الأداء المسرحي والتفسير

الأداء المسرحي والتفسير

العدد 550 صدر بتاريخ 12مارس2018

في هذا المقال سوف أوجه الأسئلة التالية: (1) متى يكون ملائما أن نعتبر العرض أو الأداء المسرحي تفسيرا للمسرحية؟. (2) ما هو المطلوب لاعتبار العرض أو الأداء المسرحي تفسيرا؟. (3) ما هي المميزات المتاحة لاعتبار العرض أو الأداء المسرحي تفسيرا للنص في الظروف الملائمة، وما هي أنواع هذه المميزات؟. (4) وهل هناك مردود لاعتبار العرض والأداء المسرحي تفسيرا للنص حتى في أكثر الظروف ملائمة؟.
سوف أبدأ بتقديم تفسير لانطولوجيا الأداء المسرحي. ويجب أن يجد القراء أن الرؤية التي يطرحها (نويل كارول Noel Carroll) في كتابه «فلسفة الفن الجماهيري(1) Philosophy of Mass Art» مألوفة، لأن (كارول) يستخدم مفارقة انطولوجيا السينما لتحفيز تفسير ممتد للأداء المسرحي. فهو يناقش الأنواع الأخرى من الأعمال الفنية الجماهيرية. وعلي حد علمي، فان استخدامه للمسرح في هذا الكتاب هو مسألة استراتيجية. علاوة علي ذلك، أعلم تماما أن له رؤى أخرى في علاقة النصوص بالأداء في المسرح، وهي رؤى تنعكس في دراسته التي تحمل عنوان «الأداء performance «والتي أدين لها بالفضل نسبيا (2).
ومبرر استخدامي لتفسير (كارول) لانطولوجيا المسرح، هو أن أبدأ بتفسير للأداء المسرحي الذي يضفي معقولية مبدئية علي فكرة أن كل أداء مسرحي هو دائما تفسير لمسرحية. وهذا هو السبب الذي لدينا والذي يهمني أن أتأمله باعتبار أنه زائف ظاهريا علي ما اعتقد (وما يعتقد به أيضا كاورل)، وهذا هو ما يهمني.
تعترف انطولوجيا المسرح بأربعة أشياء: المسرحيات ونسخ المسرحيات وتفسيرات المسرحيات والأداءات. المسرحيات وتفسيرات المسرحيات هي”نماذج «types، أو تناول أشياء متعددة المثال Multiple - instance object taking، علي التوالي، والتفسيرات والأداءات هي «علامات tokens». ويوظّف التفسير باعتباره «علامة ونموذج». وفي ما يتعلق بالمسرحيات فإنها «علامات»، وفي ما يتعلق بالأداءات فإنها «نماذج» تتناول أداءات بعينها قابلة للقراءة باعتبارها «علامات». وبالاإضافة إلى التفسيرات، قد تتناول نماذج المسرحيات أنواعا أخرى من الأمثلة باعتبارها «علامات»، وهي تحديدا نسخ المسرحيات (وأعني بها المخطوطات scripts).
ولتوضيح هذا التفسير، يحشد (كارول) مجموعة صغيرة من الحقائق المهمة حول ممارساتنا المسرحية. وتقدّم بعض هذه الحقائق لدعم هذه الانطولوجيا، ويتم شرح البعض الأخر بواسطة هذه الممارسات. وفي زحام انشغالنا بالمسرح، فإننا نعّرفه بالتأكيد بأنه مماثل للنصوص والعروض والأداءات (أو مختلف عنهم). فهناك مثلا مسرحية «هاملت»، والعرض الذي قدمه (أولفييه) لهاملت، وأداء عرض (أولفييه) لهاملت في آخر أمسيات الصيف. وأحيانا نقيّم كل واحد منها بشكل شبه مستقل عن الآخرين. علاوة علي ذلك، فان جزء من ممارستنا للمسرح أن نقرأ المسرحيات أحيانا، وأحيانا نذهب لمشاهدة عروضها. وأحيانا نقيّم المسرحيات أيضا بشكل مختلف عندما نتأملها كنصوص للقراءة في مقابل تأملها كنصوص مكتوبة أو مقدمة في الأداء. كل هذه الحقائق مهمة في ما يتعلق بتقاليد معينة سائدة في الممارسة المسرحية خلال القرنين الماضيين.
