رأي الناقد محمد عبد المجيد حلمي

رأي الناقد محمد عبد المجيد حلمي

العدد 844 صدر بتاريخ 30أكتوبر2023

نستكمل مقالة الناقد «محمد عبد المجيد حلمي» في جريدة «كوكب الشرق» حول مسرحية «مراتي في الجهادية» لفرقة أمين صدقي بطولة الريحاني، ومقارنتها بمسرحية «28 يوم» لفرقة علي الكسار، لأن المسرحيتين مقتبستان من أصل واحد، وتم عرضهما في توقيت واحد من باب المنافسة!! ومن هنا بدأ الناقد المقارنة بين العرضين من خلال فصولهما، قائلاً:
منظر الفصل الأول عند الكسار كان بديعاً وكاملاً من كل الوجوه لولا نقص بسيط، هو أنك حين تدخل مخزن القبعات لا تكاد تشعر بأن هنالك حركة مستديمة، فالعاملات في جانب واحد والمحل ليس فيه «تربيزات» ولا صناديق من الكرتون تدل على وجود حركة بيع وشراء. أما في دار التمثيل العربي [يقصد عرض «مراتي في الجهادية» لفرقة أمين صدقي] فالمنظر من أوله إلى آخره خطأ، فأنت تشعر بأنك لست في دكان وإنما في صالة منظمة في منزل أنيق. فالمنظر عند الماجستيك – رغم عدم استكماله شروط «المخزن» – أكثر ملاءمة ودلالة على القصد من منظر دار التمثيل العربي. وكانت الإنارة في هذا الفصل غاية في الرداءة عند دار التمثيل العربي، لأن طبيعة تركيب المنظر ووضع المصابيح الكهربائية جعلت الظلال تتراوح وتختلط فتفسد بهجة الفصل ويضيع تبعاً لذلك التأثير المطلوب. وهذا الفصل بكيفية اقتباسه وتنسيقه أقرب إلى الأصل عند الماجستيك، لذلك كان في مجموعه أقوى وأبدع من فصل «مراتي في الجهادية». على أن للفصل الأول في دار التمثيل العربي مزية هي اللحن الختامي، فقد كان أكثر قوة وتأثيراً، لكلامه وتلحينه ونظام إلقائه. ولن أترك هذا الفصل قبل أن آخذ على أمين صدقي بعض جمل قذره ما كان يصح أن يحشرها في الرواية مثل الجملة التي يقولها ميشونيه للعاملات: «إحنا ولاد كار واحد وشغالين في بعض»!! ثم جملة ميشونيه لفيفريل: «أنا باشجاويش وأنت أمباشي تحت مني» وهكذا. ثم طريقة وضع الأزجال، في الفصل الأول من الروايتين، فبينما نجد الحسان العاملات في الماجستيك نظيفة وكلها تدل على الشكوى من سوء الحال، وآلام العاملات، وما يكابدن من شقاء وتعاسة، تجد عند أمين صدقي فائضة بالغمز واللمز والدردحة والحركات وسبل الإغواء!!
أما الفصل الثاني، فالحق أقول إنه عند دار التمثيل العربي أبدع وأكثر ملاءمة للموقف من منظر الماجستيك. ولست أكتم إعجابي بموقف نجيب وبديع في أول الفصل، وهو موقف في رأيي أنقذ الفصل كله تقريباً وخصوصاً لحن البكاء على سلم الموسيقى، على أن النظرة الناقدة تستطيع أن تعطي الأفضلية في هذا الفصل لرواية 28 يوم إذ أن النظام كان شاملاً، وقد تجلت في الفصل عيشة الجهادية ونظام العسكرية، وكان له من روعة المناظر وفخامتها ما يجعله أكثر أفضلية. ثم أن ألحان الفصل الثاني في رواية 28 يوم أكثر حلاوة وإبداعاً خصوصاً لحن المبارزة «الدويتو» فقد أعطى اللحن للموقف قوة ورهبة زادت في رونقه وروعته.
ثم ينتقل الناقد إلى مقارنة الأزياء بين العرضين، فيقول: إن الملابس في الماجستيك أفخر وأكبر أبهة من ملابس دار التمثيل العربي. فإذا أضفنا إلى ما تقدم آلات القتال من سيوف وبنادق لأكثر من خمسة وعشرين جندياً وضابطاً يظهرون جميعاً في ملابسهم وآلاتهم الحربية، استطعنا أن نحكم بأفضلية الماجستيك من هذه الناحية.
