العدد 641 صدر بتاريخ 9ديسمبر2019
رابعا – بناء منجز (هاندكه) في مسرحية “كاسبار “:
نحن الآن في وضع أن نبدأ في رسم كيف يزود كتاب “بحوث في فلسفة المنطق” (هاندكه) المادة التي يعلب بها في مسرحية “كاسبار “. فمن الأمور الأساسية في تصميم كتاب “بحوث في فلسفة المنطق” مفهوم (فيتجنشتاين ) للفلسفة كدراسة لما هو ممكن – أعني الذي يجعل المعنى ممكنا ونتائج ورود المعنى ضمن تلك الاحتمالات فقط .
قد تكون صيغـة معينة للدلالة غير مهمة ولكن من المهــم دائما بمثابة وسيلة ممكنة للدلالة . وهذا هو الحال في الفلسفة عموما: مرارا وتكرارا تصبــح الحــالة الفردية غير مهمــة، ولكــن امكانية كل حالة فردية تكشف شيئا عن جوهر العالم .
وبالتالي، فان الفلسفة بالنسبة ل (فيتجنشتاين) هي دراسة للشكل : لأن الشكل هو احتمال البنية . ولعل أحد الاقتراحات الجديرة بالملاحظة هو أن (هاندكه) يمكنه نقل كتاب “بحوث في فلسفة المنطق” الي المسرح من خلال ربط فكرة “اللعب” ببحث الممكن . ولكننا سوف نتذكر أن ( هاندكه ) مهتم، تحديدا، بألعاب التناقضات . وهذا يثير سؤالا مهما : ماذا لو حاولنا تقديم رؤية المعنى في الكتاب ولا نواجهها في نفس الوقت برؤيتها الضمنية بل برؤية تعلم اللغة التي تدحض نفسها ؟
يتضح فورا أنه حتى تدريس اللغة الثانية يجب أن يتشوه في هذا التقديم . ففي العلم العادي للغة الثانية (وبغض النظر تماما عن مسألة التمسك بالتعبيرات الاصطلاحية) فلا بد أن يكون هناك مجموعة واسعة من الصلة بين المفردات المحفوظة والقواعد اللغوية والظروف المعاشة التي تستخدم فيها اللغة . ويجب أن تكون مجموعة الاتصال أوسع بكثير من مجرد ما يمكن أن يقدمه التدريس الواضح. وهذا ما كنت أعنيه آنفا عندما قلت ان الوضوح هو أحد التقنيات المؤثرة في تدريس اللغة الثانية . والفكرة هنا هي أنه، في نظرية المعنى التي تكون فيها وسائل التدريس الوحيدة المؤثرة هي الوضوح،لا تكون كل لغة هي لغة ثانية فحسب، بل ان كل تدريس أيضا اصرار واكراه . وفي حالة عدم وجود علاقة متبادلة قصد السلوك اللغوي وقبل اللغوي المستدعى والمعول عليه في التدريس، فمن الممكن للمعلم أن يشير ويهدد حتى يكرر الدارس . وهذا هو بالضبط منهج الملقنون في مسرحية “كاسبار “. وهذا هو أيضا السبب الذي يجعل “كاسبار” عند لحظة الوعي في التتابع الأخير يقول “بالفعل كنت محاصرا في جملتي الأولي “. فقد تم غرسها بالقوة .
ولا يمكن أن تكون خلاف ذلك . تأمل تلك الجملة الأولي : “أريد أن أكون شخصا مثل أي شخص آخر “. لقد جعله نطقه الأول للجملة أن يكررها عدة مرات حتى تصبح واضحة للمشاهد الذي لم يفهمها . يلي ذلك فورا اللحظة التي ينطق فيها سؤالا، يعبر عن الارتياح . يلي ذلك في المقابل فقرة يحاول فيها “كاسبار” اجراء مختلف المواجهات مع الأشياء علي خشبة المسرح بينما يمدح الملقنون فضائل جملته :
بالفعل لديك جملة يمكن أن تجعل نفسك بارزا من خلالها ...
