العدد 672 صدر بتاريخ 13يوليو2020
عزيزي القارئ .. أنا واثق بأنك سوف تُعيد التفكير في تقييمك للفنان القدير محمد توفيق، بعد قراءة هذه المقالة تحديداً!! وربما تضعه في مكانته الحقيقية، التي لم يُوضع فيها .. حتى وفاته!! فمحمد توفيق هو الممثل الذي ظهر في مئات الأدوار الصغيرة في الأفلام والمسرحيات والمسلسلات، وهي الأدوار المركبة الصعبة، التي لا يصلح لتمثيلها سواه!! وأظن أن أغلبنا لا يعلم أن محمد توفيق، كان طالباً في معهد التمثيل التابع للفرقة القومية!! بل ولا يعلم معظمنا أنه كان عضواً في أول بعثة طلابية إلى إنجلترا! أما الشيء المؤكد فهو عدم علمنا جميعاً بأنه كتب مجموعة من المقالات، وصف فيها هذه البعثة، وما قام فيها من مجهود!! وهذه المقالات، تُعدّ تاريخاً مجهولاً لأدق تفاصيل أول بعثة أوروبية لطلاب معهد فن المسرح التابع للفرقة القومية بالجامعة المصرية!!
أول رسالة أرسلها طالب البعثة «محمد توفيق» إلى صاحب جريدة «البلاغ»، كانت في أغسطس 1937، وتحدث فيها عن المسرح الإنجليزي – الذي شاهده، وتعايش معه – قائلاً: يمتاز المسرح الإنجليزي أن كله حياة وكله قوة، وأن لندن هي الموطن الرئيسي لهذا الفن، الذي يقدسه الإنجليزي كل التقديس ويعبده كل العبادة. وفي كل حي من أحياء لندن مسرح له شعبه، ومقاعده دائماً ممتلئة في حفلات الصباح والمساء، وفي نهاية كل رواية تُمثل يعمل اجتماع عام، يحضره كل من رأى الرواية، التي مثلت في هذا اليوم. ويتناقش الجمهور مع المخرج ومع الممثلين بين معجب ومنتقد. وأذكر أن أحد المجتمعين قدم اقتراحاً بحرمان كل متفرج يصل إلى المسرح بعد رفع الستار من مشاهدة التمثيل! وقد علمت بأن هذا الاقتراح قد وافقوا عليه بالإجماع .. كل هذا في اجتماع في مسرح «وستمنستر Westminster» على أثر تمثيل رواية «هملت» لشكسبير. هذا وفي كل مكتبة كبيرة في لندن فرع خاص بالكتب التي تبحث في الفنون المسرحية وما أكثرها وما أروعها. وما أدق وما أعظم ما يكتب الإنجليز في فنون المسرح، إنهم علماء جهابذة، وأبحاثهم على جانب كبير من الروعة في كل ناحية من نواحي الفن المسرحي: الإلقاء، التمثيل، الإخراج، الديكور، الإضاءة، الإدارة المسرحية، تمويل المسرح، اختيار الرواية .. إلخ. ولقد جاءت هذه الكتب بالخراب عليّ، بأن أقلل من قوتي وأوفر من زياراتي لكي أشتري كتباً، مستعيضاً عن الغذاء المادي بالغذاء الروحي والفني. أنا أعمل الآن في مسرح اسمه مسرح فكتوريا القديم، ويقتصر عملي على مشاهدة البروفات، وقد اشتركت بالفعل في رواية «دقة بدقة» لشكسبير في أدوار ثانوية، الغرض منها زيادة الفائدة. ونحن نعمل تحت إشراف مخرج هائل يسمى «جوتري» يُعد في طليعة مخرجي الإنجليز، وقد صادقته كثيراً بسبب ميولي نحو الإخراج المسرحي. وفي الوقت نفسه نجد أن مخرجي الإنجليز يعتزون بأسرار مهنتهم، ويضنون بها على الإنجليز أنفسهم، فكيف الحال مع الغرباء! على أنني بالظُرف والكياسة واللباقة، استطعت أن أرغمه على السماح لي بمرافقته دائماً! وقد تعبت كثيراً في الحصول على إذن منه بحضور عملية تكوين الإضاءة لروايتهم الجديدة. فقد قضيت معه ليلة كاملة من الغروب إلى الشروق في حجرة التجارب أمام المسرح النموذجي الصغير، وأمامه أدوات الإضاءة. فاتيحت