ويؤدي بنا التركيز علي مجموعة الحقائق هذه إلى افتراض، خاطئ علي ما أظن، أن ممارسة المسرح ترتكز علي النص بشكل أساسي أو حيوي. ولكن، لا يجب علينا أن نفترض وجود مجموعة من الشروط الضرورية التي تميز المسرح عن الفنون الأخرى، أو حتى سمة واحدة لممارسات نموذجية في المسرح باعتبار أنه فن مستقل. ولا ينبغي لنا أن نفترض، بوجه خاص، أن مثل هذه الظروف، لو كانت موجودة، لاستطاعت نصوص المسرح هذه، أن تحدد، علي سبيل المثال، أن شروط أدائها هي أهم العناصر المركزية أو الأساسية. وهذا هو المحك. لأن الحقائق التي كنا نتأملها هي حقائق نموذجية في واحدة من تقاليد الممارسة المسرحية من بين تقاليد أخرى، ربما لا يتلاءم بعضها في هذا السياق.
أولا: الانطولوجيا وتطابق الممارسات
والحاجة إلى التاريخ
تنبع انطولوجيا المسرح، التي بين أيدينا في جانب كبير منها، من رؤيتين لفلسفة معيارية شارحة standard metaphilosophical للانطولوجيا. الرؤية الأولي هي أننا نحدد انطولوجيا أي نظرية من خلال رؤية المتغيرات الكمية التي يجب أن تتنوع في تمثيل النظرية مع الهوية بمنطق كمي. والرؤية الثانية هي أن تفرض علينا هوية الأشياء في نظريات بعينها أن نميز بين الأشياء الواحدة المثال والأشياء متعددة الأمثلة، وأن يكون الشكل المعياري لتحليل النوع الأخير من الأشياء في إطار تمييز «النموذج / العلامة». ولا أنوي أن أتحدي أي فلسفة شارحة مقدمة هنا، بل بالأحرى، أثير بعض الأسئلة في ما يتعلق بشروط تقديمها في المثال الحالي.
ولنتأمل أول هذه الصيغ الفلسفية الشارحة المألوفة. ونحتاج مبدئيا بالطبع نظرية بالمعنى الملائم لتطبيق صيغة «أسلوب كوينQuinn Style «الأساسية لتحديد انطولوجيتها. وهذا يحتاج في المقابل أن توجد مجموعة من الممارسات المستقرة مع مجموعة ملامح لغوية مستقرة نسبيا تتجلي في مجموعة من المقولات حول ما إذا كان هناك اتفاق بين المتحدثين باللغة الأم حول ما يتفق معهم وما يختلف عنهم. وينشأ هذا الشرط من الحاجة إلى تحديد مدي اتساع خطاب، وهي النظرية التي يجب مراعاتها. وسوف ينشأ التطابق المبدئي للنظرية عندئذ من التطابق مع الخطاب المستقر عن شيء ما، بالمعنى العام لكلمة «عن». ونبدأ من هذا التطابق في بحث الحكم علي عروض واستجابات الناطقين باللغة الأم.
بالطبع، المسرح ليس مصطلحا طبيعيا، ولذلك يبدو من الملائم أن نبحث عن معنى هدفه الاشاري في الجمل التي تحدد كيف يختلف هذا النوع المبتكر عن الأنواع الأخرى. وهذا يمكن أن يدلنا علي النظرية – وكل خطابنا عن المسرح - بالطريقة الملائمة.
فهل هناك أي سبب يدعونا لافتراض أننا نستطيع فعلا أن نفعل ذلك من أجل المسرح؟. وهل نستطيع أن نحدد الفرق بين المسرح وأشكال الفن الأخرى من خلال تمييز وسيطه الضروري مثلا؟.
