيطة كالمنضدة وبعض الكراسى، وكعادة خالد جلال دومًا فى عروضه الخاصة بشباب الوجوه الجديدة، فهو يهتم بالممثل فى المقام الأول ويعتمد على الموتيفات البسيطة فى الديكور، وذلك بهدف أن يلفت جميع أنظار جمهور المتلقى الى الممثل فقط لا غير، ولا تشتته عنه أى عناصر أخرى، كما انه كما أشرنا سابقا فى احدى المقالات بإنه يعطى الفرصة لأبنائه من الطلاب، بإستكشاف مواهبهم الأخرى الإضافية سواء إن كانت فى الموسيقى أو الغناء أو الإضاءة أو الديكور.. إلخ، بجانب موهبتهم الأساسية فى التمثيل من أجل تحقيق مفهوم الفرقة بالمعنى المعاصر، لذا جاء تصميم الديكور لكل من «شيما الخراط - نهى فريد”، وهما طلاب تمثيل فى المقام الأول، بسيطًا غير متكلف معتمدًا على بعض الموتيفات باستثناء ديكور السرير، لكنه جاء موحيًا ومعبرًا فى نفس الوقت عن فكرة المصير الذى ينتظر كل مرضى الأندرويد، ومتلائم ايضا مع تصميم الملابس لكل من «شيما الخراط - نهى فريد” أيضًا؛ حيث البدلة البيضاء الموحدة التى يرتديها مرضى الأمراض النفسية والعصبية، ما يسهم فى سهولة إيصال رسالة العرض المسرحى لجمهور المتلقى وتنبيهه لمخاطر الأندرويد.ركزت إضاءة العرض المسرحى «سكرولينج» من تصميم كل من «أحمد عبدالتواب - وليد فوزى”، على إظهار الجانب النفسى الذى يعترى كل مدمنى تلك الهواتف الذكية، وما يصيبهم من قلق وتوتر وإكتئاب من خلال التركيز على الألوان التى توحى بكل تلك المشاعر السلبية مثل اللون الأصفر والأزرق والأحمر والأخضر المائل للتعتيم، والإضاءة الأقرب للإظلام من خلال استخدام كشافات الموبايل مع إظلام المسرح ككل، ما أسهم فى تأكيد فكرة الاكتئاب الناجم عن الإفراط فى استخدام تلك الهواتف الذكية؛ حيث إن الإضاءة ناجمة من الهاتف ذاته.جاءت كل اختيارات محمد مختار شاهين فى إعداده الموسيقى للعرض المسرحى «سكرولينج”، وهو أحد أبطال العرض فى ذات الوقت، موفقة وملائمة تماما لكل مشهد مسرحى بوجه خاص، وللحالة المسرحية بوجه عام؛ حيث جاءت اختياراته تميل الى الموسيقى المتوترة التى تعبر عن العصبية والقلق والاكتئاب بوجه عام، إضافة الى اختياراته ايضا للموسيقى التى تلائم حالة كل مشهد مسرحى سواء ان كان يعبر عن الشر الكامن وراء هذه الهواتف، أو عن المشاعر السلبية التى تصيب مدمنيها، أو الموسيقى الحزينة المعبرة عن فقدان كل المشاعر والعادات والتقاليد الجميلة، بين أفراد الأسرة بعضهم البعض أو بين أفراد المجتمع ككل بعضهم البعض.أداء الممثلين على خشبة المسرح والذى وصل عددهم إلى أربعين ممثل وممثلة، لم يكن يصل الى هذه الدرجة من الإتقان والغالبية منهم يقف على خشبة المسرح للمرة الأولى فى حياته، لولا ذكاء وبراعة خالد جلال كمخرج متخصص طيلة سنوات طويلة، فى التعامل مع عقلية الشباب ومشاعرهم وأحلامهم وطموحاتهم، مما يسهم دوره بشكل كبير فى العمل على استكشاف كل المواهب المدفونة بأعماقهم فى كل عناصر العمل الفنى وليس التمثيل فقط، فأغلب من يمثلون بالعرض هم أيضًا مؤلفى النص ومعدى الموسيقى ومصممى الديكور والملابس.. إلخ من عناصر العرض الأخرى، ولولا تلك الحرفية فى اكتشاف المواهب لدى المخرج خالد حلال التى تحدثنا عنها سابقًا، لما رأينا كل تلك المواهب الشاملة والمتعددة.