لي الفرصة لفهم الكثير من نظريات الضوء، وقد طلب مني أن أستعين بكتاب خاص، هو آخر ما وصلت إليه الإضاءة في المسارح الحديثة، وقد كلفني هذا الكتاب ثلاثة جنيهات دفعتها «مرة واحدة» في حين أن الواحد منا يتقاضى في الأسبوع ثلاثة جنيهات ونصف، للحصول على كل حاجياته. ومن هذا يتضح مقدار التضحية! وحاشا أن تكون هذه تضحية، بل هي غنيمة في نظري. وقد قمت بزيارة الكثير من المسارح الإنجليزية، ولا تمضي بي ليلة حتى أزور مسرحاً معيناً لأرى رواية معينة، فإذا ما انقضت الرواية لجأت إلى باب المسرح لاعباً «بالبيضة والحجر» - على رأي المثل - حتى يسمحوا لي برؤية المسرح من الداخل، فاطلع على مستحدثاتهم وتجاربهم ونظمهم وأساليبهم .. كما أنني زرت أغلب متاحف الصور والتماثيل وما يختص بالأزياء والمعارض، وسأزور ما تبقى إذا سمحت بذلك ماليتي الضعيفة.
وبعد أيام، أرسل محمد توفيق رسالة أخرى إلى جريدة «الجهاد»، تحدث فيها عن دراسته في البعثة، قائلاً: “... أستطيع بعد ذلك أن أحدثك عن دراستي في لندن، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: دراسة عملية، ودراسة نظرية، واطلاع وإنماء معلومات عامة. أما الدراسة العملية فتنحصر في حضور بروفات إحدى فرق لندن الكبيرة، التي تعتبر بحق من فرق الطليعة. وهذه الفرقة معدة خصيصاً لإخراج الروايات ذات القيمة الفنية الكبرى والأدبية أيضاً. وجميع أفرادها من أفذاذ ممثلي إنجلترا، يعملون فيها بالتناوب مع احتفاظهم بمراكزهم في الفرق الأخرى، أو بعبارة أوضح «منتخب من الفرق» ويأخذون منها أجراً بسيطاً، وتعتبر هذه الفرقة مثلاً عالياً للأخلاق الفنية الطيبة. فهي مظهر جميل من مظاهر التعاون المطلق بين الصغير والكبير. فكلهم مع اختلاف مراكزهم يتعاونون على إخراج الروايات بنجاح تام. فربما قام ممثل كبير بدور «كمبارس»، وربما أُعطى ممثل صغير دوراً هائلاً، والكل يخدم فنه بتواضع وأخلاق عالية وإخلاص! وتنعدم في الفرقة ما يسمى بالفردية، أو الدكتاتورية! ولقد اختيرت لنا خصوصاً، كي نتدرب على العمل بهذا الخلق، وبهذه الروح؛ لأنه كما لا يخفى عليك: إن الفردية وعدم اهتمام كل مُخرج أو ممثل إلا بنفسه وشهرته، دون النظر إلى الصالح العام، والإنتاج الكلي، هو من أكبر العوامل التي ساعدت على اضمحلال المسرح المصري. ولقد اشتركنا بالفعل معهم في بعض أدوار بسيطة أغلبها صامت «بسبب اللغة» والروايات التي نجهزها هي: «الأشباح» لإبسن، و«دقة بدقة» لشكسبير، و«بجماليون» لبرناردشو. وسيفتتح الموسم التمثيلي الصيفي في بلدة بكستون يوم 22 أغسطس. كما أننا ندرس على مدرس خاص للروايات المذكورة بنفس الطريقة التي تدرس بها الروايات الإنجليزية في مصر. أما الدراسة النظرية فهي بالمشاهدة وزيارة المسارح وحضور الروايات التمثيلية «في لندن 200 مسرح عامل». أما دراسة المعلومات العامة، فهي بمخالطة الشعب الإنجليزي في لندن، وفي الضواحي والتعارف والتزاور. أما الاطلاع فبشراء الكتب القيمة وقراءتها وزيارة المكاتب والاستعارة منها. هذه هي حياتي في لندن – حيناً في مسرح «الأولد فيك» الذي التحقنا به – وفي مسارح لندن الأخرى أحياناً – وفيما يتبقى لي من وقت بعد ذلك، أطالع أحدث ما أخرجته المكاتب الإنجليزية عن المسرح.
