المسرحية الشعرية «الشــــــــراك» ما بين الأصالة والمعاصرة يتألق المسرح الشعري من جديد

المسرحية الشعرية «الشــــــــراك» ما بين الأصالة والمعاصرة يتألق المسرح الشعري من جديد

العدد 835 صدر بتاريخ 28أغسطس2023

ربما يعد مسرح شوقي الشعري وما تلته من محاولات تعد على الأصابع، معتمدا على عدد قليل من التجارب، حتى كاد أن يختفي هذا الفن المسرحي الشعري، الذي لم يجد من يُشجعه وينقله إلي خشبة المسرح، التي يفضل القائمون عليها المسرح النثري عامة، وما كتب باللغة العامية التي تلاءم المنطوق الشعبي خاصة، قانعين أنفسهم ـ خطأ ـ بأن المسرح الشعري المكتوب باللغة العربية الفصحى، لم يعد يتماشى مع أذواق الناس الذين انهارت صلتهم بلغتهم العربية الفصحى، ورأوا في العامية فسحة أكبر للفهم والإدراك ومن ثم الضحك والسخرية المبتذلة التي أمست سمة المسارح الخاصة.
 من خلال ذلك، فإن أية تجربة إبداعية في المسرح الشعري تُعد كسباً لذلك الفن الذي كاد أن يندثر مما يعيد لنا الثقة بأن هذا الفن موجود ولو بحدود ضيقة.
 من هنا يأتي ترحيبي بجرأة الشاعرة المبدعة “صفاء البيلي” التي اشتغلت على المسرح الشعري بلغته العربية الأصيلة والخفيف السهل والميسر من بحور الشعر الخليلي فكانت مسرحيتها “الشراك” الصادرة عن كتاب الاتحاد حيث يضم الكتاب تجربة مسرحية مهمة تماهت بين الأصالة التي ارتكزت المسرحية عليها من خلال قصة الشاعر السوري “ديك الجن الحمصي” وعشقه لجاريته ورد وتدخل الوشاة يرسمون له شراك الغيرة على حبيبته التي تشير له أنها على علاقة مع خادمه مما دفعته الغيرة لأن يقتل ورد والخادم ليعيش ما بقى له من أيام متجرعاً كؤوس الندم والحسرة على ما جنته يداه.
 هذه القصة تسقطها الشاعرة بشكل معاصر مع العاشقين خالد وورد ودسائس ابن عمه دياب الذي راح ينصب الشراك للإيقاع بينهما، وما بين الأصالة والمعاصرة ينمو مسرود القصتين المتماهيتين شكلا وموضوعا في بنية نص مسرحي شعري كتبته المبدعة جوابا لسؤال كبير ومهم: “لماذا الشراك دائما منصوبة للمحبين؟ وفي اعتقادها: إننا نكرر نفس أخطائنا السالفة، ويقيني إننا واقعون في الشرك... فهل نحن قدريون.. أم أغبياء؟” ص10.
     وتخرج المبدعة عن الأصول المسرحية المتعارف عليها فبدلا من أن تقسم نصها إلي فصول من المفروض ألا تتعدى الأربعة، فإنها تقسم نصها إلي سبع محاولات أخذت كل محاولة سمت الفصل الذي منذ بدايته اتضح المدى الذي وصل إليه غيرة دياب من ابن عمه حمدي الشاب الشاعر الوسيم المشهور الذي يحب وداد الرقيقة الجميلة فتتأجج نار الغيرة في قلبه راسما لهما الشراك لان يكرها بعضهما ويفترقان حتى يخلو له الجو ويتقرب من وداد التي يحبها.
“ دياب: اتركها يا حمدي، افسخ خطبتها ودعها.. هي لا تستأهلك فكثيرات هن الأجمل منها.. تبغينك.. تتمنين رضاءك.
   حمدي: لكني لا أهوى إلاها...
                 فوداد بنت مخلصة ونقيةٌ.
                 تذوب وصالا إذ ألقاها....” ص18.