يمكنك أن تشرح لنفسك كيف تسير الأمور معك ....لديك جملة يمكنك أن تجلب بها النظام في كل اضطراب .
يوجد نوع من التطوير هنا – كل هذا يحدث قبل اقصاء جملته . يبدو أننا لا بد أن نرى “كاسبار” باعتباره مجرد من اللغة، وضئيلا لكن يثق بنفسه، عندما يشرع الملقنون في تدميره . ولكن حتى نرى أنه يملك لغة قبل الاقصاء فيجب أن نفترض أنها أيضا لغة ثانية . في اللحظة الأولي، لا فرق بين سلوك “كاسبار” وسلوك الببغاء – ولا يتضح أننا يجب أنه نصفه بأنه “يتكلم “. واللحظة الثانية، فان سلوكه بوضوح هو سلوك مستخدم اللغة – ولكن لا يوجد سياق سلوكي أوسع متاح لأي من الأشياء التي يفعلها “كاسبار” بجملته والذي يمكن أن يجعل تلك الجملة بعينها واضحة باعتبرها أمر أو سؤال أو تعبير عن أي شعور . وهذا لا يعني أن نقول اننا لانستطيع أن نستخدم بوضوح تللك الجملة لاصدار أمر، أو نسأل سؤال أو نعبر عن خوف . ولكنها يجب أن تذكرنا أن ( هاندكه) لا يقصد أن يكون هناك أي شيء مقدم للمشاهدين سوى نطق الجملة بالقصد المميز للأمر والسؤال، وما الي ذلك . لأن القصد وحده ليس كافيا فعلا للنطق لكي يكون أمرا أو سؤالا، أو ما تريد، فمطلوب منا هنا أن نرى “كاسبار” باعتبار أنه غير كفئ لغويا ويحاول نطق هذه الجملة باعتبارها جملة جديدة، ولغة ثانية – جملة مفروضة عليه من قبل أن يدخل الي خشبة المسرح، وربما، لن يكون معتادا عليها بشكل كفء في انجاز أي شيء .
وبالنظر الي “كاسبار” كمسرحية تتجسد فيها نظرية المعنى المنسوبة لكتاب “بحوث في فلسفة المنطق “وتتصدى لوجهة نظرها الضمنية الخاصة بتعليم اللغة، يأخذنا الي مسافة بعيدة نسبيا باتجاه تفسير كيف أن اغترابنا عن لغتنا وعن ذواتنا متضمن في المسرحية . ففي لعبة التناقضات هذه، كل تعليم هو اصرار قسري ولغتنا لن تكون أبدا ملكنا . اذ يتم تقديم اقران هذا الاكراه ونوع السلب بشكل بياني في أكثر الصور اثارة في المسرحية : فالصورة المرئية ل “كاسبار “والتي تشبه العرائس مع القناع المتجمد الذي لا يبدو قناعا في البداية، والصورة السمعية لأصوات الملقن التي تبدو وكأنها قدمت باستخدام الوسائط التقنية . فوجه القناع هو كل ما يوجد هناك لرؤيته وهو ليس وجه “كاسبار” أبدا . والوجه، لأنه قناع له تعبير محدد مسبقا، مفروض بشكل غير متجانس . ويتدفق استخدام الوسائط التقنيه لأصوات الملقنين من نظرية صورة المعنى نفسها – حيث يتم تفسير اللغة كنوع من التدوين المنفصل الموسط بين ذواتنا والعالم . فمعنى اللغة باعتبارها دائما لغة ثانية عاجزة في مسرحية “كاسبار” في داخل صورة الاغتراب – اغتراب لا مفر منه : فمع نطقنا الأول نقع في الفخ .
