فينومينولوجيا المكان المسرحي (4)

فينومينولوجيا المكان المسرحي (4)

العدد 845 صدر بتاريخ 6نوفمبر2023

 هذا النوع من المسرح له سوابق تاريخية مهمة : كانت المسارح الاليزابيثية مثلا مسارح مرجل، وكذلك دور الأوبرا الايطالية ودور العرض في القرن الثامن عشر . ويجب أن نلاحظ أن مسارح المرجل لا يجب أن تكون دائرية بالضرورة ؛ فمسرح فورشين مثلا، وهو أحد مسارح الجلوب الشكسبيرية المعاصرة، بُني على أرض ذات سطح مربع . ومبدأ مساحة مشتركة واحدة، والمشاهدون يجلسون على طول الحوائط على عدة مستويات، يتطابق بشكل متساو مع المساحات البيضاوية أو المستطيلة . 
 عندما اكتُشف مبدأ مساحة داخلية واحدة مشتركة في القرن العشرين كبديل لفضاءات المسرح المنظمة بشكل أمامي بمساحة واحدة للمشاهدين ومساحة منفصلة حيث يحدث الأداء، فقد كانت أحد الاكتشافات التي قام المعماريون هي التأثير الإيجابي المتمثل في أن تجهيز الجدران مع أناس ليس لهم خبرة مسرحية، من خلال إحاطة الجدران بظلال شرفات حتى السقف ينشئ إحساسا بالوحدة يضخم الوظيفة المركزية للفراغ كمنطقة تركيز مشتركة . 
 ونقيض مسرح المرجل هو أسلوب مسرح السينما الأمامية، حيث عادة ما يتم تحريك المقاعد بزاوية أقل من 45 درجة بحيث تكون الصفوف مستقيمة أو منحنية قليلا . اذ لا يتم أي انشاء احساس بالالتفاف . وخشبة المسرح في الأمام، وغالبا ما يفصل بينهما قوس مقدمة خشبة المسرح، وبالتالي يتم اختياره كمساحة منفصلة يمكن أن ننظر اليها كمساحة منفصلة بصفتنا من المشاهدين، ولكنها مع ذلك تظل منفصلة . وبينما تزعم مثل هذه المسارح الأمامية frontal theaters تقاليدها الملائمة وسوابقها التاريخية ( مسرح فاجنر فيستسبيلهاوس في بايروث هو أول مثال، وقد صممه ليضعه في تقاليد مسارح المدرجات اليونانية)، وعادة ما يكون الدافع وراء تصميمهم في المقام الأول هو الرغبة في رؤية جيدة ومثالية وديمقراطية لجميع المقاعد التي تتمتع باطلالة جيدة على خشبة المسرح . 
 وهناك تنويعات داخل هذا النوع من المسارح، ولاسيما في التقاليد الأنجلوأمريكية للمسرح التجاري، التي تضع طبقتين أو ثلاثة طبقات من المتفرجين الجالسين فوق بعضهم البعض، مما ينتج عنه رفوف للأشخاص الذين يواجهون المسرح . وهذا النوع من العمارة، مع شخص جالس على أحد هذه الرفوف، تحت كل منهم الآخر، لا يؤدي إلى نوع التأثير الذي استدعته جرترود شتاين . وينتج عن البروز تأثير نفقي لرؤية خشبة المسرح ويمنع أي احساس بالمساحة الكاملة أو الارتفاع في الهواء المحسوس . والسمة الأخرى لهذه المسارح الموجهة بشكل أمامي هي الآخرين في القاعة مرئيين من الخلف فقط، مرئيين كمؤخرات رؤوس أو ليس كذلك، كما هو الحال في المسارح الحديثة المصممة للراحة، والمقاعد مجهزة بظهور عالية . 
... الحركة العامة ... التي يحظى بها كل مسرح .... 
