المسرح والعلم تأملات في الفاعلية المسرحية عند أنطونين أرتو

المسرح والعلم   تأملات في الفاعلية المسرحية عند أنطونين أرتو

العدد 873 صدر بتاريخ 20مايو2024

من الطاعون الى مرآة الأعصاب: قراءة افتراضية 
 لقد طور جانبا من أحدث البحوث في المسرح اهتماما متعدد المجالات بنقاط التلاقي بين المسرح والعلم . وقد حاول هذا المنظور الجديد أن يميز شرعية علمية لاحقة في التطورات الحالية في علم الأعصاب الإدراكي والأفكار الثورية لبعض كتاب الدراما-المخرجين في القرن العشرين (مايرهولد، وأيزنشتاين، وستانسلافسكي وباربا) . وقد كان علماء المسرح واعين بالمخاطر الكامنة في محاولة إدخال أحدث معدلات علم الأعصاب في العملية المسرحية . وبدلا من التعامل مع علم الأعصاب باعتباره العلم الخارق القادر على حل المشكلات غير المتوقعة في نظرية المسرح ( ناهيك عن مفارقة الأدلة التاريخية لهذه المحاولة)، فقد سعوا إلى دراسة المقاطع المفيدة التي يمكن أن تنِشأ بين المجالين . وبداية من النظر في الاهتمام الواضح في العلوم من جانب صناع المسرح منذ القرن العشرين, يبذل الباحثون قصارى جهدهم لإظهار كيف أن المعرفة العلمية الحالية سوف تسمح باستكمال وتوسيع مفاهيم دراماتورجية معينة . ومن بين هذه المفاهيم، المفهوم الأساسي أن فاعلية المشهد المسرحي متجذرة في العلاقة بين الممثل والمتفرج . 
 بهذا المعنى جذب اكتشاف مرآة الأعصاب علماء المسرح . وبتمكين دراسة المساحة المشتركة بين الذي يفعل والذي يشاهد، فان هذا في الواقع يؤسس ما عرفته كليا فاليتي بأنه هدية عظيمة من علم الأعصاب، وهو الأساس المادي للصلة بين الممثل والمتفرج، والتي هي الأساس الكامن في جوهر المسرح نفسه – والمادة التي يُصنع منها المسرح نفسه . 
 ولذلك، هل يجب أن نعبر هذه المساحة المشتركة للفعل shared space of action، باعتبارها اسم جديد للظاهرة التي عولجت بمساعدة وسائل مفاهيمية مستعارة من علم النفس والأنثروبولوجيا ؟ ربما . وتظل الحقيقة أن منظور علم الأعصاب، بدقته وتركيزه على المحتوى البصري لقدرتنا على المحاكاة، يفتح مسارات جديدة نحو فهم الفعل المسرحي . 
 ونود هنا أن نوضح هذا باقتراح قراءة تاريخية للنظريات التي تنتمي الى أحد أعظم الشخصيات الثورية في مسرح القرن العشرين: أنطونين أرتو . وسوف ننظر الى نظريته في الفعل المؤثر effective action، والتي ترتبط بشكل صارم  بانتفاء سببية الفعل المسرحي.  gratuitousness of the theatrical act وبالتالي, سوف نحاول أن نوضح كيف أن الاكتشافات الحديثة في علم الأعصاب، ولاسيما تلك المتعلقة بنظام الخلايا العصبية المر آتية mirror neuron system، قد ألقت ضوءا جديدا على آرائه النظرية حول المسرح، وتمكننا من توضيح القضايا النسبية، قبل كل شيء تلك المتعلقة بالإرادة القوية لتصور المسرح كعلم في آثاره في النهاية . 
