الفكر / التراجيديا / تراجيديا الفكر ملاحظات على مصير النظرية على خشبة المسرح (2)

الفكر / التراجيديا / تراجيديا الفكر  ملاحظات على مصير النظرية على خشبة المسرح (2)

العدد 851 صدر بتاريخ 18ديسمبر2023

     في هذا العرض المسرحي , يتم تأمل فعل التبادل وعبثيته مسرحيا , وليس وفقا للنظرية الاقتصادية . وبدلا من ذلك تغوص الصور والمشاهد المسرحية في أعماق التبادل اللانهائي . فمن ناحية يحمل كل من وكوكسنسكي وكريستان سبريمبرج , الذي ولد أعمى , نسخة من كتاب رأس المال في أيديهما ؛ يحمل الرجل المبصر نسخة مكتوبة بطريقة برايل/البارزة بينما يحمل الأعمى نسخة بالخط العادي . وبالنسبة للأخير , يوضح الخبير الاقتصادي , فان النسخة لا قيمة لاستخدامها وهو نفس الشيء بالنسبة لكوكسنسكي نفسه بالنظر إلى الكتاب المطبوع بطريقة برايل . وبالتالي يتبادلا الكتب . ورغم ذلك فان هذه ليست مقايضة البضائع التي تنظمها القيمة , بل انه اتصال اجتماعي إنساني فوري , حيث أن الكتابين ( منتجات العمل) لا يعاملهما الرجلين معاملة السلعة . ويتفاعل الممثلون مع بعضهم البعض من خلال تأمل البعد العادي للحاجة . وأثناء فعل المقايضة , يتم الاستشهاد بتحليلات من كتاب رأس المال كتعليق . 
     ما يقدمه لنا ماركس هو تحليل اقتصاد البرجوازية كتشريح لجنون المجتمع الذي يحول كل شيء الى موضوع للمقايضة , حتى النشاط في حياة الإنسان , وجسمه وعقله . تمضي الأمسية بهذا المعنى مع خط دراماتورجي مثير من البداية , التي تظل في إطار مجال المنطق , وصولا الى الجنون الغريب والعبثي اليومي في المجتمع الذي يحكمه المال . وبالتالي , يظهر من وراء منطق عالم المال جنون المقامرة والمخاطرة الأكثر تطرفا من أي وقت مضى , وجنون الاحتيال حيث يمكن تكوين الامبراطوريات والثروات الهائلة بالخداع والوهم . هذه البنية المسرحية العميقة في أمسية ترفيهية , تترك وراءه انطباعا قويا , مقنعة نظريا , على الرغم من أن المنطق المتضمن ربما  لم يكن مقصودا . تفصح التعاليم الماركسية في هذا العرض عن حقيقتها الجوهرية , التي غالبا ما يتم تجاوز تلقيها باعتبارها تحليل نظري محص لرأس المال . فلم يكن ماركس مدفوعا بقصد تقديم وصف أفضل للرأسمالية وقوانينها . وبدلا من ذلك , يخترق ماركس هوسا محددا , ألا وهو الهوس الحقيقي في سلوكنا اليومي : انه هوس النزعة الاجتماعية الإنسانية التي يمكن تحقيقها بشكل عبثي وتصبح حقيقية ومرئية للآخرين في اللحظة التي تتم فيها مقايضة نتاج عمل الفرد والنشاط الإنساني نفسه باعتبارها سلع . , وعندما تُشترى وتباع قوة العمل كسلعة بين سلع أخرى . ووفقا لماركس , وفي داخل نظام المقايضة , نبدو ككائنات اجتماعية لأنفسنا وللآخرين بأثر رجعي فقط . ولسنا اجتماعيين في أفعالنا بشكل مباشر . وهذه البنية لكل العالم العادي الذي نعمل ونعيش فيه هو صراحة عالم مجنون تماما . ففي ظل الشروط الرأسمالية , ننسى بشكل منهجي أن كل العمل كان دائما منذ البداية عبر وسائل اجتماعية . وذلك يمكن أن يكون مستحيلا , وغير متصور ودون أسبقية عمل الآخرين المتزامن . وبدلا من ذلك , تدخل كل ذات إلى السوق قي قناع مصلحة شخصية فحسب مشغولة بالعمل الخاص , وتنتج سلعا يمكن أن تثبت وجودها اجتماعيا باعتبارها مفيدة للمجتمع من خلال المقايضة  بشكل متأخر فقط , عندما يتم بيعها بالفعل . يستتبع قصد ماركس تصوير ضخامة وعبثية الجنون الصريح لهذا الشكل من المقايضة الإنسانية . إن هذا بالضبط هو الباعث الفلسفي النظري الأصلي لكتاب رأس المال – والتي تعثرت تماما في التيار الواسع للتفسير الوضعي والاقتصادي والسلطوي للكتاب – الذي يجد طريقه , ان لم يكن في التعبير النظري ولكن كتجربة حسية , على خشبة مسرح ريميني بروتوكول . 
