الدراماتورجيا في عصر ما بعد الدراما (2)

الدراماتورجيا في عصر ما بعد الدراما (2)

العدد 862 صدر بتاريخ 4مارس2024

 ماذا يعني هذا، بالنسبة للميزانسين؟ «نحن» تعني كل أولئك المشاركين في التجربة: كل إنسان حي، ومن ضمنهم المشاهدين. وسوف نشعر به معا (كل منا بنفسه، وحده: ولن يكون هناك اتصال، فهذا ليس جماعيا)، لأنه ما دامت التجربة مستمرة – أو ربما عبر سلسلة من التجارب، لكي أكون دقيقا.
  لأن هذه الصحوة لا تحدث دفعة واحدة. فتغير الحالة مستمر في الحدوث، في كل اتجاه ممكن. ويبدو بشكل غريب أن هناك أكثر من احتمالين. على أية حال، فإن هذا ليس بعثا بالمعنى المسيحي (حقيقة أن الانتقال الذي يحدث أكثر من مرة يجب أن يبدد أي معنى عقائدي).
 المتفرج (ذهنيا) يعكس ذاته في مشهد التجربة، لأنها حياته، مختزلة إلى تجربتها الأكثر أهمية والتي يطلب منه الاستفادة منها. هل هو حي أم ميت؟ يجب على كل متفرج أن يقرر ذلك بنفسه، إذا استطاع.
 أقل تأثير ممكن للتوصيف. لأنها مسرحية بأقل دراما ممكنة والتي تقربنا من تقديم الذات فضلا عن التمثيل، وبالتالي حداثته.
 فلا توجد دراما بين روبيك ومايا. فمايا تهرب وتقترب من أوفاهايم. ويتركها روبيك تذهب. ولا توجد دراما أيضا بين روبيك وايرين أيضا. هناك سلسلة من الحركات تفسر نفسها في حركة كبيرة واحدة تقربهما معا، وتقودهما بالقرب من الموت.
والشخصيات الأربعة في أقرب نقطة للحياة، ولتجربة الحياة. وأقرب لتأمل حياتهم – ولكن هذا أمر ثانوي لما يعيشونه فعلا في هذه اللحظة.
تجربة الحياة هذه، وهذا الشك (هذا القلق) الذي يدوم هو ما يجعل المسرحية أشبه بالتقديم. وبالنسبة للممثلين فإنه معنى الوجود أقرب ما يمكن من هذه الحياة، في عري اللحظة، ومشاركتها مع المشاهدين.
بوضوح، ينتمي عرض «عندما نصحو نحن الموتى» إلى نموذج الدراما الجديد والذي يسميه جان بيير سارازاك «دراما الحياة» في مقابل «الدراما في الحياة»: وهو نوع مختزل من الدراما إلى الأساسي، دراما الحياة كلها. ونقلا عن ميترلينك «لم تعد تلك لحظة عنيفة واستثنائية تلك التي تمر أمام عيوننا – إنها الحياة نفسها». ورغم ذلك، في العام التالي، عندما بدأت أنا وألين بيزو عملا عن «الوهم الهزلي L›Illusion Comique” تأليف كورنيه، كنا محاصرين بنفس الأسئلة:
تسمية كل شيء بالمسرح لن تحل أي شيء، لأننا يمكننا بنفس السهولة تسمية كل شيء حياة حقيقية. فكل شيء يبدو حياة حقيقية، وهو بالطبع كذلك. نظرا لأن هؤلاء الممثلين الحقيقيين الذين يشاركون معنا في الزمن والمكـان طوال مدة الأداء. إنها تجربة مشتركة، حيث يكون بريدامنت الضحية والمستفيد، خنزير غيني وشاهد مميز، بإيمان يحسد عليه بكل شيء يراه (وهو مستوى ثقة لن نحققه أبدا).
      يمكن أن يكون التحدي الرئيسي للتقديم على خشبة المسرح هو جعل المشاهدين يشاركون في نفس درجة الإيمان (مادام ذلك ممكنا).
وحتى لو كان عرض «الوهم الهزلي» يمكن اعتباره مثل «دراما الحياة» قبل أوانها (دراما بريدامنت، يبحث عن الزمن علاوة على ابنه المفقود)، فإنه يتضمن أيضا بعض أجراء من «الدراما في الحياة» (المسرحية داخل مسرحية) التي تلح عليها تاريخيا وتفرض بعض الصعوبة على الدراماتورج والمخرج اللذين يجب أن يجدا، من خلال تحديد إمكانيتها للتقديم في مقابل التمثيل، الشرارة في المسرحية للمتفرج المعاصر، بينما يعترفان بأن المسرحية مكتوبة بالأمس – وتضع أمام عيونهما شخصيات وقصة قديمة غير محتملة، ويخلقا بشكل مؤثر نسبيا شكوكهما لكي يعكساها (ويختبراها) . ف «الوهم الهزلي» مسرحية ليست مكتوبة لخشبة المسرح بعد الدرامي. إنها العكس تماما في الواقع. وإذا لم توضع الطبيعة التاريخية للمسرحية (انعكاس على الدراما والوهم) في توتر مع طبيعة المشاهدين في بداية القرن الحادي والعشرين، من خلال سياق مسرحي مختلف. فإنها لن تفلح ببساطة.