يمكن أن يأتي الاحساس الحركة في القاعة فقط من أولئك الجالسين (أو الواقفين) داخلها, حفيفهم وتغيير مواضعهم وضبط زوايا الرؤية لمتابعة الحدث على خشبة المسرح وما إلى ذلك . واذا اعاقتهم مقاعدهم، أو تتم رؤيتهم الخلف، فان هذا يقلل بشكل بارز الاحساس بالحركة في أي مساحة مسرحية . ويمكن أن نجادل بأن التطور التاريخي الطويل الذي أدى بمباني المسرح أن توفر راحة أكبر لزوارها هو أيضا تطور في اتجاه حركة عامة أقل : في حين أن أماكن الوقوف الواسعة في أكشاك مسارح القرن الثامن عشر أو في التجاويف الاليزبيثية واليعقوبية كانت شائعة، فانه ينظر إلى اجراءات مطالبة الجمهور بالوقوف أو التجول خلال عروض اليوم على أنها جديدة، ويجب أن تكون مدفوعة باعداد معماري ( مسرح الجلوب الجديد مثلا بساحته الدائمة ) أو عن طريق التنزه أو أساليب الأداء الغامرة. 
 ورغم ذلك، اذا جربنا فراغ المسرح كمساحة مشتركة، فمن المهم أن نتمكن من رؤية الآخرين وهم يشاركون في التجربة . اذ تؤكد فراغات المسرح الموجهة بشكل أمامي، مثل دور عرض السينما، على التجربة الفردية والخاصة لكل مشاهد فضلا عن ابتكار تجربة مشتركة عن طريق تمكين المتفرجين من رؤية ردود الأفعال الأخرى، وأن يراهم الآخرون أيضا . يؤدي التفاعل مع ما يحدث، والرؤية والظهور، إلى الحركة في الفراغ . وويرتبط المبدأ المعماري المذكور آنفا والذي يتعلق بتجهيز الجدران بالناس يرتبط بالتالي : المشاهدين المرتبين رأسيا والملتفين حول خشبة المسرح في منحنيات ضيقة لديهم الفرصة لأن يروا أنفسهم يتفاعلون، علاوة على رؤية ما يحدث على خشبة المسرح . وهذا الشكل من ترتيب المتفرجين يؤثر بالضرورة في خطوط الرؤية من المقاعد بعيدا عن المحور المركزي لخشبة المسرح، ولكن النتيجة الطبيعية لتوزيع المقاعد لتحسين خطوط الرؤية يعني فقدان القرب والحميمية والحركة بشكل حاسم، لأن التغير الطفيف في التفات المشاهدين تجاه وضعهم تجاه خشبة المسرح أو تعديله يصبح مفقودا . 
 كان تايرون جوتري من أوائل المطورين وأكثرهم صخبا من أجل العودة إلى خشبة المسرح المرفوعة the thrust stage، لدرجة أن خشبة مسرح جوتري المرفوعة أصبحت مصطلحا تقنيا معترفا به . فقد كان مؤيدا كبيرا لايقاعهم، اذ جادل بأن البديل – خطوط الرؤية المريحة، ولاسيما عندما تقترن بانحدار ضحل – يمكن أن يقود إلى فضاءات القاعة مع مساحات شاسعة من الفراغات من شأنها أن تتداخل مع ديناميات الأداء : انه أمر بديهي في فلسفتي في المسرح التي يجب أن تحشد الجمهور في المكان . فالعلاقة بين خشبة المسرح والجمهور مشروطة بشكل كبير بحجم المساحة المكعبة الخالية . وتعكس ماكولي هذا الرأي عندما قالت “المزيد من الهواء” لا يستتبع بالضرورة المزيد من الفراغ . 