والمرشح الأكثر ترجيحا لوسيط المسرح هو المؤدي performer. ولكن هناك أمثلة مضادة واضحة إلى حد ما (العرائس، والأعمال التي تحدث حركتها الدرامية بواسطة الآلات والأجهزة.. الخ)، ولذلك فان المؤدي ليس ضروريا علي الإطلاق. ولن يكون المؤدي هو الشرط الكافي للمسرح، لأن هناك مؤدين آخرين في الممارسات المسرحية لن يمكنهم تمييز المسرح عن الرقص.
ومثل أي شيء يقف خلف حاجز، أود أن أذكر أن مفهوم المؤدي هو تجريد مضلل. ففي أغلب الحالات، هناك، في الواقع، مؤدين متعددين، والطريقة التي يؤدون بها العرض المسرحي معا (أو علي الأقل ذلك الجزء الذي هم أدواته) هي نوع مركب جدا من الممارسة الجماعية. وبالطبع تطبق نفس الأمثلة المضاد علي مجموعة المؤدين مثلما تطبق علي المؤدي الواحد، ولذلك، لن تساعدنا مواصفات المرشح الأكثر دقة هذه لوسيط المسرح في السياق الحالي.
والمرشح المرجح الآخر لوسيط المسرح هو النص المسرحي the theatrical text. وهذا المرشح له ميزة عن سابقه في أنه كان شرطا ضروريا للمسرح، ويمكن أن يكون أيضا ضروريا وكافيا. علي الأقل يمكننا استخدامه لمساعدتنا في التمييز بين المسرح والرقص. ولكن، مرة أخرى، هناك أمثلة مضادة له وواضحة (التمثيل الإيمائي، وأنواع معينة من مسرح الصورة.. الخ) التي تبين أن حضور النص المسرحي ليس ضروريا للمسرح.
يمكننا أن نعتقد بعقلانية أن محاولة إيجاد وسيط للمسرح هي مشروع مثير حتى نبدأ به. وبشكل نموذجي يتعلق ما نعترف به كمسرح، بعدة عناصر– النصوص والناس والمكان وإعداد المشهد والأدوات.. الخ – في مجموعات مختلفة من التركيز، ويبدو أن الفكرة التي تقول إن أي عنصر من هذه العناصر أو مزيج من مجموعة معينة منها هو الشيء الضروري الذي بدونه لا يكون لدينا مسرحا، هي فكرة مستبعدة تماما.
وربما كان التناول البديل هو النظر إلى العلاقات الأساسية التي تتأسس في الأداء المسرحي. في النهاية علي الأقل، الأداء المسرحي هو بالضرورة حدث جماهيري من نوع ما. فعلي أقل تقدير لا يبدو أن هناك ممارسات مسرحية بدون جمهور موجود مسبقا (مثلما لا يوجد ممارسات بدون جمهور موجود مسبقا في الأداء الموسيقي والرقص). إذن، ربما هناك علاقات ضرورية وكافية لحدث ما تكون فيها حالة الأداء المسرحي أكثر تحديدا (تفسير الأداء بأنه جنس وثيق الصلة بالموضوع).
وقد نرغب في المحاولة مع شيء أقل طموحا هنا: نبحث عن الملامح المميزة لأمثلة المسرح النموذجية فضلا عن البحث عن تعريف في إطار الشروط الضرورية والوافرة. في ما يتعلق بإجراء هذا الاستفسار في داخل وسيط المسرح علي الأقل، وسوف نواجه نفس الأمثلة التي قدمت الأمثلة المضادة لأكثر مرشحينا جدارة بالتصديق ظاهريا. وهنا سوف تجبرنا الأمثلة علي فهم أنه لا توجد مجموعة ثابتة من الممارسات تكون هي المجموعة المثالية في المسرح. فهناك بدلا من ذلك، عدة ممارسات تاريخية وتقاليد متعددة. ومع عدم وجود أي مثال نموذجي لهذه الممارسات، سوف نضطر إلى الرجوع إلى الحقيقة المخيبة للآمال التي تقول إن احتمال وجود مثل ذلك المزيج المكون من ملمح واحد أو مجموعة مميزة من الملامح هو أمر مستبعد.
