العدد 852 صدر بتاريخ 25ديسمبر2023
اتضح لنا مما سبق أن الريحاني لم ينجح – النجاح المتوقع – في أول مسرحيتين لفرقته الجديدة، فأقدم على عرضه الثالث وهو مسرحية «الجنة» تأليف «هانكان» وترجمها السيد ولي وأحمد جلال، وأخرجها «موريس وجيه»، وقام ببطولتها نجيب الريحاني، وماري منصور، وحسن فايق، ومصطفى سامي، وأحمد نجيب، وزاهية سامي.. هكذا جاء في إعلانات الصحف وبالأخص جريدة «الأهرام» في نوفمبر 1926. ولكن الريحاني أخطأ الاختيار لأن مسرحية «الجنة» مثلتها فرقة أمين صدقي باسم «عصافير الجنة» قبل الريحاني بعدة أيام، وهذا الأمر قسّم النقاد إلى قسمين: أحدهما ينصر الجنة على عصافيرها، والآخر ينصر العصافير على الجنة.. هكذا كانت الحركة النقدية المصاحبة للعرضين وقتذاك!!
ومثال على ذلك ما كتبه ناقد مجلة «ألف صنف» «محمود طاهر العربي»، الذي شاهد العرضين، قائلاً في مقالته عن «الجنة»: «شاهدت هذه المسرحية باسم «عصافير الجنة» في مسرح سميراميس، وشاهدتها اليوم في مسرح الريحاني، وإني لا أستطيع التصريح الآن بأنها قد نجحت في كلا المسرحين ولاقت من الجمهور ارتياحاً واستحساناً!! في سميراميس كانت أكثر تبذلاً وأخصب نكاتاً.. لم يتقيد معربها بالأصل الفرنسي، بل تصرف فيها بما يلائم ذوق الوسط الذي يشاهدها. أما في مسرح الريحاني فكانت تتمشى في كل مشاهدها وعباراتها مع الأصل الفرنسي وكانت أغزر فناً وأروع منظراً».
ومسرحية «الجنة» تدور أحداثها حول رجل كبير السن «نوبيتشو» - ويقوم بدوره الريحاني – يعيش في الريف هادئاً مبتعداً عن التهتك والنساء، وله ابنة - وتقوم بدروها «بهية أمير» - خطبها «روفائيل» المصور – ويقوم بدوره «حسن فايق» - وقد اشترط عليه والد خطيبته ألا تكون له أية علاقة بأية امرأة أخرى. وفي يوم ما يزور البيت رجل وزوجته ونكتشف أن الزوجة هي عشيقة الخطيب «روفائيل»، وعندما تعلم بخطوبته، تفضح سره مع حماه وتقول إن له علاقات أخرى مع النساء! وعندما يضغط عليه الجميع ليعترف.. نجده يعترف بأنه كان على علاقة بامرأة واحدة فقط ولا يستطيع البوح باسمها لأنها متزوجة! وحتى يتخلص من هذا المأزق استأجر امرأة تمثل أمام حماه وخطيبته بأنها العشيقة المتزوجة وجاءت لتقطع علاقتها به أمام خطيبته. ولكن «نوبيتشو» يقع في غرامها وبدأ في مقابلتها سراً، ويكتشف الخطيب هذه العلاقة فيستغلها ضد حماه، وتستمر الأحداث وتتعقد المواقف حتى نهاية المسرحية.
أما ناقد مجلة «المسرح» فقال: رواية «الجنة».. والتي أخرجها أمين أفندي صدقي منذ أسبوعين باسم «عصافير الجنة». ويجب أن أصرح علناً بأن هذه الرواية نجحت نجاحاً كبيراً على مسرح سميراميس، ولم أستطع أن أكيفها أو أعتقد أنها نجحت نجاحاً كافياً على مسرح الريحاني، أو على الأقل النجاح الذي كنا ننتظره لها من أبطال معروفين على مسرح ناشئ مثل مسرح الريحاني في أوائل افتتاحه. ما السر إذن في عدم هذا النجاح مع أن السبل ميسورة وكل شيء متوفر؟ لا أحب أنا أن أتكهن أو أنجم أو أحلل الموقف فلم يحن الوقت بعد، وإنما أنقل إلى القراء كلمة الأستاذ عزيز عيد أو رأيه في هذه المشكلة فهو يعتقد أن الرابطة الفنية غير موجودة بالمرة بين الممثلين. هم لا يفهمون الرواية بدرجة واحدة، وكل واحد منهم يفهم دوره كما يشاء أو كما يستطيع. ومن هنا ينشأ الاختلاف في الشخصيات على المسرح، فإذا أخرج كل واحد من الممثلين الشخصية التي فهمها هو، وجدها متنافرة مع الشخصية التي فهمها زميله، ومن هنا يحس المتفرج بشيء من النفرة لأن المواقف نفسها متنافرة. ولأن الشخصيات غير مؤتلفة، ولأن الرابطة الفنية على المسرح مفقودة تماماً. هذا هو رأي الأستاذ عزيز عيد ولست أحاول أيضاً تفنيده أو مناقشته وإنما أبسطه لممثلي مسرح الريحاني عساهم يستفيدون إن كان فيه وجه للاستفادة في نظرهم.