 ولا يجب أن تختلط أحجام المساحة الخالية التي تحد عنها جوتري وماكولي مع الكثير من الارتفاع في الهواء الذي وصفته جرترود شتاين والمرتبطة في الجزء السابق بارتفاع مسارح المرجل . المساحة الخالية في وسط هذه المساحة المركزة والمحاطة هي مساحة أقل فراغا، أن جاز التعبير، لأنها تتيح الاتصال بين الجمهور وتخلق حركة في الهواء من خلال الشعور بوجود الآخرين . يضمن مبدأ الالتفاف المعماري ألا يفقد المتفرجين منطقة الأداء، كما يؤكد مايكل هولدن : “يدرك مصممو المسرح فائدة التفاف صفوف المقاعد لأننا من خلال الرؤية المحيطية نرى الآخرين من الجمهور يشاركون في نفس الحدث . فنحن كائنات اجتماعية ونعتمد على الراحة في المشاركة مع الآخرين في نفس المكان . 
 ... الكثير من البريق في الاضاءة ... 
بعد أن عالجنا الارتفاع والحركة، يثير البريق سؤال الزخرفة في مباني المسرح : هل يجب أن يشعر مبنى المسرح بالاحتفال لكي يشعر أنه مسرح وهل تشارك الزخرفة في تجربة المسرح ؟ هناك اجابتان للجزء الأول من السؤال، ويتمثل في نوعين مختلفين من المباني . النوع الأول في الأغلب من مباني المسرح التاريخية الفخمة التي لا تزال قيد الاستخدام، ويمكنني أن أؤكد، نعم المسرح الفخم شرطا أساسيا للتجربة المسرحية . والنوع الثاني مباني المسارح المعاصرة التي تفهم وفقا للحديث والجمالي الوظيفي، يمكن أن ينافس هذا . 
 ومبني المسرح الجمالى الحديث أكثر هيمنة اليوم ويمكن ارجاع أصول هذا الجمالي إلى أول جمل بيتر بروك في كتابه “ المساحة الخالية، وربما كانت هي الجملة الأكثر تأثيرا التي قيلت عن العمارة المسرحية في القرن العشرين : “ يمكنني استخدام أي مساحة خالية واسميها خشبة مسرح عارية “، وقد ألهمت الكثير من المخرجين والمصممين وغيرت طريقة تفكيرنا في عمارة المسرح . ما يهمني هو هو تأثير بروك على تحديد نوع المساحة الممكن استخدامها لاقامة العرض . فغالبا ما كان يعمل هو الممثلين في مساحات ليست معدة كمسارح . وتتضمن الأمثلة مباني المصانع، وساحات الأسواق القديمة، والفراغات الصناعية – باختصار أي مساحات خالية . ورغم ذلك، في تطور مثير، فقد خضعت هذه المساحات الخالية, التي كانت يستخدمها بروك وفرقته، إلى تحول بحيث أصبحت تنشأ كمسارح في حد ذاتها. وكانت تُدهب باللون الأسود، وتمتلئ بمنصات اضاءة، وأحيانا يتم تزويدها بقوس بروسينيوم . وأصبحت ما نسميه الآن مسارح الصندوق الأسود . وبالتالي أدت دعوة بروك لمساحة خالية مرنة إلى جمالية مختزلة وزخرفة أقل، وهي جمالية الصندوق الأسود . فهل هذا اساءة فهم لما كان يقصده بالمساحة الخالية؟ وهل خالية يجب أن تعني سوداء ؟ لأن هذه الجمالية أصبحت موضع تساؤل بعد بضع سنوات، وظهر بحث درس تأثير الزخرفة على التجربة المسرحية. اذ قاس عدد من علماء الادراك استجابات المتفرجين لمختلف أنواع مساحات المسرح ومستويات انتباههم الناتجة تجاه الأداء. ووصلوا إلى نتيجة أن البيئة الجميلة المزخرفة التي توفر تحفيز حسي، تزيد من مشاركة الجمهور في حدث المسرح . علاوة على ذلك وجدوا أن البيئة ذات الدرجة العالية من الوحدة، مثل المسارح الوظيفية أو فضاءات الصندوق الأسود، تميل إلى تبلد الانتباه، الناتج عن مهلة أطول للتفاعل مع العرض المسرحي . ويشرح ريكارد كولر، الذي قاد البحث، استنتاجات المجموعة : “ في العمارة اليوم هناك ميل للتقليل من التعقيد من أجل الوحدة . وغالبا ما يكون معدل المعلومات منخفض جدا – والنتيجة هي قله التقدير . وربما يكون هناك مفهوم خاطئ أن معدل المعلومات المنخفض عما يحيط بنا سوف يكون مفيدا للعرض المسرحي . 