     هنا الضبط تظهر الخاصية المحددة للنظرية على خشبة المسرح . اذ تظهر جدية النظرية وكأنها غير كافية لتفسير السخرية العميقة في بنية السلوك الانساني في ظل شروط الرأسمالية . ويتطابق هذا الباعث مع الفكاهة الملتوية , المقدمة بمسحة عبثية . وبالتالي , من المنطقي تماما , أن الأداء  على مدار الأمسية ضرب من الجنون المطلق للاحتيال المالي حيث لا يمكن الفصل بين ألعاب الحظ والنكات والخداع والسذاجة والإجرام . 
     أولا يظهر مبدأ إدمان المقامرة المتأصل في مجتمع المقايضة هنا في أقصى حدوده . ويخبرنا مدمن سابق للقمار حياته والمقامرة والديون والدمار وعمله  في مجموعة دعم لمدمني القمار . وتنعكس قاعدة القيمة النقدية التي تصفها نظرية ماركس في القمار , كما أوضح فعلا والتر بنيامين في تحليله للقرن التاسع عشر . وتبقى نهاية الانطباع عن الوصف الطويل للائتماني المحتال الشهير يورجن هاركسن. ويبدأ هاركسن , الذي لم يتعلم أي شيء عمله كمستشار استثمار , وامتلك موهبة للحصول على ثقة الآخرين , وخدع الملايين , وعمل باستخدام أرباح غير مشروعة , وسدد الائتمان بالائتمان , حتى تم القبض عليه وحكم عليه بالسجن لمدة ست سنوات وتسعة شهور – وهي نفس المدة التي قضاها يورجن شندلر من فرانكفورت . ولا يعدا ممثلين نموذجيين للرأسمالية , انهما , بالأحرى , افترقا كخصمين . في أي مكان تصبح المقايضة متطرفة , تتحول الى شيء يختلف عن الحساب العقلاني . 
     بهذه الطريقة , أصبحت الأمسية أكثر من ذكرى , في بعض الأماكن في عالم  مسرحية بريخت “ماهاجوني “ غير العقلاني تماما والمنظم في نفس الوقت , والذي نتذكره بشكل مباشر من خلال الشعارات التي يحملها المؤدون حتى النهاية . انه عالم وتمثيل تجد فيه كل إشارة أخلاقية بسيطة نفسها مدانة بأوجه القصور فيها . وبالتالي نصل الى دائرة كاملة , لدرجة أن بريخت هو الذي ذهب بعيدا في محاولة لتقريب مجالي المسرح والنظرية معا , ويمكننا أن نرى فرقة ريميني بروتوكول تتطور في أعقابه . 