وينتقل الناقد إلى أهم مقارنة، وهي مقارنة الممثلين، فيقول: لم يبق إلا أن نقدم للقراء الممثلين الذين مثلوا أدوار الروايتين: مثل علي أفندي الكسار دور الفيكونت، وقام به عبد اللطيف جمجوم عند فرقة دار التمثيل العربي. ومثل نجيب أفندي الريحاني دور ميشونيه وجيبار مختلطين، ومثل محمد أفندي سعيد دور ميشونيه والشيخ حامد مرسي دور جيبار. ومثل عبد الحميد أفندي زكي دور القومندان وقام به في الماجستيك زكي أفندي إبراهيم. ومثل جبران أفندي نعوم دور بتوا ومثله في دار التمثيل العربي فؤاد أفندي شفيق. ومثلت السيدة بديعة مصابني دور «كليريت» ومثلته السيدة رتيبة رشدي في الماجستيك. ومثلت السيدة فكتوريا كوهين «بيرنيس» وقامت بالدور فتحية أحمد في الرواية الأخرى. هؤلاء هم أبطال الروايتين وهم كما ترى مجموعة صالحة من فطاحل التمثيل الهزلي في مصر، وكل منهم له مواقف أعجب بها الجمهور وذكرها له، لذلك كانت المنافسة شديدة بين الممثلين أنفسهم فكنت ترى كل ممثل في كل فرقة يسأل: «من الذي سيقوم بدوري في الفرقة الأخرى؟». اجتهد كل ممثل، وارهقت كل ممثلة نفسها لتفوز على مناظرتها في الفرقة الأخرى وكان من هذا التنافس الشديد أن ظهرت الروايتان في أبدع صور التمثيل الهزلي وهي حالة لم تكن لتظهر على المسرح لولا شيء من التنافس دفع إليه ظهور الروايتين بمظهر واحد تقريباً في مسرحين مختلفين! فهل في وسعنا أن نحكم على مقدرة ممثل أو ممثلة بمجرد ظهور غيره عليه في دور واحد؟! أظن هذا لا يمكن، وأظن أنه من الصعب جداً أن يعمد المرء إلى الحكم أو النقد في هذه الناحية. على هذا سنبذل جهداً لنستطيع بأي الطرق أن نفصل بين الجميع.
وبدأ الناقد عمله في حل هذه الإشكالية، قائلاً: هل يمكن المقارنة بين علي أفندي الكسار وبين عبد اللطيف أفندي جمجوم؟! الدوران مختلفان تماماً في الروح والنظرية المسرحية، وإن كانا شخصية واحدة في الواقع. ليس هنالك وجه للشبه، وعلى هذا نستطيع أن نقول أمامنا دوران منفصلان لا تجمعهما صلة إلا بعض المواقف المسرحية. فإذا وصلنا إلى هذه النتيجة فقد سهل الحكم! أما علي أفندي الكسار فليس في حاجة إلى نقد أو تقريظ فهو دائماً روح الرواية وهو دائماً ناجح في دوره. الرجل يحفظ تماماً نفسية الجمهور، ويعرف – من عمله الطويل على المسرح – ما يسره وما لا يرضيه. وقد يأتي بحركة، أو يحشر جملة لا نرى نحن لها قيمة، فيكون لها أكبر تأثير عند الجمهور. أما عبد اللطيف جمجوم فلم يكن موفقاً تماماً في دوره. ولعل من سوء حظه أن يقف هو وعلي الكسار موقفاً واحداً يرفع أحدهما ويخفض الآخر. 
بقي عندنا نجيب أفندي الريحاني في ناحية ومحمد أفندي سعيد والشيخ حامد مرسي والشيخ محمد العراقي في ناحية أخرى، وقد قلت من قبل إن «الانحصار» أو تجمع الشخصيات المتعددة في شخصية واحدة، يكسب الشخصية المفردة قوة وظهوراً. «نجيب الريحاني» ثلاث شخصيات في شخصية واحدة فهو بهذه الصفة أكثر قوة من الثلاثة مفترقين، وهو أيضاً – في ذاته – من الشخصيات الممتازة التي يحبها الجمهور حباً مفرطاً. فإذا نظرنا إلى محمد أفندي سعيد في دور «ميشونيه» بدون مقارنة فقد نستطيع الحكم أنه كان موفقاً إلى حد كبير، أي أنه بذل مجهوداً يستوي به مع أبطال الرواية، فنجح مجهوده وكان بروزه كبيراً. أما الشيخ حامد مرسي فإن دور الضابط «جيبار» كان في جوهره كوميدي، ويظهر لي أن حامد مرسي لا يميل بطبعه إلى الكوميدي المستهتر الوثاب، ويفضل عليه الدرام لذلك تراه يميل دائماً إلى بث الغرام، ومواقف الشكوى حيث تظهر اللوعة ودفائن الفؤاد. ولعل هذا أول دور أراد أن يطلق فيه نفسه من ألم إلى طرب فوقف حائراً بين النفسيتين لذلك تسمع «نكتته» أو كلمته الطروبة المازحة فتكاد تسمع فيها شيئاً من رنين الألم وتقطر الدموع. أما في إنشاده فقد أظهرت إعجابي به مراراً ولا أزال أكرر ذلك الإعجاب بحامد. بقيت شخصية الشيخ العراقي، وليسمح لي في هذه المرة أن أقول له إن الجندي أو الضابط الفرنسي يحتاج المرء في تمثيله إلى كثير من القوة في الصوت، والحماسة في الاندفاع الأهوج، والتلهب الناري في النفس المتوثبة المهتاجة دائماً. 
