«غزل البنات» بنكهة محمد صبحي

«غزل البنات» بنكهة محمد صبحي

العدد 558 صدر بتاريخ 6مايو2018

إذا افترضنا أن الفنان الراحل «أنور وجدي» الذي قام بتأليف وإخراج وإنتاج فيلم «غزل البنات» الذي أنتج في أربعينات القرن الماضي، ما زال على قيد الحياة وأراد أن يحول هذا الفيلم إلى عرض مسرحي يقوم ببطولته الفنان نجيب الريحاني أيضا كما قام ببطولة الفيلم، فكيف سيكون هذا العرض المسرحي الآن؟
هل سيقدمه بالتفاصيل والشخصيات نفسها وكذلك التقنيات، إذن فلماذا الإعادة فلا تزال نسخة الفيلم موجودة وبحالة جيدة ويُعرض من وقت لآخر على القنوات التلفزيونية المختلفة، لا بد أنه كان سيتأثر بكثير من العوامل التي مرت على مصر والظروف الراهنة، وهو ما فعله الفنان «محمد صبحي» الذي لم يقم بإعداد النص المسرحي «غزل البنات» وإخراجه فحسب، بل قام بغزل قطعة فنية بحرفية عالية الجودة مضفرا أحداث الفيلم مع بعض قضايا واقعنا، مستخدما تقنيات حديثة، وربما قد أشار إلى بعض أحداث ثورة 25 يناير التي لم تُذكر بشكل صريح، متناولا عددا من المشكلات التي يعاني منها المصريون كارتفاع الأسعار والضرائب، في سياق كوميدي وإن كان مبالغا فيه بعض الشيء في الفصل الأول.
فيلم «غَزَل البنات» يطرح قضية إنسانية واحدة تتلخص في كلمات أغنية الفنان محمد عبد الوهاب التي تغنى بها في نهاية الفيلم «عاشق الروح» التي تحث على التضحية من أجل المحب، خاصة إذا كان هذا الحب يتعارض مع الفروق الطبقية والاجتماعية والعمرية بين كلا الطرفين، وهي بالضبط المحور الرئيسي الذي يدور حوله العرض المسرحي، لكن محمد صبحي في المسرحية جعل من ليلى مصر التي تتعرض لمحاولات النهب من كل الاتجاهات وجعل من مدرس اللغة العربية «الأستاذ حمام» المُخلص الذي نجت على يديه من هؤلاء الطامعين والمحتالين، حيث «أنور» الذي أحبته ليلى ولكنه يخدعها من أجل الاستيلاء على أموال والدها الباشا، بزعم أنه ثوري ويحتاج هذه الأموال لشراء قنابل لمقاومة الملك وأعوانه حيث إنهم قاموا بثورة لعزله «بالطبع لم تكن ثورة يوليو، فما زلنا في مرحلة الأربعينات» وأوجد شخصية النصاب الذي يجسد شخصيته الفنان «أركان فؤاد» الذي أقنع الباشا أنهم بدأوا في تشكيل الوزارة الجديدة التي ستحكم البلاد بعد عزل الملك وأنهم اختاروه رئيسا لها مستعينا بمجموعة من كومبارسات السينما وابتزازه ماليا أيضا، حتى يمر بأزمة مالية فيضطر لكتابة شيك بدون رصيد له فيكون هو السلاح الذي يهدده به إما أن يزوجه ليلى أو يدخل السجن، يتدخل الأستاذ حمام في الوقت المناسب فيكشف لليلى حقيقة أنور بإحضار زوجته إلى القصر ويخلصها منه، كما يقوم بكشف مجموعة النصابين للباشا الذي كان قد استعان به كسكرتير لتسجيل اجتماعاتهم كعمل إضافي مع تدريسه للغة العربية لليلى، في الوقت نفسه يتدخل القدر ويربح حمام ورقة يانصيب وهو جزء مقتبس من فيلم آخر لنجيب الريحاني أيضا هو «أبو حلموس» فيستطيع أن يسدد ديون الباشا وإنقاذه من السجن وإنقاذ ليلى مرة أخرى من براثن نصاب آخر، ويعتقد أنه بذلك قد ربحها ليكتشف أنها لم تكن تحبه كما اعتقد، في الوقت الذي يعترف لها وحيد الذي كان صديقا لأنور وقام بكشف حقيقته للأستاذ حمام، وحيد هنا لم يكن طيارا كما كان في الفيلم لكنه مطرب ويتدرب على يد الأستاذ محمد عبد الوهاب ويصطحب ليلى والأستاذ حمام إلى هناك ليحضرا حفلته الغنائية في منزل الأستاذ يوسف وهبي، يجسد هذه الشخصية الممثل والمطرب السوري «عمار الشماع»، وعقب الحفلة تعرف ليلى مدى حب الأستاذ حمام لها في الوقت الذي يكون هو قد وعى الدرس جيدا بعد سماع الأغنية، ويبارك حب وحيد وليلى بل ويشهد على عقد قرانهما.