في شهر سبتمبر أرسل «محمد توفيق» رسالته الثالثة عامة، والثانية إلى جريدة «البلاغ»، وفيها قال: لقد كانت الفكرة الأولى من بعثتنا التمرين العملي على تكلم اللغة الإنجليزية، وفهم ما يُقال بها؛ تمهيداً لدراستنا الفنية في العام المقبل في الجامعة المصرية، وتركيزاً للجهد الدراسي من التحصيل العميق، بدلاً من إضاعة الوقت في دراسة لغوية! وشرح صحة هذا الرأي، يتمثل في أن البيئة لها أثرها في تعليم اللغة! ولعمري قد لا أكون مبالغاً إذا قلت إن شهراً في تمرين عملي على التكلم بلغة من اللغات في بيئة هذه اللغة، أقوى أثراً وأعظم إنتاجاً من دراسة سنوات لهذه اللغة في غير بيئتها، وبغير التمرين على استعمالها، وهذا هو ما حدث! فقد تحاشينا السكنى معاً، وتفرقنا وخالطنا الجموع في دائرة عملنا، وبعيداً عن هذه الدائرة. واستعملنا اللغة الإنجليزية في كل شيء: في مخاطباتنا، وفي التقارير اليومية التي نرفعها إلى المشرفين علينا، كما أن اطلاعنا كان بهذه اللغة، فنحن نسمعها، ونتكلم بها دائماً. وقد أنتج كل هذا أثره المنطقي المعقول، فأصبح من السهل علينا أن نفهم، وأن نتفاهم بهذه اللغة. وقد أشار أستاذنا «سكيف» إلى نجاح هذه الفكرة في أحد تقاريره. أما الغرض الثاني من هذه البعثة – وهو الغرض المهم – والهدف الذي قصده أولو الأمر وأخفوه عنا، حتى لمسناه بأنفسنا، فهو تدريب أعضاء البعثة على ما يُعرف عند الإنجليز بروح التضامن «Team Spirit» [أي روح الفريق الواحد]. وهذه الروح غير متوفرة في مصر، فيما يتعلق بالفن المسرحي! فالفردية هي آفة المسرح المصري، بل ومسارح العالم كله حتى إنجلترا نفسها في غير الفرقة، التي تعمل فيها. فكل فرد يعمل لنفسه، إما للشهرة، وإما للربح! ولست بذلك أضع نفسي في موقف الناقد أو المصلح، بل أقف موقف الباحث. اختيرت لنا فرقة «Old Vic» وأنا متأكد أنها اختيرت لنا عمداً لهذا الغرض! فهذه الفرقة ثابتة دائماً، غير أن ممثليها ومخرجيها غير ثابتين .. فإذا وفقت إدارة هذه الفرقة - وهي مشمولة بالرعاية الملكية ويوجد أعضاء من الأسرة المالكة في مجلس إدارتها - إلى رواية مسرحية ذات قيمة فنية، أو أدبية كبيرة، اختارت المخرج والممثلين بالانتخاب من بين مخرجي وممثلي الفرق الإنجليزية الكبيرة العاملة؛ بحيث لا يتعارض هذا الانتداب المؤقت تعارضاً كبيراً مع مصالح هذه الفرق! والكل يتمنى أن يكون له شرف هذا الانتداب. فإذا انتخب ممثل للعمل في هذه الفرقة أعطي مرتباً لا يبلغ ربع مرتبه في فرقته الأصلية، فإذا كان يتقاضى أربعين جنيهاً أعطى عشرة جنيهات. ولما كان أغلب الإنجليز يعيشون حسب ترتيب خاص، ووفقاً لميزانية خاصة، قد لا تقل عند هذا الممثل عن عشرة جنيهات، اضطر إلى أن يدفع العجز من جيبه الخاص، فهو بذلك يضحي! ولست في حاجة إلى شرح مغزى هذه التضحية. والفرقة تعمل بخسارة إذ أن أثمان مقاعدها لا تزيد على شلنين، أي بثمانية