هذه الطريقة في قراءة “كاسبار “توضح أيضا الصلات بين معنى الاغتراب عن لغتنا وعن ذواتنا ( الذي وصفناه توا )، وغياب الشخصيات، ومعنى أنه بينما لا يوجد تاريخ هنا فهناك نوع من الحبكة في أحداث المسرحية . اذ يمكننا أن نرى كيف تساعدنا هذه القراءة للتعامل مع هذه المسائل المترابطة أولا بطرح سؤال “من شخصيات كاسبار الأخرين ؟ “ومهما كانت الاجابة علي هذا السؤال، فهناك بعض الاجابات لا يمكن تقديمها : مثل أسرته . بالطبع يمكننا أن نقصي مقدما أي اجابة توضح شخصيات كاسبار الأخرى باعتبارها قادرة علي أي علاقة شخصية مع كاسبار 1، بمعنى، أي علاقة تنشأ فيها مشكلة وجودهم الحقيقي ( أعداء، عشاق، أصدقاء ) . تأمل فقط مدي صعوبة محاولة تقديمهم كمعارف علية – وكم تتعارض مع الاتجاهات الصريحة الواردة في الارشادات المقدمة في النص . وتكمن أهمية هذا في تذكيرنا بأنه لا يوجد شيء في المسرحية – مثلما لا يوجد شيء في كتاب “بحوث في فلسفة المنطق” – يوحي بكيفية استخدام اللغة في أي شيء مثل العلاقة اليومية، ناهيك عن استخدامها في العلاقة التي نعلق لها وزن ما وقيمة ما . ولو كان هناك، سيتم لفت الانتباه الي المواقف التي بدأت فيها العلاقات أو اكتشفت أو اضطربت أو دمرت أو أصبحت حازمة أو ضعيفة أو ما شابه . وبافتقارها الي هذا، لا يوجد شيء في المسرحية – كما لا يوجد شيء في كتاب “بحوث في فلسفة المنطق” – أعني أي شيء مثل أي موقف حقيقي حيث يمكن أن تكون للغتنا حياة كما أن لنا حياة .
لا أنوي، فيما سبق، استبعاد تفسيرات نماذج “كاسبار الأخرى، فربما كانت هي كاسبار، اما كذوات بديلة أو اجزاء من ذات متشظية : ربما كانت شعارات لنوع من تسفيه التشابه في كل شخصيات المسرحية ؛ وربما كانوا الملقنين . ولا أعتقد أن التفسير الأكثر اثارة في نماذج كاسبار يجب أن توضع في اطار كونهم أفراد منفصلين . ولكن اذا حاولنا تفسيرهم كأفراد، فتصبح فرديتهم نفسها الشيء الأقل اثاره فيهم، فهم يوظفون بطرق تختلف عن توظيف الملامح الفردية المهمة، ولغة التعامل بين الناس الذين يتفاعلون مع بعضهم البعض علي أساس أدني اهتمام بالتشابهات والاختلافات، فان ذلك هو الشيء المفقود في المسرحية .
فما هو حقيقي بالنسبة لنماذج كاسبار حقيقي أيضا بالنسبة لكاسبار . فهم ليسوا بشرا، ولا أجسام بشرية، ولا أرواح بشرية يهتم بها علم النفس – انهم ذوات ميتافيزيقية – في هذه المسرحية فان تلك الذات في مشكلة . وتكرار فكرة أن كل لغة هي لغة ثانية يطرح الآن سؤال الدعاء بأن العالم هو عالمي وأن هذا جلي في حقيقة أن حدود لغتي ( اللغة التي أفهمها وحدي ) تعني حدود عالمي . والذات التي يفترض أنها تؤلف صور العالم تجد الآن – بأقل اصار حميد من الملقنين - ليس لها سلطة هنا . علاوة علي ذلك، الحقيقي في كاسبار حقيقي أيضا في الملقنون – وبالتالي، مرة ثانية، يتوسط صتهم المقدم في وسائط تقنية بينهم وبين العالم .