لم تكتف مجلة «المسرح» بنشر هذه الكلمة، فنشرت طرفة مفادها: أن فرقة أمين صدقي مثلت مسرحية «عصافير الجنة» وبعد أيام مثلتها فرقة الريحاني أثناء تمثيل عصافير الجنة!! فقرر ممثلو فرقة أمين صدقي حضور تمثيل مسرحية «الجنة»، لذلك أغلق أمين صدقي مسرحه في تلك الليلة، «وحضر برجاله ونسائه إلى مسرح الريحاني، دخلوا جميعاً وحضروا تمثيل الرواية.. تُرى كيف رأى كل ممثل دوره يخرجه ممثل آخر؟ لقد حضر ممثلو الريحاني رواية عصافير الجنة من قبل فخرجوا يقولون: إِخيه إحنا روايتنا أحسن. وحضر اليوم ممثلو سميراميس رواية الجنة فخرجوا يقولون إخيه إحنا روايتنا أحسن من دي عشرين مرة. وهكذا كل حزب بما لديهم فرحون!».. أكملت المجلة رأيها في العرض فتناولت ألفاظه، قائلة: «من المؤكد أن جو التمثيل بدأ يصفو ويصبح نظيفاً في هذه الأيام. ومن دلائل نظافته تهذيب الجمل والألفاظ التي تترجم أو تؤلف أو تقتبس بها الروايات، ولكن يجب أن أقرر هنا بكل أسف أن رواية «الجنة» شذت عن هذه الدائرة.. فيها تعابير غير لائقة.. وفيها جمل غير خفيفة الوقع على الأذن.. وفيها ألفاظ لا يصح أن تُلقى على الجمهور في مسرح راقٍ مهذب، ولا أزيد شرحاً أو بياناً، تكفي هذه الكلمة لإلفات النظر!!». ثم تطرقت المجلة إلى حادثة حدثت على المسرح، قائلة: ««السرير»، هو سرير من النحاس من واردات شيكوريل، استعمل على المسرح في الفصل الثاني في رواية «الجنة»، ويظهر أنهم لم يعرفوا كيفية تركيب السرير فأقاموه على المسرح غير متماسك الأجزاء. فلما أوشك الفصل ينتهي صعد العُشاق الثلاثة على السرير، فتفككت أوصاله وكاد يهوي لولا أنهم سندوه من الداخل».
للأسف الشديد لم تنجح مسرحية «الجنة»!! أو على الأقل لم تحقق أي نجاح يُذكر يُمكن أن يُقارن بنجاح فرقة الريحاني سابقاً! وهذا الأمر ظهر جلياً في تردد الريحاني في اختياراته المسرحية!! فبعد توقف عرض «الجنة» أعلن عن عرضين متتاليين في أسبوعين، هما «الشرك» و«حبوب عنتر»، وللأسف أيضاً لم يعرضهما بل عرض مسرحية «اللصوص» - واسمها الأصلي «الزملاء» - ألفتها مدموازيل «جزيل» وعربها «عبد الله الرياشي». وتدور أحداثها حول غياب «ريشار كاستلمان» عن قصره في رحلة طال مداها لأكثر من عامين، وكان ذا مال وضياع وقصر، وكانت له خطيبة اسمها «سيتي» ابنة القاضي «توجان»، وكان له ابن عم شرير يدعى «شلتون» طمع في ميراثه بعد أن أذاع للناس خبر موته، ولم يكتف بذلك بل طمع في أن يتزوج من خطيبته سيتي! وحتى يقنعها بموت خطيبها جاء الشرير بشهادة مزورة تثبت وفاة ابن عمه! والحقيقة أن ريشار لم يمت وإنما تعرّف أثناء رحلته بداني رونلد أحد طريدي العدالة والقانون، ونزلا في غرفة بأحد الفنادق. وفي ذات صباح وجد منه خطاباً يخبره فيه أنه ارتحل وأنه سيحمله اسمه تستراً، فحمل ريشار اسم داني ولبس لباسه وتعرف بكثيرين من الأشقياء، وأنس بعشرتهم وكان أكثر أنسه بدوميني فذهب به إلى ضيعته ودخل إلى القصر دخول لص، فعرفه بعض الخدم وأنكره ابن عمه «شلتون» متوهماً أنه هو «داني رونلد» فنشب بينهما نزاع أدى إلى استدعاء البوليس من الطرفين. أما رشارد فيزعم أن ابن عمه اغتصب ماله وغيّر في وصيته.. وأما شلتون فيزعم أن رشارد هو داني الذي يبحث البوليس عنه ثم تظهر الحقيقة ويشرح كاستلمان قصته أمام الجميع.