قروش مصرية، وأغلب أثمانها 6 بنس «أي قرشان ونصف قرش». فهو مسرح شعبي جعل للخدمة العامة، أما خسارته فيعوضها الاكتتاب العام في إنجلترا؛ لأن الحكومة الإنجليزية مع الأسف لا تعاون المسرح معاونة جدية، بل ترهقه بالضرائب حتى أن بعض الصحف حملت حديثاً عليها، حملة شديدة واتهمتها بأنها تعمل على خنق المسرح، وتدمير أكبر تراث أدبي في إنجلترا. على أن الأفراد لا يترددون في المساعدة. فكثيراً ما يطلب المسرح في زمن معين مبلغاً معيناً، ثم يضطر قبل مضي هذا الزمن إلى إرجاع بعض المبالغ المكتتب بها؛ لأنه سد حاجته بإيراداته الخاصة. ومن هنا يستطيع المرء أن يقدر هذا الشعب العظيم بأخلاقه قبل كل شيء. أما الأخلاق بين الممثلين والمخرجين فحدث عنها ولا حرج .. وفاق تام، وتفاهم مطلق، ومحبة عميقة، وتضامن عجيب، يساعد بعضهم بعضاً. لا كبير بينهم، ولا صغير. وإذا تفاهموا، كان تفاهمهم بكل دقة وأدب. وإذا أمروا أطاعوا طاعة عمياء. لا تجد استهتاراً بالعمل، أو تقصيراً في دراسة دور، أو حفظ عباراته عن ظهر قلب. والمواعيد لها عندهم حرصها. قالت لي مس ناي «Miss Nay» الممثلة الأولى بالفرقة: “ لا أنكر أن الممثل يجب أن يعمل لنفسه ولشهرته؛ ولكنه يكون عندئذ ممثلاً فقط وليس فناناً حقيقياً، فالممثل القدير ينتقل من طور الممثل إلى طور الفنان في حالة واحدة، وهي الحالة التي يعمل فيها إلى نكران الذات في سبيل المجموعة، التي يعمل معها في حالة تركيز الغرض، إلى الخدمة العامة بحالته، التي يتلاشى الممثل فيها في الكتلة الفنية الهائلة، التي تعرف «بالفرقة أو المجموعة». وهذا ما يعرف بروح الجماعة «Team Spirit». ولكم سمعت بأذني المخرج يقول لممثل يقوم بدور بسيط وقد ناقشه في نقطة فنية: «أنا آسف جداً .. إنك على حق .. أغفر لي .. إن ما تقوله هو عين الصواب»! فهل قال مثل ذلك مخرج مصري لممثل مصري في مصر؟ هذا هو الغرض الثاني من البعثة، وقد لمسناه وحققناه، وعولنا على تربية هذه الروح في نفوسنا. فإذا أضفنا إلى هذا ما نستفيده من متابعة المستحدثات المسرحية، وزيارة المكاتب لشراء الكتب الفنية، أو استعارتها للاطلاع عليها، وما تستفيده الملكات الفنية من زيارة المتاحف، ما بين تصوير وحفر ونقش .. إلخ، وما نستفيده من اضطراد في المعلومات العامة، لأمكن أن نتصور مدى نجاح هذه البعثة، ومدى صواب التفكير في إرسالها إلى الخارج. ولقد حدث منذ أيام أن جمعنا وبعض النقاد والأدباء ورجال الصحافة من الإنجليز، مجلس مسرح لندن «في الهواء الطلق» على أثر تمثيل رواية «حكاية شتاء Winter’s Tale» لشكسبير، التي أخرجها «روبرت إتكنز» الممثل والمخرج المعروف، أن سألني صحفي عن المسارح في مصر. فلما ولجنا باب الحديث، جاء ذكر «الفرقة القومية»، فذكرت له بعض الشيء عن إشراف الحكومة عليها، ومدها بالمساعدة المالية .. التفت الصحفي إلي زميل له وقال: “يا إلهي .. الحكومة المصرية