الحقيقة أن الفنان محمد صبحي لم يكتفِ بإضافة هذه التفاصيل للنص، لكنه أيضا كعادته دائما قدم عدة رسائل هامة، فتناول دور المُعلم وأهميته، وكذلك قضية الدروس الخصوصية في حوار بين الأستاذ حمام والباشا وهو من أروع الحوارات في النص، اعترف أولا بينه ونفسه أن المال يستطيع أن يشتري كل شيء إلا الحب حيث قال: سعادتك ارتكبت جريمتين واحدة لن أقولها لأنها تخصني، أما الثانية فهي: كنت مدرسا أتقاضى ستمائة قرش في الشهر أدرس بهم لستمائة تلميذ فيكون أجري عن التلميذ قرشا في الشهر، سعادتك أعطيتني عشرين جنيها لتلميذة واحدة مع الإقامة في هذا القصر الفاخر، تعتقد بعد ذلك هل يمكن لمدرس أن يقبل بهذا الأجر لهذا العدد أم سيتجه كل المدرسين إلى الدروس الخصوصية ويكفي أنني حملت ذنب أنني أول من بدأت الدروس الخصوصية في الأربعينات، كما تناول تقليدنا للغرب أثناء تدريسه لليلى في جملة بديعة أتذكر منها: (الفرق بين العرب والغرب النقطة هم يتعلمون بالأقلام ونحن نتعلم من الأفلام، هم يملكون الحصانة ونحن ما زلنا في دور الحضانة..)، كما عرض لنماذج من تجار الشعارات ومدعي الثورية والنضال من الشباب، ومنتهزي الفرص من المنقضين على كل الموائد والمستفيدين من كل المواقف بل ويهددون أمن البلاد واستقرارها، وكذلك أهمية اللغة العربية التي نتعرف بها على الحضارات العربية التي بدأت بالفرعونية كما نتذوق بها الفنون أيضا.
كانت مفاجأة العرض الكبرى هي البطلة التي تجسد شخصية الفنانة الكبيرة الراحلة ليلى مراد، وهي الفنانة «ندا ماهر» التي تجيد التمثيل والغناء والرقص وهي بطلة حقيقية لقدرتها أولا على الوقوف أمام عملاق والتمثيل معه، وخطورة المقارنة بينها وليلى مراد، كذلك مجموعة الشباب التي أراهم لأول مرة محمد يحيى الذي يجسد شخصية مرزوق أفندي الشخصية التي جسدها في الفيلم عبد الوارث عسر، المربية سارة هاني التي تجسد شخصية قدمتها قبلها الفنانة الكبيرة فردوس محمد، حازم القاضي شخصية أنور الذي جسدها محمود المليجي، عمار الشماع الذي قام بدور أنور وجدي، مصطفى يوسف مربي الكلب، هؤلاء الأسماء عبروا عن رسالة أخرى حملها العرض المسرحي «غزل البنات» وهي تقديم جيل جديد واعٍ ومتدرب جيدا للمسرح وللفن عموما، الفنان ممدوح الميري رغم صغر حجم الدور حيث يجسد شخصية فراش المدرسة التي كان يعمل بها حمام، لكنه فاعل جدا في الأحداث، حيث هو من أبلغ حمام بأن ورقة اليانصيب قد ربحت وأحضر له كشف الأرقام الرابحة، مما غير اتجاه الأحداث، وجعل حمام يعتقد أن هذا المال قد زال الفوارق بينه وليلى، كما كان أيضا منقذها.
