سطوة زيوس وسقوط كريون في مسرحية أنتيجون

سطوة زيوس وسقوط كريون   في مسرحية أنتيجون

العدد 845 صدر بتاريخ 6نوفمبر2023

يأتي العرض المسرحي أنتيجون، الذي قدمته “ ليتوانيا “ في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي -، يأتي كحالة إبداعية تخترق الصيغ المغلقة، لتبحث عن حرية البوح والمعرفة، تكشف عن وعي ثائر بأبعاد المأزق المخيف، وعن محاولات لطرح حس جمالي جديد يقبل التساؤلات ويحرر الفكر، ويعيد ترتيب العلاقات، يخرج عن السائد والمألوف، ويعلن عن ميلاد قيم جمالية تشتبك مع وقائع وجود إنساني مشحون بالعذابات والهزائم والانكسارات . 
أثار العرض موجات الجدل والتساؤلات عبر لغته المتفردة وجمالياته الثائرة وبصماته المتميزة، فهو يشاغب الحياة والوجود والعدم، الحب والحرية والدم، وجنون التسلط وعبثية الحرب والموت، جاء مسكونا بالسحر والقسوة والعنف والبراءة، منسوجا من الدهشة والشوق والحرارة، أعلن العصيان على القهر والاستبداد، وهز عرش التسلط والاستلاب، واستطاعت أنتيجون أن تبعث برسالتها الأخطر، لينتصر قانونها الإنساني العظيم، ويسقط قانون كريون الذي تجاوز كل المعنى والحضور وأحلام امتلاك الذات والكيان . 
هذه التجربة من إنتاج Solo Theatre  - مسرح الأداء الفردي -  ليتوانيا، شمال أوروبا، السيناريو منسوج من التراجيديا الإغريقية «أنتيجون» لمؤلفها سوفوكليس، الكتابة والإخراج والأداء للفنان «بيروتي مار»، والحالة الجمالية تنطلق عبر شخصيات أنتيجون ابنة أوديب ملك طيبة السابق،  أختها أسمين، كريون الحاكم الجديد، هيمون ابن كريون وخطيب أنتيجون، ثم تريسياس صاحب النبوءات، وفي هذا السياق تبعث المسرحية تيارات عارمة من تساؤلات السياسة والسلطة والديمقراطية وقداسة الإنسان، الصراع الأساسي يدور حول إصرار أنتيجونى على دفن أخيها بولينيس، الذي قرر كريون الحاكم أن يتركه في العراء، لتنطلق المواجهات الساخنة بينه وبين الشابة الثائرة . 
يأخذنا التصاعد الثائر بين الحركة ولغة الجسد، الموسيقى العبقرية وشاشة السينما، الضوء وجمل الحوار، صور الكورس الضخمة مع الشخصيات في المقدمة -، يأخذنا إلى حل عصري تجريبي مدهش للجماليات اللاهثة التي امتلكت أقصى درجات الحرية في البوح والرفض وحتمية امتلاك الذات، الحلول التجريبية تسيطر على الزمن، وتبعث مفارقات الوجود والعدم، تستدعي الماضي إلى قلب الحاضر، لتنزع الأقنعة وتكشف بشاعة الحقيقة المفزعة، وتظل تقنيات التصاعد والتوتر تخترق الزمن وتثير دلالات امتداد سطوة السلطة والأقدار . 
عندما عرف أوديب سر مأساته، أدرك أن عقاب الآلهة سريع الخطى إلى المذنبين، ففقأ عينية واعتزل الحياة، وأصدر قرارا ملكيا بأن يتناوب ابنيه اثيو كليس، وبولينيس، الحكم سنة بعد سنة، وكانت تلك سقطته الكبرى وخطيئته، التي حولت الأخوين إلى طاغيتين، فكرسي العرش لا يتسع لاثنين، وفي هذا السياق يندفع كريون إلى المشهد مسكونا بالرغبة النارية في امتلاك السلطة المطلقة، نسج تفاصيل مؤامرته الدامية ونجح في وضع النهاية لأبناء أوديب الملك، وتحقق حلم كريون، وأصبح هو صاحب العرش، أمر بدفن اثيوكليس، بينما قرر ألا يدفن بولينيس، الذي عارضه وواجهه، فكان جزاؤه القتل والرفض القاطع لدفنه، ليبقى جسده في العراء. 
كانت مواجهات أنتيجون مع خالها، هي قطعة من الجمال الخلاب، لم ترضخ لأوامره ودفنت جثة أخيها بولينيس، أختها أسمين ظلت مرتعدة خائفة، غاب صوتها تماما عن المشهد وقررت عدم المواجهة، كريون الحاكم يصاب بالجنون الوحشي، ويأمر بإخراج الجثة، الشابة الجميلة تعود لدفن أخيها مرة أخرى، لتعلن بذلك على المستوى الدلالي انتصار قانون أنتيجون الإنساني، في مواجهة الظلم والتسلط والاستبداد، وهكذا أعلنت أنتيجون العصيان وأكدت أن الأمر لم يصدر عن زيوس، وأن قوانين الآلهة يجب طاعتها، وليس قوانين البشر، لذلك يقرر كريون قتلها - -, ويصمت شعب طيبة تماما، لكن حبيبها هيمون يعترض، أخبر أباه أنه يعشقها وسوف تكون زوجته، فيقرر كريون حبسها في النفق المظلم حتى تموت . 
اتجه منظور الإخراج إلى تجسيد ذلك الصراع الناري بين هيمون وكريون الملك، الذي وضع قوانين الآلهة تحت قدميه مؤكدا أن سحر العرش أقوى من سحر الأبوة، وفي هذا السياق يندفع العاشق إلى حبيبته في النفق المظلم، المونولوج العبقري يبعث تيارات الحب والجمال، فقد قرر الحبيبان أن يموتا معا، لعلهما يجدان شرائع العدل ومعنى وجود الإنسان، أما كريون فهو يموت أيضا - - يقتل نفسه بعد أن أدرك حجم سقوطه الإنساني المخيف . 
تنتهي مسرحية أنتيجون، التي تمثل أحد أجمل الأعمال المشاركة في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، ورغم رشاقة ملامحها، وثورة رسائلها، ورؤاها الجديدة المغايرة على مستوى النص، وأسلوب الأداء وتوظيف الموسيقى والفيديو، إلا أن المسرحية ستظل مجرد حالة مدهشة لن يتوقف أمامها تاريخ المسرح . 
قام الفنان المتميز” بيروتي مار “، بأداء كل شخصيات  المسرحية فكان مدهشا لامعا شديد الثراء، الوجود الافتراضي على الشاشة يسيطر على الحالة الفنية، والإسقاطات الفكرية تتضافر مع الموسيقى العبقرية، ومع النصوص القصيرة جدا التي غيرت المسارات وانتصرت للإنسان . 
كان التشكيل السينوغرافي والأزياء لجولانتا ريمكوتي،  والإضاءة لريكارديس فوميناس . 


وفاء كمالو