                                     (  ثانيا )
     أثناء العصر الحديث , أكدت التأملات الفلسفية الكبرى المسرح الجاد , ولاسيما التراجيديا , الرابطة العميقة بين التراجيديا والفكر . وعلى الرغم من ذلك , حدث ذلك بالطريقة التي كان يُفهم الجمال من خلالها بأنه “المظهر الحسي للفكرة” . وهذه الصياغة كما نعرفها هي فكرة هيجل , ولكنها تصدق على الجزء الأكبر من النظرية في أوروبا .  والفكرة بالنسبة لهيجل هي “ الواقع “ كما يتم اختراقه مفاهيميا , وبالتالي الفكرة = الواقع ومفهومه ووحدة كليهما . ومادامت ليست مثالية, فلا يجوز في الفن أن تظهر إلا بشكل محسوس , وليس في بيئة الفكر المفاهيمي . وهذا الواقع مأزق مزدوج : الموقف الأول أن المثالي في الجمال يتطلب شيئا نظريا باعتباره جوهر الجمال . ( الجمال بالنسبة لكانط هو رمز الأخلاق “ Symbol des Sittlichen “) .  والموقف الثاني , يتطلب الأمر بنفس القدر :  يجب أن  يتجنب الجمال دائما ظهور الفكر – المصاغ على نطاق واسع – كل الفكر الواعي , وكل الآليات التي تشكل الجمال بشكل قصدي . فالجمال يقدم نفسه للرؤية , وفقا لشيللر , “لطيف وخفيف وكأنه قفز من العدم “ . 
     وطبقا لهذا الفكر الكلاسيكي , فان المسرح في جوهره فلسفة , ولهذا السبب تحديدا يجب أن يكون دائما قابلا لإعادة الترجمة الى المفاهيم التي يصورها . وهنا بالضبط , يمكننا أن نحدد الأساس , ويمكننا القول بعدم الأهمية التأسيسية لعلم الجمال الكلاسيكي . انه يفترض ما يعرفه , وهو تحديدا أن الفكر يغير شخصيته جذريا , ويغير مكانته الاستطرادية , ويغير أيضا استمراريته داخل واقع خشبة المسرح , وكذلك الحال في إطار أي سياق جمالي . إن ذكر أي شيء على خشبة المسرح يختلف جذريا دائما عن مجرد طرح الحقائق . وكقاعدة عامة , فان ما يظهر على خشبة المسرح كتأثير مقصود مثل التبرير , أو البناء المشكوك فيه , يعتمد على ما لا يعرفه الآخر , أو محاولة استمالته , أو إغرائه , ما الى ذلك . هذا الجانب , فضلا عن أي محاولة لتقديم حقيقة , هو جانب سائد . فإذا كانت كل لغة هي نفس الوقت تعبير عن الذات المتكلمة , وطرح الحقائق , فان قاعدة المسرح اذن تقول : على خشبة المسرح , يحل بعد التعبير بشكل منهجي محل بعد التظاهر . 
     ان ما يحدث للفكر هو نفس الذبول الذي يصيب كل عنصر جاد على خشبة المسرح . فمن البداية , يتقوض الفكر هنا ؛ إذ تنهار كل قيمة كامنة أو تتعثر . فخشبة المسرح تغلف الفكر ويصمد البيان : « الطبيعة الحسية لخشبة المسرح ليست مدروسة جيدا  « . ودعوني ألاحظ هنا أنه ليس من الضروري أن نعتاد على التفكيك الفلسفي لكي نكتسب هذه الرؤية . وقد أوضح ستيفن جرينبلات في كتابه “المناقشات الشكسبيرية Shakespearen Negotiations” كيف أن كل هذه الطاقات الاجتماعية التي يشير إليها المسرح ( التتويج وطقوس الكنيسة وأفعال المصالحة الشكلية) قد تم تفريغها فعلا وتجريفها من جديتها وحقيقتها , وفتحها للنقد من خلال حقيقة أنها أصبحت جزءا من التقديم المرح على خشبة المسرح . 