   إن ما عبرت عنه بالإشارة إلى حالة «الوهم الهزلي» النموذجية (وهي نموذجية بسبب طبيعة المسرحية) أعتقد أنه يجب تطبيقه على أي عملية دراماتورجية اليوم. وهذه هي الحالة دائما (منذ ابتكار الميزانسين)، حيث كان تقديم المسرحية للمشاهدين المعاصرين لنا كان يعني دائما قراءتها لعصرنا – باستثناء أن التمزق المبتكر من خلال اختراع الميزانسين قد تبعه منذ ذلك الحين تمزقا أكبر، كما شرحنا سابقا: إنه أكثر من مجرد تمزق، إنه سطر مغلوط، يفتح خليجا واسعا.
 ويبدو أنه منذ 2010، وضعت العروض الأوروبية للمسرحيات المكتوبة مسبقا، ولاسيما المسرحيات الكلاسيكية، نفسها في هذا الخليج الواسع. ودعونا نستدعي مثلا كيف وضعنا توماس أوسترماير على المستوى مع مسرحية ابسن «هيدا جابلر»، إذ قام بتحديث أساس المسرحية المبني على إعادة الكتابة الذي وفرته ترجمة ماريوس فون ماينبورج. والدراماتورجيا هنا لا تنفصل عن الميزانسين: في توجيه الممثلين الذين لا يؤدون شخصيات مركبة، والأزياء الحديثة، وتصميم خشبة المسرح الذي يظهر جانبي خشبة المسرح باستخدام مراقبة الفيديو، والاستخدام المختصر للصور المصورة سينمائيا في بداية كل فصل للدخول إلى هذا العالم الذي يتحول ليكون عالمنا... وأميز تأثير هو استبدال مخطوطة لافبورج التي أحرقتها هيدا بفعل أدائي قوي بشكل بارز: حدث عنيف في مادته وجوهره يضعنا نحن المشاهدين داخل نفس التجربة دون تجاهل أو إنكار البنية الدراماتورجية للمسرحية.
   يشعر الكاتب المسرحي بنفس مشكلة التنسيق مع خشبة المسرح المعاصرة. ومن المؤكد أنه يستطيع أن يفعل ذلك، كما حدث من قبل، يرجئ المشكلة للخطوة الثانية من العملية المسرحية. من خلال تمريرها للمخرج. وهذا الموقف قابل لأن يحدث اليوم، أولا، وكما شرحنا آنفا، لأن المسرح أصبح مختزلا في خطوتين، وثانيا، لم يعد الاقتران بين الكاتب المسرحي والمخرج يشغل المكانة المهيمنة التي كان يشغلها في القرن العشرين.
 فالكاتب المسرحي اليوم يواجه بديلا. إذ يكون الخيار الأول من خلال عدد متزايد من الكُتاب، الذين يخرجون أعمالهم. ويفعلون ذلك من خلال المحافظة على عملية «الخطوتين التقليدية» (يكتبون النص أولا دون أن يفكروا في عرضه بالضرورة؛ ثم يقومون بتركيب المسرحية)، أو ربما يفعلون ذلك بمزج المرحلتين في نفس الوقت، كما يفعل جويل بوميرات، الذي في ممارساتهم التي ترجع تقريبا إلى خمسة وعشرين عاما، إذ يتصور عمله ككاتب مسرحي بطريقة أخرى:
 أعتقد اليوم أنه يمكننا أن نصبح صناعا للمسرح بالفعل من خـلال ربط عملية كتابة النص بإحكام بعملية الميزانسين. وأعتـقد أنـه من الخطأ أن نفكر في هاتين المرحلتين بأنهما منفصلتان عن كل منهما الأخرى.
ويمكن متابعة هذا الموقف النظري (المدعوم بالنقد المستمر بوميرات لسلطة المخرج على مدار القرن العشرين) من خلال العمل الإبداعي للممارسين المتعددين مثل روميو كاستيلوتشي، وروبرت ليباج، وفرانسوا تانجوي، وأنجيليكا ليديل، ورودريجو جارسيا وآخرين. فبالنسبة هؤلاء المؤلفين، فإن النص (غير الدرامي غالبا) ليس فقط عنصرا واحدا (في تسلسل متغير) بين كل أولئك الذين يشكلون السجل المسرحي. فعدد منهم أيضا فنانون استعراضيون بالتدريب، الذين ينتمون بشكل صريح إلى سلالة روبرت ويلسون أو تادوش كانتور. ويجب أن تؤثر هذه المجموعة من الظواهر (التقارب الشديد بين الكتابة والعرض على خشبة المسرح، وعدم فصل النص عن الميزانسين، وأهمية الجانب البصري) في طبيعة النصوص التي يتم تقديمها، والتي بحكم الأمر الواقع توفر إجابة لسؤالنا.
