العدد 577 صدر بتاريخ 17سبتمبر2018
قبل سنوات بعيدة كان مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي قد استقر بوصفه فرصة سنوية (محليا وإقليميا بالأساس) لمتابعة ولتقديم الأفكار والتصورات الجديدة في مجال التعامل مع عناصر العرض المسرحي، لكن تلك التصورات والمحاولات التي كانت تقدمها العروض القادمة من كل مكان حول العالم، كانت تجمعها سمات مشتركة نتجت عن الكثير من العوامل الخاصة بالتجهيزات التقنية للمسارح المصرية ونوعية الفرق التي كانت تسعى للمشاركة في فعالياته وقدرات المهرجان المالية والتنظيمية.. إلخ، حيث يمكن أن نجد أن معظم تلك المحاولات والتجارب الناجحة التي حظت بقبول وإعجاب المشاركين والمتابعين لفعاليات المهرجان عبر تاريخه، كانت لا تعتمد على التقنيات التكنولوجية الحديثة بقدر ما كانت تعتمد على القدرة على تشكيل عناصر تقليدية مثل جسد الممثل أو الإضاءة أو الصوت.. إلخ؛ حيث أصبح المهرجان فرصة للتعرف سنويا على ما تنتجه المخيلة الإنسانية من أفكار لاستخدام (أو إعادة تدوير) ما هو بسيط ومتوافر ومعتاد وأساسي بصورة مدهشة وجمالية وقادرة على التواصل رغم كل الحواجز الثقافية واللغوية.
إن تلك السمة الأساسية كانت وما زالت هي أحد الرهانات الأساسية لمهرجان القاهرة للمسرح التجريبي ولكل القوى - الأكثر تقدمية - الداعمة داخل المجتمع المسرحي.. فبدون ذلك الرهان فإن المهرجان إما أن ينجرف إلى تقديم ما هو تقليدي أو معتاد تحت دعوى المعاصرة أو السعي خلف تتبع رهانات تحويل المهرجان لمعرض تقني للتكنولوجيات الحديثة في مجال تشكيل الفضاء.. إلخ.
من هنا، قد يكون عرض “أنا وأنت” الذي قدمته فرقة (مومينشانز) السويسرية، من تأليف (فلوريانا فراسيتو) وإخراج (ماركوس سيمين)، في افتتاح الدورة الخامسة والعشرين لمهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، نموذجا مثاليا لطبيعة العروض التي تمثل للمهرجان، وتعبر عن توجهاته، طبيعة الخطاب الذي تبناه عبر تاريخه.
ينطلق العرض من أطر شديدة الاعتياد حيث يعتمد بالأساس على استخدام تقنيات المسرح الأسود والأقنعة والدمى، وهي تقنيات تقليدية طورها واستخدمها المسرح عبر تاريخه منذ نشأته الأثينية. ومن جانب آخر، فإن العرض، وعبر زمنه الطويل نسبيا (تسعون دقيقة)، لم يبتعد كثيرا عن تقاليد معتادة في المسرح الأسود، وهي تقديم مجموعة من الاستكتشات التي تهدف بالأساس لتحقيق أثر مبهج ومدهش عبر الخداع البصري الذي تظهر فيه الأشياء والدمى وقد اكتسبت حياتها الخاصة بينما تسبح في فضاء غير خاضع لقوانين الفيزياء.
لكنه، ورغم ذلك فإن نزوع العرض نحو التأمل الحر في العلاقة بين الذات والآخر (كما يتجلى من عنوانه)، بالإضافة إلى محاولته إعادة تدوير وتشكيل خامات وعناصر تقليدية (أقمشة، أدوات، مواد، إضاءة.. إلخ) بالإضافة للمهارت الجسدية والأدائية للمؤدين، استطاع أن يتخلص من الصورة التقليدية لعروض المسرح الأسود الترفيهية التي تقدم للأطفال والكبار مع الاحتفاظ بالخفة التقليدية التي تميز أمثال تلك العروض في التعامل مع موضوعه.