أخرج عبد الحميد أفندي زكي دور «القومندان» في رواية «مراتي في الجهادية» ومثل هذا الدور زكي أفندي إبراهيم في رواية «28 يوم». ولا وجه للمقارنة أيضاً بين الممثلين فكل منهما له طريقته الخاصة في الظهور أمام الجمهور. عبد الحميد طريقته العنف المتناهي الذي يتحول عند نقطة إلى حنين مطرب، ونغم مضحك، وزكي إبراهيم طريقته النعومة المسترسلة، والعبث النفساني المتصل الذي يبدأ بالضحك وينتهي بالسكون. هما إذن مفترقان عند الابتداء، مفترقان أيضاً عند الانتهاء، ولكن العوامل واحدة إذا عكسنا الطرفين فتلاقيا في نقطة واحدة! كل منهما نجح في دوره نجاحاً متساوياً لدى المقارنة ولكن كلاً منهما سلك طريقاً يختلف عن صاحبه من كل الوجوه.
مثل جبران أفندي نعوم دور «بتوا» في الماجستيك، ومثل هذا الدور في الفرقة الأخرى فؤاد أفندي شفيق. كل منهما يختلف عن الآخر أيضاً! سلك جبران طريق الإضحاك باستثارة الحاسة الضاحكة في الأعصاب، فهز العاطفة هزاً عنيفاً، وهو في سلوكه هذه الطريقة خرج عن الشخصية الفنية للدور خروجاً وإن لم يكن كلياً فهو جزئ على الأقل، ومع ذلك فقد نجح. أما فؤاد شفيق، فقد سلك طريق «الفنية» فسار في الدور على طبيعته المرسومة وهذه الشخصية فيها كثير من الإبداع، ولكن العمل الفني دائماً شاق يتعثر فيه صاحبه الى حد كبير .. وعلى سبيل المقارنة، نستطيع أن نقول إن نجاح جبران كان أعظم من نجاح فؤاد شفيق.
والآن نترك الأبطال لنتحدث عن «البطلات»: «كليريت» بطلة الرواية، تلقفتها ممثلتان لكل منهما مكانة خاصة عند الجمهور، ولكل منهما طريقة خاصة في التمثيل. السيدة بديعة مصابني ممثلة رشيقة حتى تكاد تكون أرشق ممثلة على المسرح العربي، وهي خفيفة الروح خفة غير عادية. جلست بالأمس أنظر إليها في رواية «مراتي في الجهادية»، وكان بجانبي توفيق أفندي المردينلي ولست أذكر في أي موقف همس في أذني جملة أضحكتني إذ قال: «دي من خفتها بِتْشُر دَم»! ولعل هذا أبدع وصف لها أكتفي به، وقد يحسن أن أقول إن السيدة بديعة لم تدع مجالاً لغيرها تظهر معها فيه!! وطريقتها على المسرح السرعة والحركة المستديمة. أما السيدة رتيبة رشدي فقد خصصت نفسها للكوميدي حتى وصلت إلى درجة كبيرة في الفن وفي نفوس الجمهور. هي الأخرى خفيفة الروح، بسامة على المسرح لا تدخر وسعاً في سبيل الظهور بكل المظاهر الفنانة الجذابة. كان نجاحها في دور «كليريت» كبيراً وطريقتها على المسرح التثني والاعتدال! فإذا قارنا بين بديعة ورتيبة، فمن العدل أن نقول إن رتيبة كانت موفقة كثيراً ولكن بديعة كانت أكثر توفيقاً. ولا وجه للمقارنة بين علي الكسار ونجيب الريحاني. فعلي استكمل شروط الطبيعة وفتئتها، ونجيب استكمل شروط الصناعة الفنية وجمالها.