جاء أداء الممثلين وتوحدهم مع أدوارهم بالعرض متقاربا فيما بينهم بشكل كبير فى المستوى الفنى، باستثناء بعض الممثلين الذى خدمتهم مساحة أدوارهم فى إظهار إمكانيات أكبر لقدراتهم التمثيلية، وعلى الرغم من حرص جلال الدائم فى كل عروضه على أن تأتى جميع أدوار طلابه متساوية فى الحجم والقيمة، فإنه كان مضطرًا فى ذاك العرض تحديدًا إلى أفراد مساحات تمثيلية أكبر لبعض الممثلين والممثلات، نظرًا لخبراتهم السابقة التى منحتهم تلك الأفضلية؛ حيث إن تلك الورشة التى ترعاها وتتبناها شركة كنج توت للإنتاج، لا تعتمد على اختبارات تمثيلية مثل ورش مركز الإبداع الفنى إنما يتم الاكتفاء فقط بمقابلة شخصية مع المخرج، يستطيع من خلالها أن يحدد مدى أحقية المتقدم للانضمام إلى الورشة من عدمه.يعتمد خالد جلال فى كل ورشه الإبداعية على الأعداد الضخمة من الممثلين والممثلات فى كل دفعاته، وذلك من أجل اتاحة الفرص لاكتشاف أكبر قدر من المواهب ووضعها على طريق الإحتراف الصحيح، فهو منحه الله ومنحته خبراته الأكاديمية ودراسته بالخارج القدرة على القيادة والتعامل مع كل هذه الأعداد الضخمة من الطلاب، بل وتقديمهم جميعهم على خشبة المسرح فى آن واحد دون حدوث أدنى خطأ حركى واحد، أو أية أخطاء فى الآداء أو التركيز فى مواجهتهم الجماعية مع بعضهم البعض، وقد نفعه فى ذلك وعلى لسانه شخصيًا فى ماستر كلاس تحدث فيه منذ فترة، التحاقه بالجيش المصرى حيث المجهود والنظام وقدرة القادة على التعامل مع الكتائب والأعداد الضخمة من الجنود.و فى العرض المسرحى «سكرولينج” والذى وصل عدد ممثليه الى أربعين ممثلًا وممثلة، نجح خالد جلال فى اعطاء الفرص التمثيلية لجميعهم، وإظهارهم بشكل جيد أمام جمهور المتلقى، على الرغم من عدم مغادرة فرد واحد منهم طوال احداث العرض المسرحى، بإستثناء فقط من قامت بدور الطبيبة؛ حيث كانت تدخل وتخرج من الكواليس حسب متطلبات دورها، وقد استغل جلال ذاك العدد الضخم فى عمل تشكيلات حركية لها معانى ودلالات، ترمى الى خطورة إساءة استخدام تلك الهواتف الذكية فى الجرائم الألكترونية، مثل ابتزاز الغير وتركيب صور الوجوه على أجساد عارية لأشخاص آخرين، كما أبهر خالد جلال جمهور المتلقى حينما شكل من خلال الممثلين صورة بصرية بديعة للغاية، فى مشهد الخديعة حين صور لنا استعانة البعض بصور مستعارة على أنها صور حقيقية لهم، وإقامة علاقات عاطفية قائمة على الزيف والخداع من الطرفين، واستعرضها لنا فى قالب كوميدى خفيف الظل من خلال تشكيل حركى مزودج لشخصين فى ضهر بعض، كل واحد منهم له وجه مختلف، وعلى الطرف الآخر نجد نفس هذا الازدواج حتى يتلاقى الطرفان ليجد كل منهم وجها آخر غير الذى كان يظن انه يحادثه، وحقيقة أبرز لنا جلال تلك الخديعة فى شكل حركى بسيط ومبهر فى ذات الوقت، يدل على خياله الواسع والثرى فى التعبير.