ومع هذا يستمر دياب في زعزعة حب حمدي لوداد زارعا بذور الشك بينهما.
“ دياب: كانت تتقابل في نفس مكانكما
           بحبيب...
           بل بأحباء أُخر
           هل ترغب أن اذكر لك أسماء البعض؟
           أم إنك ستقول بأني أكرها؟
           عموما.. اقبل أسفي فالأمر يعود إليك.. يخُصّك وحدك
           لكني أكرر.. حتى لا تزعم أن هنالك
           من لم ينصحك بإخلاص
           هي... هي ذئبة يا حمدي.
   حمدي: “مندهشا” يااااااه
              كل هذا الحقد تحمله لها؟
              لماذا؟” ص20.
ويستمر دياب في وضع العراقيل ودس أسافين الفرقة بين حمدي ووداد يمرض صديقهما المشترك فوزي، يذهبان لزيارته فيتفاجآن بوجود وداد عنده فينتهز دياب الفرصة.
“ حمدي: وداد؟ عند فوزي؟ أعز صديق لي، وفي هذا الوقت لست أصدق.
دياب: أعتقد بأن الموقف لا يحتاج إلي تفسير... لو مكانك لغسلت العار بكفي لأريح العالم من سوءتها تلك الملعونة..” ص33.

في المحاولة الثانية يأخذنا النص إلي الصحراء وصوت يتردد في كل الأنحاء، بخوف شديد.
الصوت: الأمان.. الأمان.. يا ديك الجن.
           الأمان.. الأمان.. يا شاعر الشعراء.
يتكرر الصوت وديك مذهول يتحسس جسده بأسى، ينظر إلي نفسه متذكرا:
“ديك الجن... آه يا ديك الجن، عمر مضى.
          قد صارت الأشياء عندي كالسراب.
  وشموس حبي تنزوي تحت التراب” ص40.
يستمر الحوار بين الصوت وديك الجن ص40ـ 43 حتى يأتي:
صوت امرأة: عذبت روحك مازلت في قلبي تفيض بنور حبك
أنا ما عشقت سوى عيونك يا أليفي.. أنا لست حاقدة عليك يا شمس حمص حلب.. يا شمس روحي المستكينة ص45
 ويستمر الصوت على مساحة كبيرة من الحوار مع ديك الجن ص43، 47، حتى يدخل إلي النص المسرحي عنصر جديد هو المحقق الذي جاء ليُحقق بموت ورد ينهض حوار طويل بينهما يستغرق عدة صفحات وديك يروي حبه لورد خادمه الذي كان معه بالأمس يصطاد جديا: “آه... كان رجلا يا صديقي لم يكن عبدا لي، كان رجلا عبقريا كان عندي مثل حرّ” ص51.
“ويجثو على ركبتيه صارخا بهستيريا بينما المحقق منزوٍ يسجل في تأثر... ورد... ورد... ورد...” ص60.
في المحاولة الثالثة يفتح الستار على حانة: عبيد، جوار صاحب الحان يراقب ديك الجن الذي يُبدي اهتمامه بورد الساقية وصوت المغنية يعلو الحانة، ديك الجن مقتربا من ورد: “فلتملئي كأسي بالشهد والأنس” يتداخل المحقق الذي يسأله: قبلت وردا.. هه.. كانت فتاتك علمتها الحب الشهي.. هل راوغتك.. أم طاوعتك ص63.   ويستمر الحوار بينهما وديك الجن يردد “أهواكِ يا ورد... أهواكِ... كل النساء إذا ذكرن سواسية إلاك يا بدر الوجود.. عيناك أم قمران ساطعان، شفتاك أم نهران من عسل وشهد يجريان؟ أواه يا حلمي... الجميل” ص65، ويعرض عليها الزواج ويطلبها من صاحب الحان “سمرون”: كل زبائني متعلقون بوجهها وبرقصها وهلوما جرا اجمع ما يبعثره الزبائن تحت قدميها دنانير ذهب وتود أن أعطيها لك” ص72، ويستمر الحوار بينهما حتى يوافق على أن يأخذها من “سمرون” الذي وقع على الصك مرغما.