تساعد مسرحها في حين ترهق الحكومة الإنجليزية المسرح بضرائبها”. إن مساعدة الحكومة المصرية للمسرح، إنما هي لأغراض ثقافية ولحماية اللغة العربية لغة القرآن الكريم. وعلى كل حال فإن في مساعدة الإنجليز كأفراد ما يغني عن مساعدة الحكومة. وقد كتبت الصحف في هذا الموضوع، وانتهى الأمر حديثاً بإنشاء «فرقة قومية إنجليزية»، وكتبت جريدة «التيمس» مقالاً في هذا الموضوع جاء فيه “إن مصر سبقت إنجلترا في إنشاء فرقة قومية”. هذا وقد اعتزمت أن أقدم لإدارة الفرقة القومية تقريراً عن «مسارح الهواء الطلق»، إذ لا يخفى عليك أن الخبير الفرنسي «إميل فابر» قد تعرض لها في تقريره، وقد قمت بعمل أبحاث شيقة في هذا الموضوع من النواحي الفنية والعملية والإدارية، وسأرفق التقرير بصور كثيرة لشرح ما سأذكره، مما اضطرني إلى شراء آلة تصوير خاصة للحصول على ما أريد.
وبعد أيام، أرسل محمد توفيق رسالته الرابعة عامة، والثانية إلى جريدة «الجهاد»، وقد تناول فيها النقد المسرحي في إنجلترا، قائلاً: يعتقد الشعب الإنجليزي أن النقد ضروري لفنون المسرح، وحافز لبعض من فحول الكُتّاب؛ لأن النقد المسرحي هو بمثابة عنصر الحياة للفن، إذ أن الفن المسرحي بطبيعته فن شائع والنقد ضروري جداً؛ لأنه يعمل على إيقاظ حاسة الانتباه في جمهور المسرح، كما يعمل على تدريب ملكة الفهم وتهذيب الذوق العام. ولما كانت وظيفة النقد المسرحي، هي التمييز بين نوعي الإنتاج المسرحي الجيد والرديء، مع إظهار مزايا الأول ومساوئ الآخر؛ فإنه من السهل علينا إدراك صفة النقد، كعامل أساسي وضروري في تكوين تلك الظاهرة العظيمة، المعروفة «بذوق الجماهير». زد على ذلك للنقد المسرحي مهمة أخرى فيما يتعلق بالعاملين في المسرح، وهو دفعهم دائماً إلى اضطراد التقدم، وإرغامهم إرغاماً على إظهار خير بضاعتهم في السوق الفنية. كما يهيئ لهم دائماً الفرصة لمراجعة عملهم بطريقة العرض البطيء، الذي يمكنهم من إدراك كنة إنتاجهم الفني، محللاً ومفصلاً ليتبينوا مواضع القوة فيه أو الضعف أو كليهما. وأغرب الظواهر، التي أساءت إلى النقد المسرحي في إنكلترا، والتي دعت إلى الشفقة به، أن طريق النقد المسرحي ميسور، لا يمنع حاجة المرء إلى العناصر الأساسية للدراسات الفنية والعملية لشؤون المسرح من اجتيازه. هذا إذا قسنا فن المسرح بالنسبة إلى النقد، بما في الفنون الأخرى كفن النحت وفن التصوير وفن الموسيقى .. النقد فيها لمن ليس له بها علم ودراية! على أنه مما يجدر بالذكر إن فن الأدب إذ لا يستطيع مزاولته الناقد المسرحي الجاهل بأصول الفنون المسرحية، سرعان ما يتخبط في طريقه، وسرعان ما يتكشف الستر عنه حقيقة جهله، وتظهر للملأ تفاهة نقده. والظاهرة الأخرى والأغرب أن الناقد من هذا الصنف يستمر في عمله استمرار الواثق من نفسه! أما السبب في تحمل الناشرين والجمهور لهذا النوع من النقد وقبولهم له عرفاً، يرجع