وغياب القصص من المسرحية متوقع الآن . فقد أشرت سابقا أنه اذا كان لنا أن نتناول أي من هذه النماذج الدرامية باعتبارهم بشرا – باعتبارهم اناس نرعاهم، نكرههم، نجدهم ممتعين، مملين، مسليين – فمن الممكن أن يكون هناك نوع من العرض لجانب من حياة هذه النماذج . لكي نوضح أن المسرحية تحكي قصة . ولكن بقدر ما تكون هذه النماذج هي كل صور الذات الميتافيزيقية فليس من المحتمل أن تكون لهم قصة . ولا يبقي لنا اذن سوى تتابع الأحداث – وليس قصة.
ربما كنا نتوقع هذا مما فهمناه من كتاب “بحوث في فلسفة المنطق “. فحكي قصة هو طريقة خاصة في ربط الأحداث . ويرتبط بها تقديم حبكة . وتقديم حبكة يكون لتشكيل سرد الأحداث بطريقة تجعلها مفهومة لجماعة ما . فما يجعل الأحداث مفهومة لنا، وما يشترط ألا تكون قائمة الأحداث الاحتياطية مفهومة، هو معنى لماذا تحدث بترتيب معين، ومعنى السبب والنتيجة، ولاسيما معنى القصدية . فنظرية صورة المعني المنسوبة لكتاب “بحوث في فلسفة المنطق “قد اتضح أنها عاجزة تماما عن تفسير حتى أبسط أنواع الروابط السببية . لأنه، بينما توضح الصورة شيئا ما هو تلك الحالة (وبذلك ربما توضح قانونا عليا )، ودون الالحاح علي غير الموجود في الصورة فانها لا يمكن تعرض سبب كون الحالة كذلك، وهكذا لا يمكن للصورة أن تقر قوانين علية بشكل ما . ولا يتم انقاذ النظرية المنسوبة لكتاب “بحوث في فلسفة المنطق “عند هذه النقطة بواسطة امكانية تتابع الصور . فكل صورة تمثل حقيقة ذرية، ان جاز التعبير . ولكن التفسير الذي نريد أن نقوله، يحدث بين الصور . فتقديم التفسير يتكون من القول ان حقيقة واحدة تحدث بسبب حقائق أخرى محيطة أو نتيجة لها . فسرد هذه الحقائق يوفر المادة التي يمكن أن يصاغ بها التفسير، ولكن ليس التفسير نفسه . ويستتبع ذلك، بنفس المنطق، أن تفسير كتاب “دراسات في فلسفة المنطق “خال تماما من المصادر الضرورية لتفسير الأحداث المرتبطة بالقصد الانساني والواسطة . بهذه القراءة لمسرحية “كاسبار “( التي تناقضها نظرية المعنى في كتاب “بحوث في فلسفة المنطق”، من خلال نظرية اكتساب اللغة المضمرة )، يتضح الآن كيف أن الاغتراب عن اللغة مرتبط بغياب الشخصية، وفي المقابل كيف أن ذلك المرتبط بغياب القصة في مسرحية “كاسبار “. من الواضح باختصار، كيف كان (هاندكة) ناجحا في تجنب التمثيل السردي .
ومع ذلك مازال هناك الكثير الذي يوحي بوجود قصة وحبكة . وأحد الأشياء التي تدعم هذا هو أن هناك عدة عناصر تميز الحبكة في المسرحية . فهناك مثلا مشهد الادراك ( حتى لو كان ممزقا ) . بالطبع ان وجود مشهد أو أكثر كهذا لا يضمن وجود حبكة، ولو كنا نعني بذلك قصة أساسية ضمنية . فمسرحية (يونسكو) “المغنية الصلعاء” معروفة بأنها علي حد سواء بأنها بدون حبكة وتتضمن مشهد ادراك هزلي معكوس . وما يوضح أن مسرحية “المغنية الصلعاء “، هو حقيقة أن ترتيب احداثها يمكن أن يعاد ترتيبها بدون فقدان الفهم ( علي الرغم من فقدان بعض التأثير ) . وبالمقارنة، فان “كاسبار “ليست تتابع احتياطي لصور غير مترابطة يمكن حفظ ترتيبها أو اعادته من جديد . وبالطبع لو تتبعنا ترتيب الأحداث كما تحدده الاضاءة فان له بنية ايقاعية تحمل احساسا بتطور نموذجي للحبكة : تقديم الشخصيات، وتوضيح الموقف، والصراع وتصاعد الحدث ولحظة الذروة و حل العقدة .