وفي إطار أول مجموعة أصيلة من الأسئلة، حققنا فعلا بعض التقدم. والان نستطيع أن نرى هذا السؤال: متى يكون ملائما أن نعتبر الأداء المسرحي تفسيرا؟ وهل هو فعلا سؤال عن الظروف التاريخية التي تجعل ذلك ملائما.
ثانيا: الممارسات المرتكزة علي النص وممارسة الأداء باعتباره تفسيرا للنص
لكي تعد الأداءات المسرحية تفسيرات، يجب أن يكون هناك شيئا تفسره. فتاريخيا – وهنا نهتم فقط في المائة سنة الأخيرة – يوّظف النص الأدبي كنص للأداء. وألاحظ أن هذا هو الحال في المائة سنة الماضية فقط، رغم حقيقة أن الأدب المسرحي عمره أطول من ذلك بكثير. وهذا لأن أغلب الأداءات المسرحية كانت تعد تصويرا للنص فضلا عن كونها تفسيرا له، قبل ما يسمي في تاريخ المسرح «صعود المخرج». إذ كان الناس يذهبون إلى المسرح لكي يسمعوا «قراءة» للمسرحية (أو أحيانا قراءة بصوت عال لها). وعندما علق الجمهور علي الأداءات التي يشاهدونها زاد ذلك من مهارة وحضور المؤدي، وزادت من قدرته أحيانا علي فهم المعنى بالشكل الملائم، ولكن هذا ليس له أي علاقة بتقديم معنى بديل للنص. وهذا ما تغير في المائة سنة الماضية. إذ بدا في وقت لاحق أنه من المنطقي تقديم نوعين جديدين من اللغة النقدية في الخطاب عن المسرح: التمييز بين النص والعرض والأداء وفكرة أن العروض والأداءات يمكن أن تعد تفسيرات.
ولكن كيف نفهم التغيرات في ممارسة المسرح وعلاقتها بالتغيرات في خطاب المسرح؟ وما هي التغيرات المحددة المطلوبة للممارسة المسرحية لتحفيز التغيرات في الخطاب وكيف فعلوا ذلك؟. بوضوح، تفسر حقيقة أن ممارسة المسرح مرتكزة علي النص هذه التغيرات في الخطاب. فلو كانت مركزية النص هي كل المطلوب، لأنتشرت فكرة أن الأداءات يمكن أن تكون تفسيرات علي نطاق واسع قبل ذلك بفترة طويلة. فما حدث أن الناس بدأت تقدم تفسيرات أو قراءات متنوعة ومتناقضة للمسرحية. وارتبط هذا بتغير آخر ذكرناه آنفا، وهو صعود دور المخرج.
وقد كان ذلك هو السبب والنتيجة، التي اعتقد أنهما غير ذوي صلة حتى لو استطعنا اكتشاف حقيقة الأمر، لأن كل التغيرات في الممارسات التي ذكرناها حتى الآن لا تزال تفسر التغيرات في الخطاب. كما أن وجود قراءات متعددة ومتصارعة، لا يستتبع في ذاته أن تكون الأداءات تفسيرات، وبالتالي لا يمكن إضافتها بالإشارة إلى سيطرة الإخراج علي عناصر العرض المسرحي. فالقراءة يمكن رؤيتها من منظور مؤلف المسرحية والمخرج والمؤدين والمشاهدين بأنها ببساطة تصوير للنص. وبالطبع قد يقول البعض إنها تفسير (التفسير المفضل لجماعة معينة ومن ضمنهم المؤلف). ولكن ما الذي يبرر هذا القول؟. لا يكفي أن يكون لهؤلاء الآخرين تفسير مفضل ومختلف للنص. فربما كان تفسيرا خاطئا. ولذلك نحتاج شيئا آخر.