 ومن منظور المسرح الذي يهدف بشكل صريح الى شفاء الحياة، يحاول أرتو أن يتخيل الظروف التي بموجبها قد يؤثر التمثيل المسرحي حقا على المتفرج . ولتحقيق هذه الغاية، يلجأ إلى صورة مزدوجة شديدة التناقض، صورة الساحر، من ناحية، وصورة الجراح من الناحية الأخرى . 
 وفيما يتعلق بفاعلية المسرح، يقول أرتو «أن المسرح فعلا مسألة سحر»، وهي فكرة تناولها بعد عشرين سنة عندما تحدث عن «العلاج السحري للمسرح الذي عاد إلى نفسه». يؤكد أرتو أن الخاصية العلاجية للتمثيل المسرحي ترتبط بشكل عميق بملكة الإيهام . فالمسرح الذي يجعلنا نصدق الواقع الذي يظهر على خشبة المسرح ؛ ونشارك، نحن المتفرجين، في مجال «كأن»، نتأثر فعلا بمثل هذا المشهد . وبعد تحليل ليفي شتراوس الشهير للطقوس الهندية في مقاله عن «الفاعلية الرمزية symbolic efficacy»، نعرف أن السحر بالأساس مسألة اعتقاد, وما يولد فاعليته هو التصاق نظام التمثيل . ويؤكد أرتو هذا بقوله « قدرتنا على الاعتقاد وخداع أنفسنا قدرة هائلة . ولذلك، فان المسرح هو الشيء الوحيد الذي يستحيل إنقاذه في العالم . لأنه فن يعتمد بالكامل على قوة الإيهام الذي لم يعد قادرا الآن على استحضاره، ولم يبق له سوى الانقراض» . ينقرض أو يتغير نموذجه جذريا، بحيث لا يعتمد بعد الآن على التشابه أو عدم التشابه مع الفعل، بل يعتمد على قوة الاتصال وواقع هذا الفعل . ولكي تصبح قوة الاتصال هذه مؤثرة، فكان لا بد أن يولد من جديد من توظيف يقوم على العلم . وكما أكد أرتو نفسه في «النزعة الرياضية العاطفية Affective Athleticism» : لقد انتهى زمن السحر العشوائي, وزمن الشعر الذي لا يدعمه العلم . ويكتب أرتو في البيان الأول لمسرح ألفريد جاري، الذي تأسس عام 1926 : 
يأتي إلينا المتفرج وهو يعرف أن يأتي لكي يخضع الى عملية حقيقية، حيث لا يكون عقله فقط على المحك، بل إن حواسه وجسمه أيضا يكونون على المحك . وبالتالي سوف يذهب إلى المسرح وكأنه يذهب إلى الجراح أو طبيب الأسنان . وبنفس هذه الحالة الذهنية، من الواضح أنه لن يموت من أجل ذلك . ولكن الأمر جاد ولن يخرج منه سليما . 
يُفهم التمثيل المسرحي باعتباره عملية طبية تؤثر في كل عقل- جسم المتفرج . وتستخدم الإشارة إلى الجراح أو طبيب الأسنان كضمان لفاعلية الفعل المسرحي، وطبيعته الحقيقية وليس الافتراضية . ومع ذلك، من أجل محاولة توفير أساس علمي لفاعلية الفعل في المتفرج، يصطدم أرتو بمشكلة المسافة : كيف يمكننا أن نتخيل فاعلية الفعل من مسافة ؟ وكيف يمكن أن ينتج مشاهدة الإيماءة مؤثرات فعلية في جسم المتفرج ؟ هنا تكمن مشكلة التطهير catharsis القديمة، التي يحاول أن يحلها أرتو، من خلال استدعاء نموذج الطاعون (الوباء أو الكارثة أو البلاء ) plague . يمكننا أن نجد في كتاباته صيغ تردد صدى استنتاجات عصبية-علمية neuro-scientific معينة . لذلك قد يكون من المفيد المخاطرة بقراءة لنظريته في كتاب « المسرح وقرينه « على أمل أن تسمح لنا بتغذية المفارقات التي غالبا ما يُنظر إليها على أنها تفتقر إلى الوضوح .  
  