إلى تغيب الفكرة القائلة بشيوع حق النقد، وأن كل كائن في استطاعته أن ينقد أي مسرحية أو ممثليها؛ لأن كل كائن ممثل بطبيعته يلعب دوره في حياته الخاصة. وقد نتج عن الشعور بهذه الطريقة واتخاذها عرفاً، أن تعطي الشعور بالحاجة إلى الدراسة المسرحية الفنية كأساس للنقد المسرحي الفني. وقد عاد ذلك بأسوأ النتائج على المسرح بصفة عامة وإضراره ضرراً بليغاً. وقد تجد الفنون الأخرى في إنكلترا نقاداً مثقفين مطلعين أكفاء، درسوا هذه الفنون دراسة تخول لهم حق النقد فيها، وتجعل لنقدهم قيمته وأهميته. أما الناقد المسرحي الإنجليزي ... فلم يظهر بعد! وأن محب الاطلاع لو عاود قراءة نقد ما نقده، اتضح له أن حكم الناقد غير واضح أو كامل. وإذا قرأ الجمهور الإنجليزي نقداً ما فإنما يقرأه لأنه من عمل محرر كبير أو كاتب فذ .. في حين أننا نريد النقد من ناقد لا من محرر ولا من كاتب. ونتيجة هذه الظاهرة المحزنة في النقد المسرحي الإنجليزي، أن الجمهور منقاد على غير أساس أو قاعدة! كما أن هذا النوع من النقد، يعود بأسوأ النتائج، ويمس العاملين للمسرح من مخرجين وممثلين ومنتظمين وعمال، لأن درجة النجاح أو الفشل في عمل يقاس في عملهم بمقاييس أخرى غير المقاييس الخاصة بمعدل النقد المسرحي. والناقد من هذا الصنف أشبه الناس بالتاجر غير الشريف، الذي يكيل شيئاً بغير مكياله! في حين يصنعه من هم أقل منه شأناً في طريقته، بدافع من غريزة التقليد والقياس. ثم يؤثر هذا النوع من النقد بدوره في جمهور المسرح، فيصبح الممثل والمخرج والمنظم والعامل جميعهم خاضعين لمقاييس مشوهة، نقدر بها درجة الجودة أو القبح في إنتاجهم، وفي هذا أبلغ الصد بالمسرح والعاملين فيه! وهل يستطيع أحد أن يذكر لنا أية فائدة تعود على التمثيل كفن من الفنون في حالة ما إذا حدث إن نجحت ممثلة في تمثيل دور ما، ثم تبع ذلك سيل من تهويل النقاد ومدحهم، دون الرجوع إلى الأسباب الفنية التي أدت إلى هذا النجاح، ودون معرفة حقيقتها! وهل هي أسباب إيجابية كالمقدرة، أو سلبية كما لو كان هذا النجاح راجع إلى ضخامة الدور الذي أسند إليها، أو رغبة المُعلنين عنها لمصالح خاصة! هل هذا يفيد الممثلة .. كلا .. إنما هي جعجعة يوم، ثم تنتهي. في حين يؤدي ذلك إلى ظهور المسرح في أعين النظارة الفاحصين مدمراً خرباً، ويهبط بمستواه أمام الجمهور. النقد شيء والدعاية السلبية أو الإيجابية شيء آخر. وكل ما يحتاج إليه لخدمة المسرح الإنجليزي هو جماعة من النقاد «المسرحيين»، الذين يفهمون شيئاً عن شؤون فن التمثيل وحرفيته كالتمثيل والإلقاء والإخراج بأقسامهم. نحن في حاجة إلى نقاد يستطيعون التمييز بين العمل الممتاز والعمل المهوش، ثم يستطيعون تعبير ذلك وشرحه للرأي العام مفصلاً. وليست مهمة الناقد محصورة في نقد ما يرى، إنما هي تتعدى ذلك إلى ناحية أشد خطراً، تجعلنا ندقق النظر فيمن يصلح للنقد وفيمن لا يصلح له.