العدد 864 صدر بتاريخ 18مارس2024
«اعمل نفسك عاقل» مسرحية من انتاج شركة انترناشيونال جروب للإنتاج والتوزيع الفنى، لمديرها التنفيذى الدكتور عمرو الفقى، ومن تأليف الدكتور ابراهيم الحسينى، وهى بطولة مجموعة من الوجوه الجديدة ومن اخراج الفنانة خيال حسن ، التى اشرفت على تدريبهم على الآداء التمثيلى خلال الفترة الماضية ، و المسرحية تم عرضها مؤخرا على مسرح الهوسابير لمديرته المنتجة و المخرجة أروى قدورة .
و كلمة “هوسابير” باللغة الأرمنية تعنى “ باعث الأمل « ، و بالتالى مسرح الهوسابير هنا هو المسرح الباعث للأمل فى تقديم مسرح قطاع خاص يحترم جمهوره من الأسر و العائلات و شباب مصر المستنير ، و يحترم تاريخه منذ ان بدأ المسرح فى عروضه الناجحة لفرقة ثلاثى اضواء المسرح عام 1981 و الذى تملكه جورج سيدهم فى مطلع التسعينات ، و التى من اشهرها كانت “ مسرحية المتزوجون “ و “ مسرحية اهلا يا دكتور “ مع الفنان سمير غانم العضو الباقى من فريق ثلاثى اضواء المسرح ، حيث اتفق جورج سيدهم مع سمير غانم ، على رفض تغيير اسم الهوسابير لأسم آخر ، و حقق المسرح نجاحا كبيرا .
و يحسب للمنتجة اروى قدورة بجانب عروضها الإنتاجية الخاصة بها ، فتح مسرحها ايضا للفرق المستقلة و الهواة التى اغلب عروضها تكون انتاج ذاتى ، حتى لو كان الغرض من ذلك تحقيق ارباح تجارية لها من خلال شباك التذاكر او الإيجار ، و لكن من المؤكد انها تقوم بالإشراف على تلك العروض من حيث المستوى الفنى او الأدبى لها قبل الموافقة على عرضها ، و يتضح ذلك من خلال مشاهدتى لبضعة عروض هناك على مسرح الهوسابير لفرق حرة و مستقلة و مستوى ما تقدم هذه العروض من فن راقى لاعلاقة له بالإسفاف او الإلتفاف .
و عرض “ اعمل نفسك عاقل “ هو واحد من تلك العروض التى شاهدتها ، و بما تقدمه من فن هادف لمجموعة من الهواة و الوجوه الجديدة ، و بما يتناسب مع إمكانياتهم المادية أو الفنية ، فدوما التقييم النقدى لتلك الشريحة او الفئة من الهواة لابد ان يختلف تماما عن التقييم النقدى لفرق المحترفين ، و عدم المساواة بينهم فى النظرة النقدية و مراعاة الاختلاف كلية بينهم من حيث الإمكانيات و الخبرات ، شريطة ان يكون العرض فى مجمله منضبط محققا الهدف من ورائه ، سواء كان تصنيفه كوميدى او تراجيدى و عدم الحياد بعيدا عن ذاك الهدف .
و العرض المسرحى المعنى به موضوع النقد هو عرض تصنيفه كوميدى ساخر ، و بالفعل نجح صناع العرض اخراجا و ممثلين فى تحقيق تلك الغاية الكوميدية منه ، فقدموا بالفعل نوع من كوميديا الموقف الراقية و الهادفة الا و هى الكوميديا السوداء ، و التى نجحوا من خلالها بالفعل فى إثارة ضحكات الجمهور و ساعدهم على ذلك كثيرا الورق المكتوب بحرفية و إتقان شديد لكاتبه الأديب الكبير ابراهيم الحسينى ، و ان كان ينقصهم فقط عنصر التأثير النفسى على جمهور المتلقى فى بعض مواقف العرض المسرحى ، بالمآساة التى يعرضها المؤلف من خلال نصه المسرحى بشكل فلسفى و غير مباشر ، حيث ان التمثيل الجيد و المدروس و الاحساس الصادق و المرهف فى الآداء ، يعدان هما الوسيلة الوحيدة فقط لا غير لتصدير مثل تلك المآساة لقلب و عقل المتلقى بشكل فطرى و بدون ان يشعر ، و ذلك حتما يعود الى ان ابطال العرض من الممثلين الهواة محدودى الخبرات ، حيث ان اغلبهم يعتبر العرض أول وقوف له على خشبة المسرح ، و ان كان هذا لا ينفى وجود البعض منهم ممن تتضح عليهم الخبرة حيث التلقائية فى الآداء و الصدق الفنى ، و لكن المعتاد فى العروض المسرحية انها عروض جماعية مثلها مثل كرة القدم لا تقوم على الممثل الأوحد او اللاعب الواحد ، انما تحسب فيها النتائج بتضافر المجموعة ككل مع بعضها البعض فى الفعل و رد الفعل ، و لكن فى المجمل نستطيع ان نقول ان فريق العرض المسرحى “ اعمل نفسك عاقل “ ، قد قدموا لنا عرضا تتعدى نسبة نجاحه السبعين فى المائة على مستوى جميع عناصره ، فمن المعروف ان الحكم و مقاييس النجاح لأية عروض مسرحية تراعى دائما جميع عناصر العرض الأخرى ، من رؤية اخراجية و نص مسرحى و ديكور و موسيقى و استعراضات و اضاءة و ملابس .. الخ من عناصر العرض و ليس عنصر التمثيل فقط وحده .
