الحضيض.. عرض حال البؤس بجمال

الحضيض..   عرض حال البؤس بجمال

العدد 869 صدر بتاريخ 22أبريل2024

البدروم هو مكان تحت الأرض غالبا لا يصلح للسكن، لكن في أزمنة البؤس وتفشي الفقر تستخدم حتى المقابر مكان للسكنى. يقطن فيه مجموعة من الفقراء حد البؤس، ممثل مغمور وشاعر هاوي وصانع قباعات وعامل وزوجته المريضه بالسل، شاب وفتاة، لص، صاحب المكان وزوجته واختها، ثم يظهر ساكن جديد يدعى لوقا على اسم القديس لوقا، ولهذا الأخير قصة!
لم يلتزم مٌعد النص بكل شخصيات النص الأصلي فقد أمتد قلمه بالحذف والإضافة، لكن لم يخالف الفكرة الرئيسة. شخصية الشاعر مثلا ليست موجودة في النص الأصلي. وجاء على لسانه بشكل واضح مجموعة 
من الجمل تعبر بوضوع عن إيدلوجيا الكاتب الأصلي نفسه.
قال الشاعر نصا: الأغنياء لن يعطوا الفقراء إلا بالقوة. 
من لم يقرأ النص يعتقد أن ذلك لن يصدر إلا عن كاتب شيوعي قٌح مثل “مكسيم جوركي”.
القصة ليست مهمه كثيرا، الصراع فيها ساكنا لا ينشط إلا في الثلث الأخير، والثيمة الرئيسة مثلث حب. وليس هناك تتابع ولا أحداث.
مجموعة من الشخصيات الفقيرة البائسة تحيا في مكان شديد العفونه والقذارة وترتدي الأثمال البالية، صاحب هذا المكان له زوجة”ناستيا” وأخت زوجة”ناتاشا”.  زوجته على علاقة باللص _هو احد ساكني البدروم وإن كان يتمتع بحجرة منفصلة_ يحب اختها ويسعى للهرب معها.  ناستيا من جانبها لا تقاوم هذا الحب ولا ترفضه! بالعكس تحاول استثماره!  تعرض عليه صفقة،  سوف تساعده  في الزواج من ناتاشا شريطة أن يقتل زوجها.، ولإنهما من طينه واحدة يفطن لخطورة الخطة، سيضيع لا محالة، هي الرابح الوحيد ستتخلص من الزوج ويلقى بالعشيق في السجن، ولن تعدم فرصة للحصول على غيره.   
  
الكشاف.. والرحمة: 
 أما الساكن الجديد فيظهر في منتصف المسرحية، لوقا رجل عجوز يقال له الجًد مما يجعل المشاهد يعتقد حقا أنه جد ناتاشا التي تدخل متأبطه ذراعه كأنها تعرفه من زمن، ثم يتضح أن ليس ثمة علاقة قرابه بينهما سوى أن كلمة جًد، معادل لفظي لحاج التي تقال لكل شيخ كبيرالسن. ظهور هذه الشخصية يثري الحدث الذي لم يكن إلا مجموعة من الحوارات يتضح منها حال أصحابها وطبيعة العلاقات بينهم. هذا الرجل هو كشاف يضئ طريقا من نور للشخصيات. فالشاعر مدمن الكحول يحبب إليه التداوي في مصحة(في النص الأصلي الممثل هو المدمن)  كما يٌعين  المريضة بالسل على تحمل قدرها ويحنو عليها كثيرا مما جعل لحظاتها الأخيرة أقل إيلاما.
 حتى اللص حامل المطواه لا يرفضه ولم يحكم بضلاله، على العكس يضئ له طريق لعالم أفضل ويرشده لأن الزواج من ناتاشا وأخذها بعيدا عن هذا العفن ملاذ لهما وأمل في حياة جديدة نظيفة. 
والسؤال: ماذا لو قتلنا من يضئ لنا الطريق؟ ماذا لو انتزعت الرحمة؟ ماذا لو أطفأنا الكشاف وصرنا على غير هدى؟!

أخيار وأشرار: 
لكل فرصة ثانية ومن المحتمل أن تكون الأخيرة، إلا إثنان من»الأشرار» هما صاحب البدروم وزوجته. هما إثنان من الوحوش البشرية، يتمتعون بالأنانية والشره للمال ومتع الحياة ويمارسان القسوة حتى على أقرب الناس إليهما. يتضح ذلك من عدم محاولة الجد لوقا للأخذ بأيديهما كما فعل مع الجميع. إذن من يملك يحكم ويتحكم ويقسوا قلبه. لاحظ الأيدلوجيا التي ينتمي إليها الكاتب.   
    