ديك الجن: هي زوجتي ورتاج قلبي. ص78.
ورد: ها هو الأمل البعيد، أراه حقا واقعا، كم ذا حلمت ببعض جدران لتجمع شملنا، نلملم وجد ليلاتٍ طوال، مثلما موج البحار بل أكثر.. أكثر ص79.
في المحاولة الرابعة يظهر العراف فيسأله ديك الجن: “يا سيدي العراف اخبرني، ماذا تقول طوالعي؟ ماذا سيحدث في غدي؟
بحزن: الموت يا ولدي... ص89.
تعلق فوق رأسك في ردهات عمرك، مثلما يتبعك ظلك
بكرة.. الموت؟.. الموت؟ وفي صدرك ستموت قتيلا.. فاعلم يا ولدي سيقولون كلاما أفاقا عنك، وعن نزوات لم تألفها.. لم تقربها في عمرك أبدا، عن أحلام صديانة.. عن عشق أرداك قتيلا ص90.
في المحاولة الخامسة.. سوق دمشق: جوارٍ عبيد تجار راغب ابن عم ديك الجن يتجول مشيرا لديك الجن الذي تجمع حوله الفاتنات.
راغب: لإحدى الجواري مشيرا إلي ديك الجن
هذا ابن عمي... دأبه يجري وراء القاصيات الفاتنات
فإذا أتين متيمات، هائمات فإنهن إلي البوادي والحضر وإذا ثقلن عليه يهم شعرا رائعا فيهن حتى أنه قد يجعل الصخر الجلمود يلين كالماء الزلال. ص97.
الجارية: بالحق أشهد، أشعاره تشجي قلوب الجاريات مع الحرائر لو مسها الشوق استهامت في سماه. ص98.
ويتذمر راغب حقدا وحسدا: “كل هذا الحقد تحمله بقلبك
     أو كل هذا البغض له.. مسكين.. مسكين يا ديك الجن” ص100.
ويشعر أن ديك الجن يقتله بشعره وتفوقه وحب النساء له بينما تعافه حتى العوانس ص101، ويلتقي راغب مع المحقق وينذره لأنه سيضيع ديك الجن وسيتوه في الصحراء ويسأله المحقق: “ماذا ستكسب من سقوطه” فيجيبه: خمر الأحبة والعناق ص104.
في المحاولة السادسة: منزل ديك الجن، يقبل راغب، يدق الباب تفتح له ورد، يهم بالدخول فتمنعه بشدة، يدفعها ويدخل:
ورد: أفٍ.. ما جاء بك؟ خرج ابن عمك منذ ثانية فالحق به إن كنت تبغي رؤيته.
راغب: “مقتربا منها بمكر” أعرف.. لو كان موجودا هنا ما كنت جئتك يا وردتي. ص108
يحاول أن يقترب منها، يتودد إليها فتصده غاضبة حتى يصارحها بأن “هذا الرجل كم أكرهه، أحقد عليه.. نعم أحقد عليه، لأنه سرق السعادة من يدي، مذ مدّ يده فوق فستان الزفاف يشيل طرحتك الشفيفة، بانت ملامحك التي ما شفت عمري مثلها ص109
 ويستمر في وصفها ويحاول تقبيلها: “ها أنت مجنون، تخرف؟ وفقدت رشدك لا محالة.. يا زوجي أين أنت يا ديك الجن؟” ص111
 ويستمر في محاصرتها وتُهدده بأنها ستخبر ابن عمه.. فلا يُبالي ويستمر الحوار بينهما ويتدخل المحقق مشيرا إلي سمرون وراغب ويخبره إنهما يتآمران عليه “سيطلقان على حياتك نار حقد حارقة وسيوغران الآن صدرك، العار عارك يا أخي، العار عارك يا بن عمي وليس غيرك” ص119.
خانتك ورد يا حبيبي ومع من آه مع بكرة صفيك ص132، ويظل يوغر صدره حتى يصدق الكذبة ويقتل وردة وخادمة بكرة.