هناك سبب آخر لكي تفسر التغيرات في الممارسات التي وصفناها آنفا فكرة أن الأداءات هي تفسيرات للنصوص. ولأن أساليب تصوير النصوص متعددة ومتصارعة، فقد أشرت إلى أنه من المنطقي أن نميز بين المسرحية والعرض والأداء. ولكننا لو تكلمنا بشكل منطقي، فان العرض ليس مفتوحا فقط علي كونه إما تفسيرا للنص أو تصويرا له، لكنه مفتوح علي كونه تحديا للنص. وهي المساحة المنطقية التي دخل منها (بريخت) بذكاء بعروضه التي استخدمت النص كما هو، ولكن بأسلوب تمثيلي مرتبط بالحبكة، وفي نفس الوقت عرّض النص للنقد. ومرة ثانية، نحن في حاجة إلى شيء آخر لشرح السبب الذي جعل العروض والأداءات تفسيرات شيئا معقولا.
إن ما نحتاج إليه هو اهتمام – اهتمام متجاوز - بمعاني النصوص المسرحية. وإذا أضفنا اهتمامنا بالمعاني إلى التغيرات في الممارسة التي سبق أن ذكرناها، فان ممارسة نعت العروض بأنها تفسيرات يبدو أمرا حتميا تقريبا. ولكن ما الذي يؤدي إلى الاهتمام بالمعاني في النصوص المسرحية؟.
ليست لدي مقولة تاريخية جاهزة بين يدي لحل هذا الأمر. ولكني أقدم هنا احتمالا مثيرا. ففي الوقت الذي حدثت فيه كثير من التغيرات في الممارسة المسرحية، كان هناك أيضا تغيرا كبيرا في البحث الأكاديمي. وأشير هنا إلى تطور أقسام الأدب وابتكار فكرة الأدب ذاتها. ومع هذه التطورات نمت فكرة النظر إلى النصوص المكتوبة التي لم تركز فقط كيف تعمل، بل ماذا تعني (وأحيانا كيف تعني). وربما بدا أن الأدب المكتوب لخشبة المسرح قد وقع في مجال وطموحات هذه الأقسام الأكاديمية الجديدة وجدول أعمالها الذي يتناول كيفية النظر إلى النص الأدبي. وتكمن مشكلة هذا التفسير في حقيقة أنه غير متجانس في ما يتعلق بالمسرح، فهو ليس متأصلا في ممارسة مميزة في تاريخ المسرح. وبالمقارنة، فان الميل لتأمل الأداءات باعتبارها تفسيرات، لا يبدو خارجا عن المسرح بنفس الطريقة. فهل هناك أسباب مميزة لممارسة المسرح، تنظر إلى العروض والأداءات بهذه الطريقة؟.
ثالثا: مزايا نموذج التفسير
هناك بالطبع مزايا معينة لفلسفة الفن تعود علي نموذج تفسير الأداءات والعروض. ولفلاسفة الفن مشاريع في شكل تقديم ترتيب للمسائل الوصفية والتقويمية التي تجعل الترابط المنطقي بين هذه المسائل واضحا لنا.
والتفسير الذي سوف يحقق أكبر درجة من الفهم المختصر للمسائل المتعلقة بهذا الموضوع سوف يكون هو الأكثر جاذبية لنا عن التفسيرات التي تقدم فهما أقل اختصارا. وبالتأكيد هناك اختصارات يمكن تحقيقها من خلال استراتيجية اعتبار العروض والأداءات تفسيرات. وتفسير (كارول) لانطولوجيا المسرح هو المثال المستنير هنا، سواء كان ملتزما به من عدمه. ويوضح لنا مثال «فلسفة الفن الجماهيري «من حيث اعتبار العروض(علي ألأقل) تفسيرات، أنه يمكننا، بدقة إلى حد ما محاذاة مناقشة المسرح مع مناقشة السينما، إذا كانت حجة (كارول) جيدة، ونمد تلك المناقشة بشكل مفيد إلى أشكال الفن الجماهيري الأخرى.