وربما كان من الخطأ أن نستنتج من هذا أن “كاسبار “في النهاية، يجب أن تحتوي سردا ضمنيا . ولا يجب أن نستنتج أن هناك مثل هذا السرد ولكن (هاندكة ) يفشل في يجعله معلقا ( أو يسمح به ) . فوجود نموذج لتطور الحبكة لم يعد يستتبع تلقائيا أن هناك قصة ذات حبكة أكثر من وجود صيغ حبكة منفصلة . ويمكن للمقطوعة الموسيقية نفس الشعور بالتطور المحاكي لكننا لن نستنتج بالضرورة أنه عند الاستماع، سمعنا قصة ذات صلة بالحدث الذي يرتبط بحدث بنفس نوايا الشخصية . والمطلوب أكثر من هذا، لوضع بعض الاحداث حتى يكون لها حبكة قصة هو اشارة الي قصد الفاشل أو المتحقق للبشر ( أو الأشياء التي يمكن جعلها مثلها) الذي يربط الأحداث بالأسلوب الذي نفهم أنه سرد . ولكن تمثيل هذه النوايا هو ما نجح (هاندكه ) في تجنبه طوال المسرحية . فما لدينا علي مستوى البنية يتوازى مع ما شاهدناه علي مستوى الأحداث . وكما أن “كاسبار” لا تفعل بل تمثل الأفعال، فان المسرحية في مجملها تقدم تسلسلا نمطيا للأحداث التي هي قصة ذات حبكة بل تقدم تمثيلا فارغا لاحتمال وجود حبكة . ف (هاندكة ) يلعب بفحص المحتمل طوال المسرحية .
خامسا – قياس انجاز هاندكه :
لقد جادلت حتى الآن بأن ( هاندكة ) اشس نجح في تحقيق قصده في “كاسبار”، سواء تم اكتشافه في المسرحية نفسها أو تلك التي تقررت في مكان آخر . فقد تم التوصل الي هذا الاستنتاج من خلال تحديد مكان استخدامات ( هاندكة) في بناء الفكرة الأساسية لمسرحية “كاسبار” من كتاب ( فيتجنشتاين) عن طريقة تحليل كيفية استخدامه . ولكنني أعتقد أيضا أن تأمل كتاب “بحوث في فلسفة المنطق” يمكن أن يوضح لنا علي حد سواء كيف نجح ( هاندكة ) فيما شرع في انجازه وقدم أيضا وسيلة نستطيع بها أن نقيس ذلك باعتباره انجازا . ولاسيما أنه يمكن أن يسمح لنا بطريقة لاكتشاف ما هو نوع المتطلبات، التي يمكن أن ترتبط بتبني مجموعة من الأفكار والنماذج المقترحة بواسطة بنية وبرنامج كتاب “بحوث في فلسفة المنطق” .