صوت وردة: سامحتك يا حبيبي، فلتشهدي يا حمص يا بغداد يا كل المدن سامحت من أهوى أنا سامحته.. سامحته.
بكرة: لم سيدي؟ ص133.
المحقق: “أو.. هل فشلت؟ كل الخيوط مسكتها، هنا في يدي، لكنها كانت شراك الحقد تحصد كل شيء رائع.. أيكرر التاريخ نفسه؟ هل ثم خطأ قد حدث؟ أنا لا أصدق.. أنا.. لا.. أصدق” يبكي بشدة بينما ديك الجن ملقى وقهقهات راغب لا تزال تملأ المكان ص134.

في المحاولة الأخيرة: تعود بنا إلي منزل فوزي حيث يلقي حمدي ما بيده، وداد تبكي ودياب ينهار في إحدى الزوايا.
فوزي: ما أجمل أن يصبح كل منا حضنا للأخر يمنحه الدفء وأحاسيس الحب الخالص “يلف ذراعيه حول حمدي “كنت أعرف قدر حبك للحياة، قدر صدق مشاعرك، قدر انتمائك للحبيبة للوطن وكنت أعلم بالمكائد...
حمدي: ما عدت أعرف يا صديقي أي شيء.. كل الوجوه تداخلت ص136.
ويستمر الحوار بين فوزي وحمدي وهما يمارسان بسط رؤية كل منهما على الآخر في الوقت تحكم وداد عقلها ويلجأ كل من حمدي ووداد إلي تحليل شخصية الآخر ص142، ويشعر دياب بخطئه وفشله في قتل الحب بين حمدي ووداد فيقرر: “فدعوني كي أخرج حالا، لن يبصر أحد منكم وجهي بعد الآن.. أنا أستحق الطرد من جناتكم أخطأت جدا في حقكم” ص147، ويصرخ حمدي في النهاية: “لو طهرنا فردا واحدا، لو أنقذنا روحا واحدة من غضب قاتل؟ سنقول نجحنا، قد جربنا الأمر على شخص واحد، لكن ما جربناه على كل الناس.. ما رأيكم؟ ماذا ترون؟ “للجمهور” إظلام تام وليفهم كل ما يبغي رغم انف المعترض.. رغم انفي ص155.
ليُسدل الستار على محاولة مسرحية شعرية جادة نهضت على تماهي الأصالة من خلال قصة الشاعر ديك الجن الحمصي متماهية مع قصة معاصرة كان الحسد والغيرة والحقد على نجاح الآخر سببا في نصب الشراك لهم حتى وإن كانوا أولاد عم.
     لقد حملت المسرحية كثيرا من القيم التربوية والأخلاقية التي تنقد الكراهية والحقد والغيرة فقد استطاعت المبدعة أن توظف ذلك بمهارة واضحة في القصتين القديمة والحديثة قامت على بحر الهزج الخفيف والعامر بالموسيقى والحركة الإيقاعية ذات الجرس الجاذب ولا شيء كان يعكر صفو تلك الانسيابية غير الحوار الطويل بين طرفين كان في بعض المواقف يأخذ عدة صفحات وهذا مربك للمثلين المتحاورين وللمتلقين الذين غالبا ما يكونون عاجزين عن متابعة نصية الحوار الطويل وبلغة فصحى وإيقاع شعري
ومع ذلك تبقى المسرحية إحياءً للمسرح الشعري الذي افتقدناه منذ زمن والذي يُعيدنا إلي تلك النصوص الشعرية الحافلة بالحركة الموارة بالموسيقي واللغة الشعرية ويكفي المبدعة “صفاء البيلي” هذه المبادرة الطيبة التي نتمنى أن تتكرر ربما تكون حافزا للشعراء أن يعودوا إلي أحضان هذا الفن الجميل أحضان المسرح الشعري الذي نحن بأمس الحاجة إلي إحيائه كتابة ومجسدا على خشبة المسرح وسيلقي من الجمهور ما يناسب هذا الفن من الثناء والحب والتقدير.


فرج مجاهد عبد الوهاب