والتفسير الذي يمكن أن يربط منطقيا التفسير الوصفي بالتفسير التقويمي سوف يكون هو التفسير المفضل أيضا في فلسفة الفن عن التفسير الذي يمكن أن يتناول اما التفسير الوصفي أو التفسير التقويمي فحسب، ولا يقدم أي حلول في ما يتعلق بالكيفية إلى ينبغي أن يرتبطا معا. ومرة أخرى، فان تفسير (كارول) لانطولوجيا المسرح هو مثال مستنير، سواء التزم به من عدمه. لأننا، علي أساس تفسيره، نصل إلى الأداء من نموذج - المسرحية play - type عن طريق ما يسميه التفسير. إذ يقرر (كارول) أننا يمكن أن نفسر لماذا نعتبر مختلف الأداءات لنفس المسرحية أعمالا فنية في حد ذاتها(3). بمعنى أن الميزة الفلسفية المتمثلة في نعت العروض المسرحية بأنها تفسيرات، مستمدة من السهولة التي نستطيع من خلالها أن ننطلق من ذلك البناء إلى ادعاء آخر بأن العروض يتم تقويمها بذاتها بشكل ملائم. وهناك حاجة إلى تدعيم الفرضيات، ولكن التوصل إليها لن يكون صعبا. فإذا كانت فعالية بعض العوامل المطلوبة لفهم العمل الفني بشكل قياسي هي فعالية تفسيرية، عندئذ يكون لدينا سبب للاعتقاد بأن هناك عمل فني مختلف عندما يتم تنفيذ ذلك الحدث بواسطة أحد عوامل هذا العمل الفني وكذلك الحال عندما ينفّذ الحدث بشكل مختلف بواسطة نفس العامل أو أي عامل آخر. ومن المحتمل أن تقدم بعض الفعاليات التفسيرية معاني مختلفة. ومن وجهة النظر المألوفة أنه حيثما توجد المعاني المختلفة يكون لدينا أعمال فنية مختلفة.
وبالمقارنة، إذا أنكرنا نموذج التفسير وفضلنا أن نعتبر العروض مجرد تجسيد لما هو موجود في النص، فلن تتضح الحقيقة المجردة بأن عروض المسرحيات المتعلقة بتجسيد وتنفيذ أو تحقيق النص، يمكن أن تفسر لماذا نقومها في ذاتها. فما يمكن أن نحتاجه إذن، هو تبرير يستند إلى بعض الحقائق الجوهرية عن التقاليد التاريخية للعرض لكي نفسر لماذا يجب أن تقوّم العروض المفهومة هكذا بشكل شبه مستقل، علي الأقل في بعض التقاليد، إن أردنا أن ندعم الزعم بأن العروض والأداءات هي أعمال فنية بذاتها. ولا يمكنني أن أنكر إقامة مثل هذه الحجة بالطبع. ولكني لا أتمنى أن أشير إلى أنه يمكن إقامتها، وأنها يمكن أن تكون حجة تاريخية فضلا عن أنها فلسفية. (فهي بالطبع رؤيتي، وسوف أوضح في الجزء التالي، أن الخسائر كبيرة ومن الأفضل أن نرفض نموذج التفسير، ولذلك يجب أن نقدم حجة تاريخية فضلا عن الحجة الفلسفية عندما نعتقد أن العرض أو الأداء عمل فني في ذاته. ولكني سوف اتركه جانبا الآن).
لقد أنهيت الجزء السابق بسؤال ما إذا كانت هناك أية أسباب تتعلق بالممارسة المسرحية لاعتبار العروض والأداءات تفسيرات. ورغم ذلك قدمت حتى الآن استجابة متغايرة الخواص لتبني رؤية. ولذلك انتقل إلى الرؤية التالية.