والمكان الذي نبحث فيه عن هذه المتطلبات هو كتلة الأدب المتنامية التي توثق وتحلل الطرق التي يفقد بها الناس، أو لن يكسبوا في بعض الحالات، القدرة علي التعبير عن الحقائق المهمة في حياتهم . ولاسيما أن المهم في هذه المهمة هو أن مجال الأدب الذي يكتشف امكانية أن الارتباط بنظرية فلسفية معينة يمكن أن يعوقنا. اذ تركز أغلب هذه الاكتشافات علي الوضعية المنطقية وتراثها . وهذا ملائم هنا لأن نظرية اللغة التي كانت تعمل بها حلقة فيينا والوضعيين المنطقيين الآخرين هي تلك النظرية التي استخدمها ( فيتجنشاتين) بشكل جوهري في كتابه . وربما تكون غايتهم مختلفة عن غايته – وربما رأى أهمية للمسكوت عنه الذي أنكروه – ولكن آليات المعنى كانت مماثلة . واذا كانت هناك أشياء في حياتنا تمنعنا نظرية فيتجنشتاين من توضيحها، فسوف يكون ذلك مهما في تقديم مقياس لا نجاز ( هاندكة ) في مسرحية “كاسبار “.
ذلك يعتمد بالطبع علي ما اذا كان ( هاندكة)، أو الى أي مدى أخذ من صور نظرية فيتجنشتاين والتي أدت الي الفقر موضوع السؤال . لأنه من الواضح أن تحويل (هاندكه) للنظرية علي نفسها، وهي الاستراتيجية الرئيسية في مسرحية “كاسبار”، لا يشير الي أكثر من مجرد شكوك (هاندكة ) حول سمة الاغتراب في النظرية المنسوبة الي كتاب “بحوث في فلسفة المنطق “. ومع ذلك، في هذا الاستنتاج سوف أوضح ثلاثة مجالات تضعف قيها نظرية المعنى – حتى ولو في الشكل النقدي لها الذي نجده في مسرحية “كاسبار “– قدرة ( هاندكة) علي التعبير عن صور الاغتراب عن اللغة المهمة والتي شرع في تقديمها في المسرحية .
• الاغتراب واخفاقات القصد :
المجال الأول الذي أود أن أبحثه هو اخفاقات القصد . فبالتأكيد هناك مقدارا من النوايا والاخفاقات اما في كاسبار أو في كتاب “بحوث في فلسفة المنطق “. ورغم ذلك، في كليهما، صورة القصد ذات الصلة بالمعنى يمكن تصويرها باعتبارها قصدا لكي تشير الي الاسم . وفي المقابل، يجب تصوير فشل القصد باعتباره فشلا لضمان الاشارة . وليس من الصعب رؤية هذه العلاقة بين هذه الصورة والاغتراب. فهناك من ناحية مفهوم قديم للعلاقة بين التسمية والسيادة . ومن الناحية الأخرى ينتج تناول ( هاندكة) لنظرية المعنى، وقلبها علي نفسها، الحجة التالية :
(أ) اذا كانت كل لغة هي هي لغة ثانية، فان كل تعليم للغة هو اكراه .
(ب) اذا كانت كل لغة لغة ثانية، فيجب أن تفهم اللغة باعتبارها وسيطا تقنيا بين الفكر العالم .
(ج) (في رأى نظرية المعنى عند فيتجنشتاين) كل لغة هي لغة ثانية .
وبالتالي :
(د) (في رأي نظرية فيتجنشتاين) لا يمكن أن يكون التعبير عن الفكر باللغة حقيقيا، بمعنى التعبير الحقيقي عن الشخص الذي يعبر عن فكره .
توضح المنطلقات هنا أن اللغة التي استخدمها لا يمكن أن تكون تحت سيطرتي أبدا لأنها دائما صيغة خارجية تحت سيطرة الذين يقومون بتدريسها . وبالتالي فان التعبير عن الفكر يتم توسيطه وتشويهه دائما بواسطة مسائل النفوذ . فأنا دائما مغترب عن لغتي . ولن أستطيع أي اسمي ما أريد أن أسميه – بمعنى أنني لن استطيع أن امنحه اسما أسيطر عليه .