 والاختيار الثاني تناوله المؤلفون (وأفضل أن أقول كتاب المسرح) والذين بالاختيار (أحيانا) أو بالضرورة (غالبا، يستمرون في الكتابة على مسافة بعيدة عن خشبة المسرح، ويقدمون النصوص منفصلة (وكثير من هذه النصوص ما زال مكتوبا، كما تشهد لجان قراءة النصوص) التي تجلس في انتظار التشكيل، والتي تجلس غالبا وبشكل متزايد مثل النصوص المنتظرة، التي يخاطر اندماجها مع خشبة المسرح، بغض النظر عن مدى روعتها، بأنها لن تكتمل أبدا.
 وفي الختام، فإن الفرضية التي أود أن أقترحها هي أن هذه النصوص يجب أيضا أن تظل مع المسرح المعاصر، حتى عندما تبدأ ككتابة درامية مستقلة. ونرى فقط ما لم يعد ملائما: القصص الواضحة جدا، والبنية الدرامية القوية جدا (فقد اختفت كلمة حبكة من مفردات الدراماتورجيين والكتاب في المسرح المعاصر)، والشخصيات ذات التوصيف المبالغ فيه. ومن الصعب أن نحدد بدقة فما زال هناك الكثير من العمل: الفكرة هنا ليست استعادة تقاليد اختفت مع ميلاد الميزانسين الحديث – نظرا لأن هذه الأعمال يمكن أن تنتشر بطرق مختلفة بحيث يمكن اعتبارها متناقضة، وتدمج الجانب متعدد المجالات لخشبة المسرح المعاصرة والكتابة، في خدمة القصة أو بدونها، وفي خدمة المشاركة، بدرجات متفاوتة، في بناء التمثيل، وربما إلى ما يشبه القضاء عليه. ويمكننا أن نرى سبب أسس اهتزاز الفن الدرامي: إذا كان الأمر يتعلق بسؤال خلق أفعال لخشبة المسرح في المقام الأول، التي لا يمكن أن تمثل أفعلا أخرى، والتي نادرا ما تنفتح على مكان آخر، وزمان آخر، فإن ما نفعله عندئذ هو ابتكار أشكال درامية جديدة.
 لقد كان ضعف الشخصية خلال القرن العشرين أحد الأعراض الرئيسية لنقد المحاكاة – أو ما يشار إلى أنه «أزمة التمثيل». إنه يؤدي، عند كاتب مسرحي مثل جون فوس، إلى مخطط تفصيلي يمكن مقارنته، مع إجراء ما يلزم من تعديل، (هذا مع الأخذ في الاعتبار أنه كاتب مسرحي) بالنسبة لما وصفناه سابقا، فيما يتعلق بمسرح المواجهة المباشرة. مواجهة القاعة في عرض «الجحيم»، أناس بلا ملامح – أنا وأنت – في الدراما البسيطة في حياة كل إنسان، فهي بالكاد دراما، وهم بالكاد شخصيات.
 يتجلى هذا الإضعاف للشخصية في الأعمال التي تسعى الآن أن تقدم، بطريقة أربعة ممثلين في مسرحية «اهانة المشاهدين»، مؤدين فقط بدون هوية غير هويتهم الفعلية. فلم تعد حتى شخصيات بل عازفين. وفي هذا الإطار، على سبيل المثال، يتحدث الكاتب المسرحي الروسي ايفان فيريبيف عن المفسرين لمسرحيته «رقصة دلهي Delhi Dance”. “لا يجب أداء هذا النص بل يجب تفسيره” مثل النوتة الموسيقية. وقد كان جالين ستوف مخرج النص أكثر وضوحا: “لا يجب على الممثل أداء الشخصية، بل يجب أن يلعب على الشخصية” بنفس الطريقة التي يلعب بها الموسيقى على آلته. فهل هذا إعلان عن قصد المؤلف (منقول بواسطة المخرج)، في تزكية طريقة أداء مسرحيته؟ بالتأكيد كلا: بنية العمل كلها محددة باختياره، مع تكرار المفسرين لسلسلة من التنويعات من مشهد إلى التالي، وكل مشهد يبدأ الحدث بإلقاء جديد للنرد من موقف معين.
   وأحيانا يأتي استخدام معلق أو أكثر (مقدم أو معلق أو جوقة) ليحل محل الحدث الذي يتم تمثيله بسرد للحدث في صيغة الحاضر في العرض. ومن دانييل دينيس إلى بليانا سربيانوفيتش، هناك أمثلة كثيرة في الأدب الدرامي المعاصر. والمزيد من التحرك من الدرامي، في مسرحيات فاليري نوفارينا، وراء كثرة أسماء أشباه الشخصيات، ألا يمكننا أن نرى مجرد حضور الممثل- المؤدي الذي يصارع الكلمات؟.    
............................................................................
جوزيف دونان: يعمل أستاذا في قسم المسرح بجامعة السوربون (باريس 3) وهو كاتب مسرحي ودراماتورج، ومن أبرز أعماله “ما هي الدراماتورجيا”
 نشرت هذه الدراسة في «New Dramaturgies: International Perspectives”الصادر عن Bloomsbury Methuen 2014.


ترجمة أحمد عبد الفتاح