هناك الاعتبار المتأصل في الممارسة المسرحية الذي قد يبدو أنه يدخل في الحسبان بشكل حاسم لصالح نموذج تفسير العروض والأداءات. ورغم ما يمكن أن يقوله قصد المؤلفون والمخرجون والممثلون من العرض والأداء في ما يتعلق بهذا الأمر، عندما سئلوا عن رأيهم لو شاهدوا مناسبة مسرحية بعينها يستجيب فيها أغلب الممثلون لسرد القصة (أو جزء منها). وقد يفعلون أكثر من ذلك بالطبع، ولكني أريد أن أركز علي عنصر استجابة المشاهدين للأداء، لأن هذا النوع من الاستجابة شائع عموما، ويحتاج أو يفترض بعض الدراية بالفنون المسرحية. وهذه القصص هي ملخصات لما يشاهده المتلقون وتوظف كوسائل نقل لتقديم معنى للتجربة. ولا يبدو ذلك قفزة كبيرة من هذه الحقيقة إلى الادعاء بأن ما يفهمه المشاهدون من الأداء المسرحي هو شيء يمكن أن يسمى «بنية من المعاني». عندئذ، فمثلا وفقا لردود فعل اثنين من المشاهدين، كما توضح روايتهما، نلاحظ أن الروايتين مختلفتان، وربما كان من الطبيعي أن نقول إنهما فسرا ما شاهداه بطريقة مختلفة. وفي النهاية، بقدر ما ظلت روايتهما متطابقة في عرض واحد للمسرحية، بينما اختلفت حول عروض مختلفة للمسرحية، عندئذ سيكون من الطبيعي بنفس القدر أن نقول إنهما شاهدا تفسيرين مختلفين لنفس المسرحية.
يبدو لي إذن أنه، إذا كانت هناك عروض مختلفة لنفس المسرحية تستدعي مقدما ردود أفعال سردية تختلف حول العروض (وتبقي النص ثابتا)، فمن الملائم أن نفكر في العروض باعتبارها تفسيرات لنفس المسرحية. واعتقد أن هذا ملائما حتى لو كانت المسرحية موضوع السؤال ليست ضمن أعمال الأدب الدرامي، وحتى لو كان العرض مقصودا به أن يكون تصويرا أو تحديا للنص، وحتى لو كانت هناك خسائر فعلية متعلقة بهذه الطريقة في تأمل العروض والأداءات. كما أن وجود مثل هذه الخسائر هو الذي سوف انتقل إليه في الجزء التالي.
رابعا: خسائر بمقدار ليس بالضئيل
لقد أثار أغلب التنظير بعد الحداثي حول المسرح سخريتي منذ فترة طويلة، فمطالبه جعلتنا، من ناحية، نعتبر المسرح متحررا من طغيان نموذج النص الأدبي المصور، ولكن من الناحية الأخرى، تعلمنا أن نفكر في الكيفية التي نقرأ بها الأداء المسرحي (4). والميل هنا للارتباط برؤية للأداء المسرحي الذي يكون فيه كل المهم في الأداء المسرحي هو إنتاج المعاني(5). وما يثير القلق حول هذا المفهوم للممارسة المسرحية له علاقة بحقيقة أن كثيرا مما يحدث في الأداءات المسرحية، حتى في تلك النصوص الدرامية جيدة الصنع التي تحفز اختيارات الأداء، هو أمر قابل للتفسير مبدئيا في إطار التأثيرات. وهذه المؤثرات غالبا مادية في طبيعتها، ففي حين أنها قد تكون داعمة للاستجابات الإدراكية للأداء، فإنها غالبا تدعم الاستجابات اللا إدراكية noncognitve responses التي لها علاقة بالاستجابات العامة لمشاهدي الأداءات مثل الاستجابات الادراكية.