واذا كنا متناغمين مع الصعوبات التي تعترض نظرية المعنى، فيمكننا أن نرى بسهولة أن هذا التفسير الذي قد يكون جذابا علي عدة مستويات، سواء كان مخطئا أو غير كاف لفهم أشكال اغتراب فشل القصد . فعلي المستوى التقني يمكن أن نلاحظ أنه علي الرغم من المعترف به أن السلطة يمكن أن تمارس علي الآخرين بجعلهم يقبلون وصفنا للأشياء والأحداث .ونظرية المعنى ليس لها ببساطة مصادر لتمييز الاستمرارات الفعلية أو الانقطاعات بين الأسماء والصفات . وتكمن المشكلة الأكثر خطورة في حقيقة أن الصورة في كتاب فيتجنشتاين مغامرة لتوضيح الحقائق. ولكن، كما رأي فيتجنشتاين فيما بعد، فان اللغة هي متاهة أنواع النشاط المختلفة، فهي مجموعة متنوعة من أشكال الفعل التي لها روابط ( وانفصالات) مع رغباتنا ونوايانا غير اللغوية وقبل اللغوية . ووصف لغتنا يتطلب وصف حياتنا . فمن السهل أن نرى مجموعة من النوايا المرتبطة بما نقصد أن نفعله بامتداد معين للغة هو أمر أكثر ثراء من مجرد قصد تسمية أي شيء للاشارة الى مجموعة من الحقائق . وبالنسبة لتلك الحالات التي لا يتحقق فيها الاغتراب أو النوايا غير المدركة، فان ذلك يأخذ أيضا أشكال متنوعة، ليست كلها قابلة للاختزال الي فشل لاصلاح اشارتنا الي الأسماء الموجود لدينا فعلا . فمثلا، ربما نشعر بشكل واع بالحاجة لفعل ذلك . ومن الجدير بالملاحظة أن حالة من هذا النوع لايمكن تأملها بشكل مفييد كمشكلة تنشأ عن اللغة التي هي دائما لغة ثانية : هنا يمكن مساعدة المشكلة بامتلاك شيء مثل اللغة الثانية، بمعنى امتداد جديد للغة الأولي المجهولة حتى الآن .
• الاغتراب كخسارة :
أولئك الذين يهتمون بفهم مالذي يتعلق بالاغتراب، بما في ذلك الاغتراب عن لغتنا، يجب أن يهتموا بتفسير حقيقة أننا عندما نصبح واعين بهذا الاغتراب فانه يمارس باعتباره خسارة . ففي وقت مبكر من عام 1844 أكد ماركس علي هذه الفكرة باستخدام مصطلح “التغريب estrangement للظواهر . فما يجعل تصوير اللغة كلغة ثانية جذابة مبدئيا كنموذج للاغتراب، وكذلك كطريقة للتعبير عن أنواع الخسارة ذات الصلة، هو بالتحديد أن اللغات الثانية اما لا يمكنها أن تملك شعور الحميمية التي نملكها تجاه لغتنا أو يمكنا بعد عدة سنوات أن تكون لها نفس الحميمية. ولكن هذا الملمح يتم انكاره فعلا في نظرية الصورة التي تعتمد علي نظرية تعتبر كل لغة هي لغة ثانية . والمفارقة نفسها الي يمكن استخدامها لتفسير الاغتراب بأنه خسارة لحميمية محتملة هي نفسها مفقودة .
تتعلق مسألة الاهتمامات ذات الصلة بالطرق التي يكون بها العبير عن المعنى “ممتلئ” أو “فارغ “. تأمل مثل تعبير “لا تحكم علي الآخر حتى تكون في مكانه” فبالنسبة لمعظمنا نحن الذين بدا لهم هذا التعبير ممتلئا بالمعنى والحكمة، يجب أن يبدو الآن ضعيفا وتافها . فنحن لا نمشي أكثر مما اعتدنا . ولذلك لا نرى العالم (عالمنا أو عالم الآخرين ) في سرعة المشي . فلدينا نحو من الحنين المصاحب لما نعتبر أنه الحكمة المرتبطة بالتعبير . ولكن كيف ننقل هذه الحكمة الي أطفالنا ؟ . “لا تحكم علي الآخر حتى تعود الي المنزل من المدرسة في سيارة من نوع الهوندا ؟ . مرة ثانية، من الجدير بالملاحظة أن أنواع فقدان المعنى المقصود هنا يحدث في لغتنا الأولي . لا يوجد تمثيل في اللغة الثانية سواء ضروري أو مفيد في تفسير اغتراب من هذا النوع .