و العرض المسرحى “ اعمل نفسك عاقل “ لكاتبه ابراهيم الحسينى ، تدور قصته حول مجموعة من المرضى في مستشفى نفسي يمارس عليهم قهر شديد من إدارة المستشفي ، تدفعهم لإختطاف الممرضين و الأطباء و عمل إنقلاب ليحل المرضي مكان إدارة المستشفي ، لنكتشف فى النهاية أن مدير المستشفي و معاونيه يبيعون أعضاء المرضي وجثثهم .
و النص المسرحى حقيقة هنا يعد هو بمثابة البطل الأوحد للعرض المسرحى ، لما يحمله من دلالات و اسقاطات غير مباشرة عما حولنا فى الحياة من أمور عديدة حقيقتها صادمة عندما نتكشفها فى لحظات فارقة من حياتنا ، نصل فيها الى الذروة من قوة التحمل و الصبر فنقرر بعدها التمرد بكل شجاعة ، و مع ذاك التمرد تطفوا لنا على السطح اجابات لألغاز كثيرة عجزنا فترات طويلة عن ايجاد اجابات شافية وافية لها .
و فى تلك اللحظة التى نثور فيها على ما نحن فيه من استسلام لواقعنا او ما آل اليه حالنا و حياتنا ، و نقرر فيها استخدام عقولنا بعد فترات طويلة من الصمت و التغييب ، نكتشف معها اننا كنا نحيا حياة اشبه بالمجاذيب الذين يعيشون منعزلين بمستشفى الأمراض العقلية يتم استغلالهم حيث لا يعلمون أويعرفون شيئا عن العالم الخارجى .
و يتضح ذلك بالنص المسرحى فى الإسقاط العبقرى للكاتب ابراهيم الحسينى ، عندما جعل حقيقة مدير المستشفى و اطبائها لا تتكشف الا عندما تقمص المرضى النفسيين دور العقلاء ، عندما قاموا بالإنقلاب على ادارة المستشفى ليحتلوا اماكنهم ، و مع هذا الإحلال تأتى الصدمة عندما يعلمون ان جثثهم و اعضائهم تباع موتى او احياء ، و كأن الكاتب اراد ان يخبرنا من ذاك الإسقاط ، انه مع عبثية تلك الحياة التى نحياها بكل ما فيها من تناقضات ، قد تتمنى يوما ان تعيش بريئا مغيبا كما كنت من قبل ، أفضل من ان تعيش مدركا لكل ما يحدث حولك من شرور و صدمات فى مجموعات او اشخاص كنت تظنهم يوما انهم يكنون لك الرعاية او الاهتمام أو الحب ، بعدما صرنا فى زمن اصبح فيه ممن نعتبرهم مسئولين عنا هم اعدائنا او من يستغلوننا ، فلم نعد معه نعرف الحقيقة من الكذب أو الخطأ من الصواب ، ليبقى التساؤل الذى يطرحه النص للمتلقى فى النهاية تاركا له حرية الإجابة ، هل من الأفضل ان تظل عقولنا مغيبة عن الحقيقة و لا نسعى لمعرفتها كى تستمر ثقتنا الوهمية فى الآخرين و نستشعر معها الأمان الزائف ؟ ام نقرر المواجهة و التمرد على كل ما هو فاسد مهما كانت نتائج هذه الصحوة التى قررنا فيها يوما ما ان نستخدم العقل و المنطق ؟!!