الكاتب المؤدلج:
الكاتب صاحب الأيدلوجيا يحصر المخرج داخل خيارات ضيقة، لا يملك هذا الأخير إلا أن يكون مفسرا لأفكاره. لذا يلجأ المخرج إلى حيل لإظهار براعته، اغلبها حيل جمالية، مثل الفيديو مابيج «لمحمد مأموني» الذي يعرض من خلاله صورا جميلة لأماكن جديدة»مصحة علاج الإدمان» واخرى تذكر على لسان الشخصيات فتتجسد في الخلفيه «المدن الجميلة» كأنما صدرت عن أفكارهم. يظهر ذلك كله على الخلفيه في لحظات تتكرر كلٌ حسب شخصيته وأحلامه فتتغير الحالة ككل، مثل الإضاءة واللعب بها لتغيير الحالة، والخروج بها من الحالة الواقعية إلى اخرى تعبيرية تعكس الحالة الشعورية للشخصيات،  مثل استخدام مطربة»هدير طارق» تغني وتعزف على آلة وترية وتصدر عنها همهمات كمؤثر صوتي بشري، خامة صوتها تشبه إلى حد بعيد المطربة «رشا رزق» مطربة سبيس تون، مما يزيد الحنين لدى من سمع ما يشبه أصوات طفولته خاصة إذا كان جميلا حنونا ومؤثرا. 
وضعت كحليه جمالية خارج المسرح وخارج الحدث كأن الجمال لا يمكن أن ينتمي لهذا المكان، لكنه يؤثر ويتأثر به.  

سينوغرافيا: 
الديكور واقعي والمنظر ثابت كل الأحداث تقع في بدروم إذا أراد احدهم الدخول إليه عليه أن يهبط درجات وإن أراد الخروج يصعد نفس الدرجات، الإضاءة ثابته تقريبا ولا تحتاج المشاهد لتغيرات كثيرة.، إلا إن أراد الخروج من هذا الواقع ولجأ للإضاءة لتغيير الحالة كما أسلفنا. الإضاءة ايضا»جاسر الفرن،أحمد طارق» تأتي من بعيد جدا من فوق من خارج هذا المكان وليس ثمة مصدر إضاءة واحد داخله وكان هذا حسن ومتسق مع الفكرة الرئيسة فالخارج من هذا المكان مولود. الملابس لا تنتمي لزمن أو مكان بعينه وإن كان هناك حرص على نسق محدد، نعم هي لا تنتمي لكن ليس ثمة عشوائية أو تناقض، أما الاهتمام بالتفاصيل_حيث الشيطان يكمن_ ظهر في ألوان الديكور والخامة المستخدمة التي توحي بالعفونه والعطن وظهور أنابيب الصرف الصحي والمياة، شرخ أو ما يشبه الكدمه في الحائط، الاكسسوارت تنتمي جميعا للمكان، قمامة وحبال كراسي مكسورة وملقاه كيفما أتفق، زجاجات خمر قديمة وفارغة، وعاء ألومنيوم مما يستخدم لغسيل الملابس... إلخ

التمثيل في الصمت: 
اختيار الممثل المناسب في الدور المناسب يساوي نصف المسافة للإقناع. يساعد على إظهار براعة كلا من المخرج والممثل. اختيار الممثيل موفقا إلى حد بعيد، والتمثيل أثناء الصمت له تأثير كبير في الإقناع مع عدم تشتيت انتباه  المتفرج عن الآخرين اللذين يتحدثون الأن. كما كان لوجود مدقق لغوي «د. مدحت عيسي» لتصحيح النص لغويا، واتوقع لما عرف عنه من حب للمسرح وإتقان العمل حضور البروفات للاستماع للأخطاء وتصحيحها وقد أفاد إلى حد بعيد.   
مسببات الملل:  
تتعدد الأسباب والشعور بالملل واحد، عدم وجود حدث يربط الخيوط بعضها البعض، ينمو باستمرار ويثبت المتفرج في كرسيه مأملا أن يعرف ما التالي، كذلك نمطية الشخصيات التي تعبر عن بعد أحادي، ليس ثمة عمق العبيط عبيط والشرير شرير، والمريض مريض وهكذا.. 
والمورال واضح جاء مرة على لسان الشاعر كما أسلفنا واخيرا على لسان اللص.
قال اللص: السرقة خطيئة لكن ماذا عن الفقر، أليس خطيئة أكبر؟!  
العرض المسرحي الحضيض إنتاج الهيئة العامة لقصور الثقافة، قصر ثقافة الأنفوشي
تأليف: مكسيم جوركي
سينوغرافيا وإخراج: إبراهيم الفرن 


نسرين نور