• الاغتراب والوعي المزيف :
تزعم اعتبارات الاغتراب الكلاسيكية أن أولئك الذين اغتربوا ولكنهم غير واعين بعملية الاغتراب لديهم نوع من الوعي الزائف . فهناك اعتبارات متنوعة للكيفية التي نفهم بها هذا بالتفصيل . يبدو أن كل ما يتعلق بذلك ينطوي علي قبول الناس،لمجموعة من المعتقدات عن أدوارهم وهوياتهم والمعوقة لهم علي حد سواء، وكأنها دقيقة ومرضية، بوصفهم وسطاء بشريين حقيقيين وفعالين . ومرة ثانية، عندما يكون الاغتراب المعني هو اغترابنا عن لغتنا، فان صورة اللغة كلغة ثانية هي في حد ذاتها نموذج جذاب في البداية ولكنها تهزم نفسها في النهاية في تحليلها للظواهر .
والأهم من هذا الاعتراض التقني رغم ذلك هو حقيقة أن أنواع المعتقدات المرتبطة لاوعي الزائف لا يمكن تمييزه في نظرية المعنى عند فيتجنشتاين . لأنها ليست معتقدات، أو ليست مجرد معتقدات، هو “ما هي القضية “ولكن حول ما هو مهم في الحياة وحول كيفية ارتباط بما هو مهم . اذ تؤكد نظرية فيتجنشاتين صراحة أن ما له قيمة لا يمكن التعبير عنه مباشرة . وعلي نحو مماثل تم تقديم “كاسبار” علي أساس أنه غير قادر علي التعبير عما هو مهم من خلال اللغة نفسها . وبالنسبة لكيهما، فان ما هو مهم لا يمكن التحدث عنه . اذ يمكن تناو ل مسرحية (هاندكة) “كاسبار” لكي توضح لنا أنه اذا كانت هذه النظرية صحيحة، فلا يزال يتعين علينا مقامومة القول ان “ما لا يمكننا التحدث عنه يجب أن نتجاوزه في صمت . ولكن اعتبار الوعي الزائف الذي يصاحب الاغتراب في كثير من الأحيان لا يمكن أن يحدث في هذه الشروط . فالوعي الزائف ليس الصمت ولا الاذعان بالصمت علي المسكوت عنه . ولا تجاوز الوعي الزائف هو مسألة مقاومة الصمت. اذ يفترض كل من الوعيالزائف والتغلب عليه الوضوح – الوضوح اليومي العادي – للتعبير عما هو مهم لنا .
وبالتالي يجب أن نختم بتقييم مختلط ل “كاسبار” . فلا شك أن المسرحية تحقق الأهداف التي شرع ( هاندكة) نفسه فيما يتعلق باختيار ( وتجنب) وسائل مسرحية بعينها . ولكن لأنه أخذ الكثير من نظرية المعنى في كتاب فيتجنشتاين لكي يضمن هذه الاختيارات، فلا بد أيضا أن تكون أقل تأثيرا في انجاز الأهداف الايدلوجية الأوسع نطاقا في خدمة اختيار الوسيلة التي تمت بها .
-----------------------------------------------------------------
• جيمس هاميلتون يعمل رئيسا لقسم الفلسفة بجامعة كانساس في منهاتن . وقد سبق أن قدمت له جريدة مسرحنا عدة مقالات في اعداها السابقة .
• نشرت هذه الدراسة في مجلة Journal of Dramatic theory and literary criticism .