وكتب الناقد الفني لجريدة «البلاغ» «محمد علي حماد» مقالة عن عرض مسرحية «اللصوص» في أوائل ديسمبر 1926، جاء فيها: إن المسرحية اقتبستها مدموازيل جزيل دورزيا للمسرح الفرنسي عن الأمريكية، ونقلها عبد الله أفندي الرياشي إلى اللغة العربية. ويبدأ الناقد موضوعه بسؤال يقول فيه: “لماذا أصر بطل العرض على تنكره، وفيم كان يخاف إذ يطرق بابه طارق أو يأتي أحد لزيارته، وهو صاحب المنزل حقاً وليس بالدخيل؟ ويجيب على نفسه قائلاً: الرواية وُضعت لمجرد تسلية الجمهور الذي يظل طوال فصول الرواية يعتقد أن الذي أمامه يخطو ويتحرك على المسرح، إنما هو لص في ثياب شريف لا صاحب المنزل الأصلي.. وعلى ذلك وجب أن يتظاهر الممثل بالخوف والاضطراب من كل مقابلة ومن كل حركة لا لشيء في الحقيقة ولكن لمجرد أن يدخل في ذهن الجمهور أنه لص. وعلى ذلك يجد من تتابع المفاجآت المسرحية ما يبث فيه نار الشوق والرغبة وما يجعله يتتبع باهتمام حوادث القصة، فإذا ما اتضحت له الحقيقة بعد ذلك هز كتفيه هزة سخرية ومضى مستخفاً بما رأى وشاهد. وأقطع برهان أقدمه على قولي هذا أنه لا يستطيع إنسان مهما بلغ به الصبر أن يشاهد الرواية مرتين! فالقصة كما ترى ليس لها قيمة اللهم إلا من الوجهة المسرحية البحتة ومع ذلك فالأساس الذي سار عليه المؤلف واهٍ ضعيف، ولكن أعجبتني شخصية «دومني» اللص زميل «داني رولان» فقد أراد المؤلف أن يصور لنا لصاً ذا قلب طيب وعواطف نبيلة، هو بها أشرف بكثير ممن يحملون الألقاب وفي خزائنهم قناطير الذهب والفضة. وله مواقف مع زميله ملؤها النبل وكرم النفس فهو غير راضٍ عن خديعته للفتاة، ويهم أن يطلعها على كل شيء وأن يقول لها إن الذي أمامها ليس ديك خطيبها بل هو لص سارق. ويهم بسرقة نقود ثم يودعها الخزانة ثانية، وهكذا تتغلب فيه نزعة الإباء والشمم على ما داخل نفسه من طول معاشرته لفئة اللصوص السارقين. فهذه الشخصية تستدعي البحث والتحليل خصوصاً وفي الرواية شخصية مضادة وأعني بها هنري ابن عم ديك، فهو غني ومن عائلة نبيلة، ولكنه لص دنيء. فإذا ما تصادمت الشخصيتان ظهر لك ما بينهما من تنافر واختلاف، وأحببت شريف النفس في ثوب لص، وانتقصت السارق الحقير في ثياب موشاة ثمينة!
وتطرق الناقد إلى الإخراج، قائلاً: لم يُعنَ بإخراج الرواية كما يجب فكنت تلمس بسهولة تنافراً أو شذوذاً من الممثلين على المسرح.. كل في ناحية يعمل بمفرده وليس هناك أي ارتباط بين المجموعة، فهم يلقون جملهم عندما ينبههم الملقن إليها، ولا نجد ذلك التمازج الذي يربط كل ممثل بزميله، وذلك التوافق في الإخراج وفي الحركة. وذلك من خطأ المدير الفني، ولست أدري من هو لأنبهه!!
أما التمثيل فقال عنه الناقد: مثّل نجيب الريحاني دور «دموني» ولي ملاحظة عليه حيث كان دائماً في أدواره المضحكة يكاد لا يتغير.. نفس الحركات ونفس التقلصات ونفس غمزات العين وإشارات اليد! وكان يجب أن يلوّن قليلاً في شخصياته وخصوصاً الأخلاقية منها ليظهر مقدرته وجدارته كممثل نابه قدير. أما «أحمد علام» .. فالممثل مضطر أن يرضي المؤلف وأن يكون أميناً على فكرته في إخراج الدور، وهذا ما فعله علام. أما «فؤاد شفيق» فكان يجنح إلى الصراخ والقرقعة بصوته الضخم في كل فرصة وفي مواقف لا تستدعي ذلك!! ولاحظت على السيدة «ماري منصور» أنها لم تعن بدورها كما يجب فكانت على المسرح تمثل بفمها فقط!