الساحر والجراح وعلم الأعصاب 
 يسمح لنا ترسيخ والتر بنيامين للتمييز الشهير بين الساحر والجرح في كتابه « الفن في عصر الاستنساخ الآلي Art in the Age of Mechanical reproduction « بأن نوضح ما يفصل السحر عن الطب، أي النموذجان العلاجيان اللذان يشير إليهما أرتو . 
يمثل الجراح القطب المقابل للساحر . فالسحر يشفي الشخص من خلال وضع اليدين . والجراح يقوم بقطع جسم المريض . الساحر يحافظ على المسافة الطبيعية بينه وبين المريض ... والجراح يفعل العكس تماما، انه يقلل بشكل كبير المسافة بينه وبين المريض من خلال اختراق جسم المريض... 
يكمن الفرق بين الجراح والساحر في نوع العلاقة التي ينشئها كل منهما مع جسم المريض . إذ تقوم فعالية الساحر على الاتصال الذي يحافظ على المسافة، بينما تتضمن فاعلية الجراح حميمية عميقة بين من يجري العملية والجسد  العاجز . وفي إشارته للجراح، يتخيل أرتو الفاعلية الحقيقية المؤكدة للصيغة المسرحية التي تؤثر في الجسم وكأن هذه الصيغة كانت تلمسه بالفعل . وبالإشارة السحر، يحدد أرتو بدلا من ذلك الطبيعة التناقضية القوية لمثل هذا الفعل، الذي يكمن في اللمس من مسافة . ومثل هذه الظاهرة يمكن أن يصعب تخيلها في الواقع بدون التفكير التأثير العاطفي بين الكائنات الذي هو سمة من سمات العالم السحري . 
 ويستدعي المؤلف الطاعون كنموذج لتفسير وظيفة الفعل المسرحي، لأن الوظيفة التي يتصرف بها هذا الوباء تقرن كل من الفاعلية السحرية للاتصال من بعيد والدقة العلمية للمرض التي تؤثر في الجسم مباشرة . ويتم تعريف الطاعون بأنه عدوى دقيقة، رغم أنها لا تتطلب اتصالا فعليا، ولا يزال له تأثير عضوي حقيقي : اتصال محسوس، وان كان خفيا : ولا يمكن أن يكون مقيدا بالعدوى من خلال الاتصال المباشر . 
 ورغم ذلك، من الصعب، كما نتخيل،  أن نفكر في هذه الإشارة إلى الطاعون إلا باعتباره استعارة ... على أي حال، الوصف الموجود في كتابه « المسرح وقرينه»، إذا تناولناه حرفيا، فمن الممكن أن يولد النموذج الذي يوظف بطريقة ترتبط بشكل وثيق « بمساحة الفعل المشتركة « . ففي هذه المساحة حددت الدراسات الحالية إمكانية فهم جديد للصيغة المسرحية . 
 ومن خلال محاولة تعريف نزعة المحاكاة السحرية magical mimetism يقترح أرتو أن نتخيلها مثل آلية الصدى بين الممثل والمتفرج : 
ابتكار الفن يعني حرمان الإيماءة من صداها في الكائن الحي، إذا حدثت الإيماءة في الظروف والقوة المطلوبة، فإنها تحرض الكائن الحي، ومن خلاله النزعة الفردية بالكامل، غلى اتخاذ مواقف متناغمة مع الإيماءة . 
 يدعونا أرتو لإعادة اكتشاف علم الممثل الحقيقي، العلم الذي يستبدل السحر القديم ويسمح لآليات الفعل المسرحي أن تقوم على أسس علمية . وهنالك، يذكرنا أرتو بقوله « علم العواطف « الذي يكمن في المعرفة الوثيقة بطريقة توظيف الجسم الإنساني . وهذا العلم يقترح قناعتين من شأنهما  أن يدعما نتائج العلم العصبي : فمن ناحية، لا يوجد انفصال بين العقل والجسم، ومن الناحية الأخى، هناك تجسيد حركي للمتفرج الذي يشاهد الفعل كما يحدث أمام عينيه . 
     وقد عولجت هذه النقطة في المؤتمر الذي عقده الفنان عام 1936 أثناء رحلته إلى المكسيك، حيث وسع نظريته حول المسرح التي بدأها في باريس . وفي مقال بعنوان « التفوق الزائف للنخب La fausse superiorite des elites «، يؤكد أرتو أن المسرح هو الفعل المقدس الذي يتعلق بذلك الذي يراه وذلك الذي يؤديه . ويكمن مبدأ هذه النظرية في الفكرة النفسية الأساسية للمسرح التي تنشأ من خلال الإدراك التالي : « الإيماءة التي نشاهدها والتي يعيد العقل بناءها في صور هي إيماءة ذات قيمة مثل الإيماءة التي نؤديها «  . 
     وهنا يطور أرتو مشهدا هو تحديدا مشهد «مساحة الفعل المشتركة «، حيث مشاهدة الإيماءة يساوي تنفيذها . ويوضع التأكيد على القدرة على الرؤية، التي تسمح لنا أن ننقل الثقل من نماذج علم النفس أو السحر ( الفاعلية الرمزية)، أو مرة أخرى من الجراح ( الفاعلية الطبية، التي تمارس التلاعب الجراحي الفعال بالجسم ) في اتجاه النموذج العصبي البيولوجي للمحاكاة المجسدة . وتشارك فاعلية المسرح قوى العدوى البصرية، وقوى اللمس عند بعد، والتي تعتمد على قوة الرؤية المحاكاتية . 