أما بنبونة العرض فكان أداء الفنان الكبير عبد الرحيم حسن الذي قدم شخصية الباشا التي جسدها في الفيلم الفنان الكبير سليمان نجيب، لن أتحدث هنا عن عبد الرحيم حسن كممثل فهو قدير وكبير وله تاريخ طويل مع المسرح والسينما والدراما التلفزيونية، لكن هنا في هذا العرض له بصمة مميزة فهو لم يقلد سليمان نجيب في الأداء، لكنه أحضره في ذات الوقت في إطار كوميدي بنكهة خاصة جدا، هي نكهة عبد الرحيم حسن.
الملابس التي قام بتصميمها ثلاثة فنانين هم: أسامة حتحوت، مريام عدلي، هدير زيدان، اتسمت بخاصية غريبة فهي فضلا عما تمثله من جمال وشياكة فإنها لم تعبر عن المرحلة فحسب بل يجوز ارتداؤها في الوقت الآني خاصة ملابس الفتايات. وبالطبع فساتين البطلة كانت مميزة جدا لتناسب ابنة الباشا. وملابس الباشا أيضا كانت لها طبيعة خاصة البدلة الأسموكن وملابس الطباخ التي ظهر بها في البداية.
ديكور العرض الذي صممه الفنان محمد رمضان أكثر من رائع به جمال وثراء وتكنولوجيا، فهو لا يعبر عن المرحلة فحسب بل يؤكد على مقولة إن المسرح أبو الفنون، يمثل الديكور ثلاث لوحات فنية أكثر من رائعة هي القصر من الداخل، القصر من الخارج حيث البوابة والسور والحديقة، استراحة الأستاذ حمام المطلة على الحديقة التي يقوم فيها بالتدريس لليلى، أما منزل الأستاذ عبد الوهاب فلم يظهر منه سوى صورة عبد الوهاب ويوسف وهبي وبعض فناني هذا العصر، وفيه تم تغيير اتجاه المسرح حيث خرج الفنانون من خلف ستارة وكأنهم دخلوا إلى المسرح موجهين أنظارهم إلى الجمهور في إيحاء أنهم يشاهدون عبد الوهاب.
احتل الغناء مساحة كبيرة في العرض فإضافة إلى كل أغنيات ليلى مراد في الفيلم التي تغنت بها الفنانة الموهوبة ندا ماهر، استمتعنا بغناء الفنان أركان فؤاد والفنان عمار الشماع، وأخيرا أغنية عبد الوهاب «عاشق الروح» بصوته.
الإعداد لم يشمل النص فحسب بل شمل موسيقى أغنيات ليلى مراد التي أعاد توزيعها الفنان عاطف صبحي الذي قام أيضا بوضع موسيقى العرض كله.
أعلم جيدا أنني لم أتناول شخصية الأستاذ حمام، نعم وهل بإمكاني فعل ذلك فمن جسد هذه الشخصية هو أوركسترا العمل كله، هو من قام بالتدريب والتوجيه والتعليم، هو قائد كتيبة وليس مخرجا وممثلا ومنتجا فحسب، لكنني أكتفي بانبهاري بلياقته التي ما زال يتمتع بها ورشاقته في الرقص والاستعراض، وروعة أدائه الغنائي في «حاسس بمصيبة جيالي»، «نفسي أعرف إحنا رايحين على فين».
وأخيرا أنحني له احتراما لعدم الاستعانة بفنانين لتجسيد شخصيات محمد عبد الوهاب ويوسف وهبي والاكتفاء بصورهم وصوت عبد الوهاب.


نور الهدى عبد المنعم