ويستكمل الناقد كلامه فيقول عن المناظر: أثبت إعجابي بمنظر الفصل الثاني فهو بديع رائع لولا ذلك القمر الذي لا يتحرك!! ثم أنهم يستعملون في الفصلين الأول والثالث حتى الأخير سقفاً واحداً لا يتغير. ويتركون الأنوار مضاءة في الفصلين الخامس والسادس، مع أن الوقت نهار والساعة العاشرة صباحاً تقريباً، وتلك ولا شك هنات من الممكن تلافيها. واختتم الناقد مقالته بخبر غير متوقع قال فيه: كنا نأمل أن نرى مسرح الريحاني يتقدم في طريق الكمال والاستعداد، ولكنا علمنا مع الأسف الشديد أن فرقة الريحاني قد انحلت نهائياً في مساء الثلاثاء، فننعيها إلى الجمهور الذي لا شك يشاطرنا أسفنا وحزننا.
وكتب ناقد مجلة «المسرح» كلمة حول هذا الخبر قال فيها: «أخيراً أرخى الريحاني أستاره وأغلق أبوابه وطوى صفحة الماضي! ففي ظهر يوم الثلاثاء 30 نوفمبر سنة 1926 الساعة الثانية بعد الظهر اجتمع الممثلون والممثلات في صالة المسرح، ووقف نجيب أفندي الريحاني عند باب الصالة ودارت المفاوضات حتى انتهت بحل الفرقة نهائياً. كنت أنا موجوداً في تلك الوقفة التاريخية من أولها إلى آخرها، وأنا الذي شرحت للممثلين ما أجمله نجيب، وأنا الذي أعلنت إليهم بكل أسف انحلال الفرقة نهائياً. وأن كل ممثل أصبح حراً يبحث له عن مسرح آخر يشتغل فيه. وجلس الريحاني على درجات سلم أحد البناوير، وجعل الممثلين والممثلات كل يحزم أمره ويجمع صوره وأمتعته، ثم ينصرف إلى حيث يعجبه. هذا وقد حزم الريحاني أيضاً أمره وقرر أن يسير على خطة جديدة فأجر المسرح لفرقة إنجليزية تشتغل فيه ابتداء من 15 ديسمبر إلى آخر ديسمبر، وبعد ذلك يشيعون أن نجيباً سيكوّن فرقة أخرى.. ولكنه وَهَمٌ بعيد التحقيق!
وعلّق الناقد الفني - لمجلة «ألف صنف» - «محمود طاهر العربي» على هذا الأمر بكلمة عنوانها «الريحاني ومسرحه»، قال فيها: فجأة نُعي إليّ مسرح الريحاني، وقيل إنه أقفل بالضبة والمفتاح. لم أصدق وعزّ عليّ أن أصدق، فسعيت إليه فإذا به مغلق حقاً مظلم!! فسألت من حوله فأكدوا لي الخبر، فلم أصدق أيضاً وسألت الممثلين وأقرب الأقربين فقالوا مقفل أبد الآبدين.. قلت بل مقفل إلى حين.. قالو كلا.. قلت إنا لله وإنا إليه لراجعون. ثم عدت إلى نفسي أستعرض عليها ذلك الريحاني.. هل يكون مجنوناً أحمق غبياً.. هل يقدم على الانتحار بهذه الجرأة المدهشة؟ وإني أكبره من ذلك وأخيراً قلت كلا ولكن المضطر يركب الصعب من الأمور، وهو عالم بركوبه.. على أننا سنرى ما يكون من أمره. ولقد عنّ لي بمناسبة غلق مسرح الريحاني أن أستشف مكنون ضمائر السادة مديري المسارح الأخرى فأستعرض شعورهم نحو هذا الحادث. بحثت وسألت فانتهيت من ذلك بنتيجة أعرضها للقراء وبدون تعليق. يوسف وهبي: متأسف جداً على ذلك وأرجو أن يوفق عاجلاً لاستئناف الجهاد بنجاح. منيرة المهدية: دي أرزاق ربنا يأخد بيد كل واحد. علي الكسار: سمعت الخبر لكن دول بيقولوا أمين صدقي كمان قفل معاه. بديعة مصابني: الدمعة فرّت من عيني. أمين صدقي: ما أنا قلت له يتفق معايا ونشترك سوا مارضيش.. يعرف شغله بقى. زكي عكاشة: أنا مستعد أشغله عندي إذا أراد أن يؤجر تياتريه ويستريح من دوشته. عبد الله عكاشة: ياريتنا ما تعبنا يا خسارة الفلوس اللي دفعناها في البوسفور.