يعتمد جلال دومًا فى كل عروضه مع شباب المواهب على ارتجالهم للأفكار والموضوعات التى تمس حياتهم ومجتمعهم، ومن ثم يقوم هو بعدها بمهمته الأصعب فى عمل صياغة لأفكار أربعين ممثلة وممثلة، من أجل تضفيرهم جميعا فى عرض مسرحى واحد تترابط أفكاره مع بعضها البعض، ويقدم رسالة سامية ومعاصرة تمس كل الأجيال بمجتمعنا المصرى وأحيانًا العربى، لتشعرك فى النهاية كمتلقٍ أنك أمام نص مسرحى مكتوب من طرف مؤلف واحد وليس من بنات أفكار أربعين ممثلًا وممثلة بالعرض المسرحى.وبعد الصياغة لأفكار طلاب ورشته يقوم جلال بوضع رؤيته الإخراجية لتلك الصياغة، بداية من أسم العرض المتفرد والذى يعبر عن فحواه، كما وجدنا فى عرض «سكرولينج”؛ حيث يعنى الأسم هنا بتحريك المحتوى الموجود على الشاشة، سواء كان نصًا أو صورًا أو فيديو، بالتحريك عموديًا أو أفقيًا، فى دلالة على أن تلك العادة أو الخاصية الموجودة بالهواتف الذكية صارت هى حالنا والشغل الشاغل لكل حياتنا الآن بعد أن تحولت الى نوع من الإدمان، نهاية الى فكرته فى تناول موضوع الصياغة نفسه، والذى تناوله جلال فى “سكرولينج” فى قالب عبثى من خلال تصوره لمصحة نفسية تحتجز مرض الأندرويد، وتمنع طبيباته عنهم كل انواع الهواتف وتضعها فى بلورة زجاجية من أجل أن يراها جمهور المتلقى ويدرك ان الخطورة تكمن فيها.حقيقة أن التوءمة الفنية التى عقدها خالد جلال ما بينه وبين شركة كنج توت للإنتاج الفنى، هى توءمة تستحق منا كل الثناء والتقدير لكل من المخرج الكبير خالد جلال وحرصه الدائم على تغيير نظرة جمهور المتلقى لمسرح القطاع الخاص، على أنه مسرح للترفيه فقط وخالٍ من الرسالة، فوجدناه يحقق المعادلة الصعبة بتقديه لعروض كوميدية هادفة، مثلما شاهدنا فى مسرحية «آنستونا” للنجمة دنيا سمير غانم، ومثلما نجده الآن بتعاونه مع المنتج الكبير عصام شعبان من خلال شركته العريقة، على تقديم ورش فنية لإكتشاف المواهب الشابة الجديدة وضخها للسوق من خلال شركة الإنتاج ذاتها، صاحبة الباع الطويل فى انتاج العديد من الدراما التليفزيونية، وكذلك سلسلة مسرحيات من إنتاج الشركة كمشاريع تخرج لهؤلاء الطلاب، والحرص على أن تكون ذات رسالة هادفة بجانب العامل الكوميدى والترفيهى فيها.“سكرولينج”.. عرض مسرحى يثبت لك أن المستحيل ممكن، لكن مع واحد فقط يعرف كيف يجيد صنع الممثلين جيدًا، حتى وإن كانت صلتهم بالفن تقتصر على مجرد المشاهدة، أنه الملهم المبدع خالد جلال، الذى تخيلت للحظات فى تحية الجمهور لأبطال العرض المسرحى، أن الكوميديان الراحل نجيب الريحان “الضاحك الباكى”، يجلس بجوارنا فى الصفوف الأمامية بمسرحه العريق بوسط البلد الذى تم تقديم العرض المسرحى «سكرولينج” على خشبته التاريخية، وهو يصفق له تحية وإعجابًا بما قدمه من إعجاز فنى بمجموعة من الهواة فى بداية طريقهم للتعرف على عالم الاحتراف.