فمن خلال عدد كبير من اللوحات والاسكتشات القصيرة غير المترابطة إلا عبر خط شديد الخفوت والتآكل متمثل في ذلك اللقاء بين كف يد ضخم (مؤدي يرتدي مجسم ضخم)، يدخل إلى المسرح عبر صالة الجمهور ويصعد إلى خشبة المسرح بعد مداعبة لبعض المتفرجين في الصفوف الأولى قبلما يلتقي بكف يد أخرى ليقدما التصور الأكثر بساطة للتماثل والتنازع عبر نزاعهم على بيضة.. ثم سرعان ما تذوب تلك الافتتاحية التي كانت تبشر بمناقشة موضوع العلاقة بالآخر ونزعة التملك والحيازة في مقابل صعود تتابعات مختلفة بداية من عالم الحشرات لعوالم الكائنات البحرية الطيور والحيوانات.. إلخ، وفي أثناء ذلك اللهاث للتتابعات يعود ذلك الخط البسيط الذي ظهر في الافتتاحية قبلما يذوب من جديد في تلك التتابعات المختلفة التي لا يربط بينها سوى وجود علاقة «ثنائية» تهدف للتواصل أو السيطرة أو التملك.. بحيث يصبح الآخر دائما – في إطار علاقته بالذات - هو موضوع الاهتمام ومحط التركيز بالنسبة للعرض، وهو ما يمتد للعلاقة مع صالة المتفرجين - منذ بداية العرض التي أشرنا إليها – مرورا بعمليات التواصل المختلفة مع الجمهور مثل استداعائهم إلى خشبة المسرح للمشاركة في تشكيل قناع أو مشاركتهم اللعب ببالون.. حيث يستفيد العرض من الروح المرحة والخفة والعلاقة التقليدية بين المتلقي والمسرح الأسود - لكونه مرتبطا بالطفولة والترفيه في التواصل وإنتاج علاقة أو مشاركة بينه والمتلقي، وذلك في سبيل تحقيق خطابه المعلن وهو التأكيد على الانفتاح والتواصل بشكل عام حتى وإن لم يحاول العرض تحويل ذلك الخطاب إلى موضوع للتفكير الجدي.. حيث ظلت التنويعات المختلفة على الفكرة بخفة ومرح هي السائدة بينما اندفع العرض من جانب آخر إلى تحقيق حالة الإدهاش والإمتاع للمتفرجين عبر الاستخدامات المبتكرة للخامات والمواد إلى جانب استغلال المهارات الأدائية في المايم والرقص والأكروبات والعزف وتشكيل أقنعة الصلصال.. إلخ.
إن تلك الخفة التي تعامل بها العرض مع موضوعه ربما لا يعادلها سوى تلك الجدية التي تعامل بها مع التقنيات والمهارات الخاصة بالمؤدين سواء الجسدية أو بوصفهم محركي دمى وعرائس.. إن تلك الجدية التي تعامل بها العرض مع ما هو إنساني ويدوي في مقابل نقد لانعدام التواصل ونزعات التملك والخضوع للتقنيات الحديثة مثل اسكتش المايم الذي يتناول أثر أجهزة التليفونات المحمولة في العزلة التي تتحطم عبر الرقص.
إن ذلك الخطاب المناهض للآثار السلبية للتقنيات الحديثة يطل برأسه طوال العرض بداية من خياراته في التعامل مع التقنيات التي يستخدمها، والتي يمثل الخيال البشري الأساس في تشكيلها مرورا بذلك الاحتفاء بالطبيعة والكائنات الحية المحيطة بالإنسان.. إلخ.
إن تلك الرهانات التي يتبناها العرض قد تكون بسيطة لكنها تكتسب قيمتها في افتتاح مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي من محاولتها تبني خطاب تحرري وتواصلي مع الآخر عبر مزيد من التأكيد على ما هو إنساني وقابل للإدهاش وتحقيق المتعة.