 السؤال الأساسي هنا هو وظيفة الزخرفة، وبمعنى أوسع، التعقيد، في فراغ المسارح وكيف يؤثر فينا مباشرة، أي على نحو فينومينولوجي . هل يفترض أن يكون فراغ المسرح موجودا ويجعل حضوره محسوسا، أم هل يفترض أن يجعل نفسه خفيا بقدر الامكان، لكي لا يصيب العرض المسرحي بالاضطراب ؟ المسرح الشديد الزخرفة يفعل الأمر الأول، بينما يفعل الصندوق الأسود الأمر الثاني . ومن خلال قراءة جملة بروك الشهيرة عن “ استخدام أي مساحة خالية وتسميتها خشبة مسرح “ في سياقها الملائم هو أمر حتمي تقريبا ويقودنا إلى التساؤل والشك في فرضية أنه يقصد أن تعني كلمة “ خالية “ مساحة محايدة أو غير مرئية . فمساحات المسرح التي أصبح بروك مرتبطا بها بشدة، مثل بوفيه دي نور في باريس مسرح بروكلين ماجيستيك في نيويورك، ليست الا مساحات صندوق أسود حتى لو كانت مزخرفة بالمعنى التقليدي . ومع ذلك يوفرون بيئة محفزة ومركبة . وسوف نعيد النظر في علاقة بيتر بروك بهذه المسارح واحساسهم القوي بالوجود والهوية فيما بعد في هذه الأطروحة، في فصل عن الأنسنة المعمارية . 
 ومن الناحية التاريخية، فان الفكرة القائلة بأن فراغات المسرح يجب أن تتراجع في مواجهة الأداء هي فكرة جديدة، فلم تكن المسارح التاريخية مصممة لكي تكون محايدة أو وغير مزعجة . ومن بين المسارح المبنية حديثا أو تم تجديدها, هناك اتجاه نحو التعقيد مرة أخرى، وهو تطور يمكن القول انه بلغ ذروته في اعادة بناء مسرح الجلوب على الضفة الجنوبية واعادة تصميم مسرح شكبير الملكي في ستراتفورد أبون أفون . ويتميز كلا المسرحان بأن لهما هوية مستقلة وقوية . ويقول المعماري المسرحي مايكل ريردون، مثلا، : لقد لاحظت أن المصممين قد تخلوا عن الاختفاء المثالي وأنهم يحيون المسارح التاريخية، والتي لم يكن مقصودا أن تكون خفية (65) . وسوف أعود إلى فكرة اختفاء فراغات المسرح هذه خلال هذه الأطروحة . وسؤال مثل هل يمكن أن يكون للمسرح شخصية وهوية أيضا سوف نعالجه في الفصل الرابع تحت عنوان “ أنسنة مسرح الجلوب Globe Anthropomorphism “ . وسوف نكتشف تأثير المسارح المحايدة المختفية على المؤدين والجمهور في الفصل السادس باستخدام تصميمات سادلر كدراسة حالة . 
....................................................................................
- ليزا ماري بوللر تعمل أستاذا للمسرح بجامعة ميونخ 
- هذه المقالة هي الفصل الأول من كتابها «theater architecture as embodied space» 2015.


ترجمة أحمد عبد الفتاح