     وينبغي تأكيد جانب آخر من مصير الفكر على خشبة المسرح , اذ من السهل الاستهانة به بسبب تثبيت النص , حتى عندما يركز البحث على مشاهدة الموقف المسرحي . إن الزمانية المحددة في المسرح هي التي تعدل بشكل حاسم كل ما يقال. اذ يحول زمن الحدث الدرامي كل المقولات المحددة والثابتة إلى حدث لحظي . إن ما يظهر بوضوح في الإزاحة الدرامية المؤلمة التي تختبرها تلك المقولات في الانبهار يجب أن نفهمه كما هو معطى بالفعل في بنيوية المسرح الزاخرة بالأحداث على هذا النحو والتي  تؤدي نتيجة لها إلى قيام المسرحي بإزالة الجدية من كل حقيقة . لقد لاحظنا من قبل أن كل مقولة يتم التعبير عنها على المسرح , حتى لو كانت مقبولة باعتبارها الحقيقة الأعمق , فهي في الوقت نفسه محملة دائما بإمكانية التنصل منها في اللحظة التالية . وترتبط هذه الحالة المشكوك فيها للمقولات ارتباطا مباشرا بحالة الأداء المسرحي باعتباره “فنا حيا” بقدر ما توحد زمنية المسرح زمن المتفرجين مع زمن الأداء . فكل نطق , وبالتالي كل فكر يكشف نفسه باعتباره فعل الكلام الذي لن يكتمل سياقه - ولن يكتمل كذلك معناه . فالأمر يعتمد كلية على واقع موقف المسرح : هذا النقص في السياق = المعنى لا يمكن إسناده كحقيقة نظرية . انه منقوش بالفعل في الحالة الجمالية للمسرح , كونها عملية جمالية وحقيقية في نفس الوقت . وهذه الحالة التي ينفرد بها المسرح مسئولة عن الحقيقة الغريبة المتمثلة في أن الأفعال على خشبة المسرح , بما في ذلك أفعال الكلام يتم مشاهدتها على أنها منفتحة على المستقبل كأفعال حقيقية كما تحدث في حياة المتفرجين الحقيقية . 
 دعونا نتوقف هنا ونؤكد لأنفسنا النتيجة المزدوجة لاستفسارنا : في كل تفكير في المسرح – وكل هذا يطبق من باب أولى على التفكير في التراجيديا – هناك ازدواجية غريبة مرئية . وبالنسبة لنا – وهذا ارث من العصور القديمة – من المفترض أن يحتوي جوهر المسرح بالأساس على فكرة يوضحها ويظهرها . ورغم ذلك , في نفس الوقت , يُرى الفكر أيضا باعتباره منطقة محرمات , خط أحمر , وأرض محرمة ربما لا يضع المسرح فيها قدمه دون أن يفقد نقاءه كفن . (هذه المشكلة التي خلقت صعوبة بالغة بالنسبة لكانط في تعريف الجمال بطريقة لم يستبعد منها جميع الأعمال الكبرى خصوصا بسبب علاقتها التي لا لبس فيها للمفهوم والفهم) . 
     يجب أن نتذكر للحظة في هذه النقطة  ظرف أن الفلسفة والنظرية نفسيهما قد وجدا تناولهما يعاني من بُعد البلاغي والميزانسين والمسرحانية الذين لم يستطيعا التخلص منهم . فما يتضح بشكل جذري في الخاصية الحوارية لكثير من النصوص الفلسفية منذ أفلاطون وعصر النهضة وصولا إلى ديدرو وحتى الآن , يساعدنا فقط في توضيح مشكلة أبعد بكثير في الخطاب النظري : مسرحانيتها الأساسية والفطرية – التقديم المشهدي المستمر للفكر – التي ربما كانت في ذهن فوكوه في ملحوظته عن الفلسفة باعتبارها مسرح . 
....................................................................................
هانس تيز ليمان كان يعمل استاذا في جامعة Goethe Universitat Frankfurt am main . ومن أهم كتبه “ مسرح ما بعد الدراما “ 
نشرت هذه الدراسة في دي جرويتر  في العدد رقم 136 ( المجلد الأول ) في الصفحات 61-74 .


ترجمة أحمد عبد الفتاح