التطهير وانتفاء السبب 
     وهناك المزيد، يكمن أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت أرتو يعرّف المسرح بأنه الطاعون، متجاوزا الطريقة التي تحدث بها العدوى بدون اتصال مباشر بين الظاهرتين، في انتفاء سبب الفعل الذي يتم أداءه . ويرى أرتو أيضا انتفاء السبب لأن الشخص المصاب بالطاعون ينفذ أفعالا غير مفيدة وتفتقر إلى الفوائد الحالية وأن الكائن المصاب يموت بدون تدمير مادي . ومادام المرح هو المقصود، فان انتفاء السبب يشير الى كل من الممثل، الذي لا ينفذ فعلا الأفعال التي يجهزها (انه مخترق تماما ومنزعج من عواطفه دون أي فائدة في الواقع )، والى المتفرج، الذي يتغير تماما مما يراه بدون أي تهديد لحياته . وبالتالي، يستفز المسرح، بدون قتل، أكثر التعديلات غموضا في عقل الفرد . فالتناظر بين المسرح والطاعون، كما رأينا، يقوم على تبديل المصطلحات ؛ فالطاعون يقتل بدون تعديل في الجسم، بينما يقوم المسرح بتعديل الكائن الحي – كل من الممثل والمتفرج – بدون أن يقتله. الطاعون يدفع الناس لتنفيذ أفعال ليس لها نتائج واقعية، بينما المسرح يقدم يدا\ل بدوت تنفيذ أي فعل حقيقي . ومن ثم يتبين أن فكرة انتفاء السببية تستخدم بطريقة متناقضة بقوة . ومع ذلك فان نموذج انتفاء السببية هذا له أهمية فيما يتعلق بتعريف وظيفة التطهير المسرحي، لأنه، وفقا لأرتو يتكون انتفاء السببية من حقيقة أننا قد ندرك الفعل ولا ندركه في نفس الوقت : ربما ينفذ الممثل فعلا لا يفتقر على الإطلاق إلى أنه حقيقي، ولكنه يظل افتراضيا . وبنفس الطريقة، ربما يجرب المتفرج أزمة شاملة، بدون أن ينهض من مقعده أو يحرك ساكنا . ويضيف أرتو قائلا « العقل يصدق ما يراه، ويفعل ما يؤمن به « . الرؤية والفعل يتبادلان الامتيازات : بمشاهدة الممثل وهو ينجز أداءه، يعيد الممثل بناء المتفرج بناءه بالصور، وهذا ينشط فعلا بعينه بداخله . ومهما كان ذلك افتراضيا، فانه لا يقل واقعية : 
أتحدى أي متفرج غيرت مثل هذه المشاهد العنيفة دمه، والذي سوف يشعر بداخله بانتقال الفعل المتفوق، والذي سوف يرى الحركات الغريبة لهذا الفكر واضحة في أفعال غير عادية ... أتحدى هذا المتفرج أن يستسلم بمجرد خروجه من المسرح لأفكار الحرب والقتل ... دعونا لا ننسى أنه على الرغم من أن الإيماءة المسرحية عنيفة، إلا أنها لا مبالية، وأن المسرح يعلما، تحديدا، عدم جدوى الفعل، الذي إذا فعله شخص ما، فلن يقوم به أحد مرة أخرى . 
 إذا كان هذا صحيحا كما تعلمنا من اكتشاف مرآة الأعصاب، أن رؤية الفعل تنتج تفريغا عصبيا عند المتفرج حيث يتم تفعيل الإمكانيات الافتراضية للفعل، وعندئذ نفهم أن عنصر انتفاء السببية الذي يميز التطهير الذي يميز مساحة الفعل المشتركة بين الممثل والمتفرج باعتبارها تفسيرا جديدا يوضح المسألة . ولو أن المتفرج لم يعد يحتاج الى تنفيذ الفعل عند رؤيته، فذلك لأنه قد نفذه بالفعل، اذ حفزه بداخل جسمه . ان انتفاء سببية المسرح التي تأتي باللعب هي التي يعرّفها فيتوريو جاليزي بأنها « آلية المحاكاة المجسد mechanism of embodied simulation»، وهذا يوحي بأن مراقبة الفعل تظهر تنفيذه الافتراضي . 

............................................................................
لوريان دومنيل يعمل أستاذا لتاريخ الفن والأدب في جامعة باريس 3 (السوربون) في فرنسا . 
هذه المقالة هي الفصل السادس من كتاب « المسرح وعلم الأعصاب الادراكي» .. تحرير كيليا فاليتي – جابريل سوفيا – فيكتور يانكو  .. الصادر عن دار نشر بلوسبري – ميثوين دراما  عام 2016 . 


ترجمة أحمد عبد الفتاح