النص المسرحى “ اعمل نفسك عاقل “ هو نص ينتمى الى الكوميديا السوداء التى تناولها الكاتب فى قالب عبثى فكرى يهدف من خلاله الى إثارة المتلقى لإستخدام عقله فى كل أمور حياته حتى لا يقع ضحية لإستغلال اقرب الناس اليه ، و من مزايا النص هنا انه افسح المجال لكل من يقوم بإخراجه فى تناوله بأكثر من مذهب و طريقة ، فهو قماشة واسعة لكل مدارس الإخراج المعروفة سواء ان كانت عبثية أو تجريبية او ملحمية .. الخ
و بالرغم كما اخبرنا سلفا بأن النص هنا متاح لكل مدارس الإخراج ، الا ان المخرجة خيال حسن تناولته هنا برؤية واقعية بعيدة عن فلسفة النص القائم على التناقضات و الرموز و الدلالات و الإسقاطات ، فجاء اخراجها للنص تقليديا بعيدا عن اية جماليات فنية كان من الممكن ان تستغلها فى ظل امتلاكها لنص غنى و عبقرى ، بإستثناء مشهد الإستعراض العبثى الخاص بإستحضار الموتى فى صحبة شخصية مثالية وهمية تمثل العدالة أو الملاك الحارس و التى اختارت المخرجة ان تقوم بآدائها بنفسها و أدته بإحساس مرهف ، من اجل كشف الحقيقة و محاسبة الفاسدين فى شكل اشبه بالدراما الحركية اتضح فيه اجتهاد خيال حسن فى تصميمه بشكل معبر ، و لكن فى ذات الوقت يحسب لها شجاعتها فى تحدى نفسها فى ان تكون أول تجاربها الاخراجية بنص مسرحى عميق و ذاخر بالعديد من الشخصيات المسرحية ، و استعانتها بأكثر من عشرين ممثل و ممثلة من الوجوه الجديدة اغلبهم لم يسبق له الوقوف على خشبة المسرح ، و قيامها بنفسها بتدريبهم طيلة ثلاثة شهور كما اخبرت لتصل فى النهاية الى تلك النتيجة المحمودة نوعا ما بإعتبار انها حديثة العهد بالإخراج و التدريب ، مما ينبئ معه بإنها مع الإستمرارية فى تكرار مثل تلك التجارب ، اضافة الى ما تتمتع به من شخصية و شجاعة اخراجية قد تصل يوما ما الى درجة الإحترافية ، شريطة تنمية تلك الموهبة بالدراسة و القراءة و الإطلاع بإستمرار على كل ما هو جديد فى علم تدريب الممثل و المدارس الإخراجية .
و فى الحقيقة جاءت حركة الممثلين على المسرح منضبطة و سليمة وفقا لقوانين خشبة المسرح بالرغم من قلة خبراتهم المسرحية ، و بالرغم من كم الممثلين الضخم بذاك العرض ، و الذى ارى من وجهة نظرى انه كان بإمكان المخرجة تقليص هذا العدد الى حد كبير من أجل تقليل الوقت الزمنى و سرعة الإيقاع للعرض المسرحى منعا لتعرض المتلقى لأية لحظات من الملل ، فالعروض التى تفتقد للنجوم او المشاهير يكون دوما من الأفضل لها الا تزيد مدتها عن ساعة و ربع ، كما ان النص الأصلى للكاتب الكبير ابراهيم الحسينى لم يكن به هذا الكم من الشخصيات الوافرة ، و التى أرى ضرورة ذكر كل اسمائهم من باب تشجيعهم على الإستمرارية لما بذلوه من مجهود مضنى و واضح يبشر بمستقبل مشرق لهم مع الدراسة و التدريب و ما يمتلكونه من خفة ظل و ارادة و حب للتمثيل ، يوسف البسيونى بدور دكتور جلال ، احمد على بدور حريص ، احمد محمد بدور دكتور سيد كلاوى ، وليد سامى بدور مولانا و دور المحافظ ، ياسر ابو الدهب بدور عم شكشك ، مصطفى احمد بدور فاضل ، عبد الله الأمير بدور عبقرينو ، ادهم الشرقاوى بدور رمزى ، ابراهيم السيد بدور عامل السويتش ، احمد عبد الله بدور طاهر ، احمد عبد الصبور بدور النادورجى ، احمد تيتو بدور حسنين ، ميادة أنور بدور سهام ، يزن شاويش بدور سونة ، ندى سعيد بدور خيرى ، سعيد عمرو بدور الجثة عيد السيد احمد بدور المعلم عضمضم ، احمد دبيكى بدور طرطور ، احمد الصياد بدور الدكتور احمد ، عبد الرحمن محمود بدور امجد ، عبد الرحمن عصام بدور مأمور ، احمد فرج بدور أيوب ، خالد السيد بدور شديد ، محمود محمد بدور الدكتور خالد ، محمد سمير بدور بهاء ، مصطفى الجندى بدور ابو العيون ، عمر التركى بدور مازن .
و لفت نظرى مقدار ما يتمتع به كلا من يزن شاويش و ندى سعيد من حرفية و خبرات سابقة و موهبة واعدة .