وهناك خسائر عملية ونظرية هنا (نستطيع أن ذكر الفروق وقتما نشاء)، ولكني سوف أركز فقط علي الأخيرة. ومن المفيد، حتى نري هذه النقطة أن نفكر في مجموعة من الأمثلة. ينشأ شعور الجمهور بالقوة أو الحميمية في الأداء من التأثيرات التي لا علاقة لها بمعنى النص، أو حتى معنى حدث خشبة المسرح. وتنشأ هذه المؤثرات مثل خلال وسائل مثل وجود الممثلين متجمعين بطرق معينة بالقرب من الجمهور، وهم يقفون علي منصات عالية أو يميلون أمامهم تحت إضاءة معينة. ويمكن أن يشعر الجمهور بنفس السطر الذي يقوله الممثل بنفس طريقة الأداء بعدة طرق مختلفة، إذا ألقاه مثلا وهو يتجه نحوهم عبر خشبة المسرح أو وهو يتراجع بعيدا عنهم. إذ يمكن أن يتغير الإحساس بالسطر نتيجة لهذه العوامل، ومنها هل النص يقدم علي خشبة مسرح إيطالية أم مستديرة (وهنا لا يسعنا إلا أن نذكر سوى ثلاثة من أكثر الترتيبات المسرحية تقليدية). علي الأقل، تخلق هذه الآثار الظروف التي تحدث فيها ردود أفعالنا الإدراكية وتلون رغبتنا في التعرف علي الاحتمالات الإدراكية التي يقترحها لنا أداء المسرحية.
وتسليما بهذه الحقائق، من السهل أن نرى لماذا نخسر قدرات تنظيرية مهمة، عندما تتخيل نظرياتنا الفلسفية أن أهم الظواهر في العروض المسرحية هي معانيها. ولأن أغلب تقويمنا للأداء يجب أن يرتبط بخلق المؤثرات المسرحية والعلاقة بين تلك المؤثرات وتلقينا للمضمون الإدراكي للمسرحية المقدمة علي خشبة المسرح، فان تفسير الأداء المسرحي هو الذي يوجهنا لكي نتأمل فقط، أو حتى مبدئيا، في إطار مضمون إدراكي مقيد فعلا لتقديم تفسير للتقويم الفعلي الذي يستمر في فحص الأداء. باختصار، نفقد القدرة علي التمسك بما هو مثير في العلاقات الفعلية والمهمة والمركبة بين النص والعرض والأداء في نظرياتنا. ولذلك، حتى عندما يكون من الملائم، والمفيد فلسفيا تماما، أن نعتبر العرض والأداء تفسيرا للمسرحية، فإننا لا ينبغي أن نفعل ذلك، علي الأقل إذا كان ما نريده هو تفسير نظري ملائم للأداء المسرحي.
 - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - الهوامش:
(1) فلسفة الفن الجماهيري Philosophy of Mass arts تأيف (نويل كارول Noel Carroll) (أوكسفورد 1998) ص 211 - 222
(2) الأداء Performance مجلة فورماشن Formation المجلد الثالث 1986 ص 63 - 79
(3) فلسفة الفن الجماهيري ص 212
(4) بالمناسبة، لم يقدم كارول علي هذه الحركة حسب علمي. فقد كتب بشكل بليغ عن التقاليد المسرحية، بأنه مثلا جعل قيمة العروض مركزية علي الأقل بالنسبة للأداء المسرحي بالتساوي مع القيم الأدبية (الأداء) في الصفحات 71 - 75
(5) رؤية كارول لانطولوجيا المسرح لا تتضمن أن يكون التفسير مطلوبا لكي ينقلنا من نص المسرحية إلى الأداء. ورغم ذلك إذا كان البناء الذي يحتاج أن يضعه كارول في العروض المسرحية بأنها تفسيرات يجب أن يعني أكثر من وصفة الاعداد (التي يرفضها). وهي عندئذ تشبه انطولوجيا المسرح في كتابه القن الجماهيري، وهذا يلزمنا بالتفكير في أن الشيء ذو الأهمية المركزية في الأداء هو تقديم المعنى.

جيمس هاملتون يعمل أستاذا للفلسفة في جامعة ولاية كنساس في مانهاتن – الولايات المتحدة الأميركية.


ترجمة أحمد عبد الفتاح