بقيت السيدة فكتوريا كوهين والسيدة فتحية أحمد في دور «بيرنيس» .. وفي اعتقادي لا تصلح السيدة فتحية بأية حالة من الأحوال أن تكون ممثلة، ولا يهمني أن تكون جميلة أو غير جميلة، خفيفة أو ثقيلة، وإنما أنا أبحث عن الموقف الفني، والاستعداد المسرحي. تدخل السيدة فتحية المسرح في استحياء مصطنع، وفي مشية «بلدية» تطوح إلى جانبها يديها المتدلتين، فإذا توسطت المسرح اعتدلت واتجهت ناحية الجمهور، ورفعت عينيها إلى اليمين وإلى اليسار. ثم ابتسمت في فم عريض ينفرج وينطبق باستمرار ميكانيكي. نغمتها منكسرة فيها شيء من الخشونة المبحوحة الفاترة. نظراتها ثابتة لا تدل على اتجاه ولا تعبر عن عاطفة. ووجهها كوجه أبي الهول الأغر، تكاد تلمس جموده، ثابت الصفحة لا ترتسم فوقه حتى تجعدات حزن، ولا انبساطة سرور. مشيتها متباعدة الخطوات في غير اتزان ولا اعتدال، فإذا أرادت أن تتثنى فقد تمايلت، وإذا اعتدلت فقد «تخشبت»!! هذه هي أهم مظاهرها الخارجية. أما نفسيتها فليست بنفسية الممثلة، وإنما هي نفسية ربة الدار، كلتاهما لا تصلح في مكان الأخرى، فإذا أجبرت أن تحل محلها فهناك الثقل والبرود. هذا كل ما لدي عن فتحية أحمد كممثلة. أما كمغنية، فاعتقادي أن تقدير الصوت والحكم على المغني من أصعب الأمور، لأن المسألة مزاج شخصي. فإذا حاول الناقد أن يتجرد من مزاجه ليجمع إليه ولو بعضاً من أمزجة الآخرين، فقد يستطيع في هدوء أن يحكم حكماً إن لم يكن صواباً فهو قريب من الصواب. ورأيي في السيدة فتحية أحمد أنها مغنية من الدرجة الثانية على الأكثر. صوتها فيه قبضة عن الاسترسال الطبيعي لا تعطيه مجالاً، ولا ترتفع به إلى السمو والاكتمال في أوتار حنجرته. هي مطربة فرقة دار التميل العربي، وعلى ذلك فقد كان يصح أن تكون المقارنة بينها وبين الشيخ حامد مرسي لأنه هو مطرب فرقة الماجستيك على أنه ليس من عادتي أن أقارن بين الرجولة والأنوثة، فإذا اضطررت إلى المقارنة بينهما فأنا أفضل حامد مرسي. ولست أنكر أن حامد ضخم الصوت، وأنه ليس فيه رقة الأنوثة، ولكن مع ذلك فيه الحلاوة الطبيعية، والجاذبية النفسانية، وفيه دقة اصطناع خفيف، أما فتحية أحمد فهذه المميزات معدومة في صوتها تماماً. ثم انتقل الناقد إلى التلحين والملحنين، فقال: رواية «28 يوم» لحنها زكريا أحمد. ورواية «مراتي في الجهادية» لحنها عدة أشخاص هم محمد عبد الوهاب، إبراهيم فوزي، حسن كامل، دواد حسني، أمين صدقي. لست أدري كيف استطاع كل هؤلاء أن يجتمعوا في رواية واحدة ألحانها لا تتجاوز العشرة على ما أذكر. وأسهب الناقد في حديثه عن كل ملحن بما يصعب علينا نقل هذا الإسهاب .. ونختتم كلام الناقد بكلمته الختامية، وقال فيها: لم يبق شيء أستطيع أن أتحدث عنه .. فقد بذلت مجهوداً كبيراً في أن أكون عادلاً، وأظنني أرضيت ضميري الآن .. سيغضب قوم ولكنني أزدري الغضاب وخير لهم أن يكونوا هادئين سواء في الماجستيك أو في دار التمثيل العربي. لقد حكمت على الروايتين إجمالاً والآن أريد أن أفصل باختصار: رأيي أن رواية «28 يوم» نالت نجاحاً أكبر من رواية «مراتي في الجهادية»، المناظر والملابس عند الماجستيك أفخر من ملابس دار التمثيل العربي، التمثيل بمجموعه في الماجستيك أكثر اتقاناً من دار التمثيل العربي، الألحان في دار التمثيل العربي أقل روعة وتأثيراً وتمشياً مع الرواية بعكس الماجستيك فقد كانت الألحان أقوى وأوفق. كانت هناك منافسة بين أمين صدقي وعلي الكسار، فانتصر علي الكسار انتصاراً مزدوجاً على منافسه .. وفي الختام نهنئ علي أفندي الكسار بنجاحه ونرجو لأمين أفندي صدقي توفيقاً في عمله الآتي


سيد علي إسماعيل