بالرغم من بساطة الديكور للعرض المسرحى الا ان كل لوحاته جاءت موحية و معبرة عن المستشفى كحدث مسرحى ، كما استخدم مصمم الديكور فى احدى اللوحات خلفية بيضاء بشبابيك اشبه بالزنزانة فى دلالة قوية على تشابه المعاملة بالمستشفى بذات المعاملة فى السجن مع انعدام الحرية و العزلة عن العالم الخارجى .
جاء تصميم الملابس ايضا ذاخرا بالتفاصيل التى تعبر عن كل شخصية من شخصيات المسرحية على حدة ، و فى اعتقادى ان اغلب تصميمات الملابس جاءت بإجتهاد من الممثلين الذين يجسدونها شخصيا ، مع توجيهات المخرجة كحال كل عروض الهواة و ما يتلائم لها من امكانيات ، و لكنها فى المجمل جاءت ملائمة و موفقة .
الإضاءة لأحمد ماندو جاءت اغلبها اضاءة full light ، نظرا لكم الممثلين الضخم على خشبة المسرح فى كل لوحات العرض ، مما يصعب معه عمل لحظات اضاءة خاصة بإستثناء اضاءة الاستعراض الوحيد للمسرحية .
الموسيقى التصويرية جاءت معبرة بصدق عن كل حدث مسرحى بما به من لحظات خاصة سواء كانت رومانسية او مرعبة او توحى بالرهبة و الخطر ، الا انها لم تكن بارزة فى العموم لندرة تلك المواقف و الحالات ، حيث ان العرض المسرحى يصنف كوميدى من بدايته لنهايته ، و فى الغالب مثل تلك اللحظات الجادة يندر وجودها فى العروض الكوميدية ، و بالتالى الموسيقى التصويرية المصاحبة لها لا يستشعرها جمهور المتلقى نظرا لندرتها فى وسط طابع العرض الكوميدى ، على عكس عروض الدراما الأخرى الجادة .
و أخيرا تستحضرنى مقولة هامة الا وهى “ ان هواة اليوم هم نجوم الغد “ ، لذا وجب التحية و التقدير لكل من يدعم مسرح الهواة سواء بالإمكانيات المادية او المعنوية او الصحفية او الاعلامية ، فلولا مسرح الهواة ما كان مسرح المحترفين ، فالمبنى الذى يفتقد الأعمدة و الأساس ينهار أرضا ، و الهواة هم اساس و اعمدة الفن التى منها نكتشف المحترفين و النجوم ، فمن منا لم يخوض تجربة الهواة ايا كانت نوع موهبته ، لذا استحق هنا الناقد و الكاتب و الأديب الكبير الدكتور ابراهيم الحسينى كل الإحترام و الثناء على دعمه المعنوى و تشجيعه للهواة بالسماح لهم بإستعارة نصوصه المسرحية المتنوعة والثرية بالمعانى و الدلالات من اجل تنفيذ تجاربهم عليها و اكتشاف اجيال من الممثلين و المخرجين الجدد ، بل انه يقوم بمعاونتهم ايضا سواء بالنصح و الارشاد مع منحهم حرية الإضافة او الإعداد مثلما يفعل تماما مع النجوم و المحترفين ، كما توجب التحية ايضا لمنتج العرض المسرحى الدكتور عمرو الفقى ممثلا فى مؤسسته الفنية ، على دعمه المادى لتلك المجموعة الكبيرة من الهواة و مساندته لمخرجة فى اولى خطواتها الاخراجية ، من اجل ضخ دماء جديدة للفن المصرى و الإرتقاء به ، و اخيرا و من خلال تلك المقالة النقدية اقترح على وزارة الثقافة فتح القاعات بمسارح قصور الثقافة المختلفة ، من اجل توفير مكان للبروفات للفرق الحرة و الهواة فى اوقات مخصصة و محددة لهم ، حيث انى على علم و دراية بكم المعاناة التى تواجهها تلك الفرق ، حيث لا مكان محدد لديهم لعمل بروفاتهم المسرحية ، مما يتسبب فى اجهاض احلامهم المسرحية ، و التى تعد متنفسا لهم يحميهم من براثن الانحراف و الارهاب ، فالقوى الناعمة بمثابة درع و حصن قوى و وسيلة سحرية لتقوية الإنتماء للوطن ، فالشعب المصرى من اكثر الشعوب التى تقدس الفنون و تذوب حبا فيها منذ المصريين القدماء ، على ان تكون هناك شروط محددة تضعها الوزارة لمن يقع عليهم الإختيار منهم ، و تنطبق عليهم شروط الموافقة بعمل تلك البروفات أسوة بفرق قصور الثقافة الجماهيرية ، فمسرح الهواة هو بمثابة الأرض الخصبة الصالحة لإنتاج و إكتشاف مواهب حقيقية .