لم يسقط إيكاروس

لم يسقط إيكاروس

العدد 555 صدر بتاريخ 16أبريل2018

ضمن احتفال دار الأوبرا المصرية باليوبيل الفضي بمناسبة مرور 25 عاما على تأسيس فرقة «الرقص المسرحي الحديث» الذي أسسه «وليد عوني» عام 1993م، تم إعادة تقديم العرض الأول لهذه الفرقة وهو «سقوط إيكاروس»، حيث يتأسس العرض على تقديم معاصر لشخصية إيكاروس في الأساطير الإغريقية الذي احتجز مع والده «ديدالوس» كبير المخترعين نتيحة غضب الملك مينوس عليه في متاهة، لتدفعهم هذة الحبسة للتفكير في كيفية الهروب منها، فخطرت لوالده دايدلوس بأن يقوم مع ابنه إيكاروس بجمع الريش ولزقها عبر الشمع لصناعة جناحين ليطير بها بهدف الهروب من المتاهة، ونصحه والده بألا يقترب من الشمس حتى لا يذوب الشمع، وأخذ إيكاروس في الطيران وتجاهل نصيحة الأب وسقط صريعا.
وفي سعي وليد عوني تقديم الأسطورة بصورة معاصرة لجأ إلى تفكيك شخصية إيكاروس لتجسد حالات مختلفة، تكشف عن أوضاع الإنسان العربي المعاصر في لوحات فنية مختلفة، وتربط بين جميع اللوحات الفكرة الأساسية للأسطورة وهي (الطيران)، والجملة المنطوقة والمتكررة في كل لوحة هي (عايز أطير) ينطقها كل من يقوم بدور إيكاروس. تعددت اللوحات المقدمة في العرض المسرحي، فكل لوحة تقدم شخصية إيكاروس داخل العرض، كل إيكاروس منهم يريد الطيران ولكن تختلف الأهداف والأسباب.
لقد حوّل عرض "سقوط إيكاروس" المتاهة المادية في الأسطورة الإغريقية إلى متاهة رمزية تكشف عن مأساة الشباب العربي المعاصر ومعاناته التي تسبب وتكبل حريته، واقتران الحرية بالحلم المبتغى ليتحول طيران إيكاروس هنا إلى هدف (الحرية) وحلم الوصول لها من أجل واقع أفضل. فمن لم يرد الهجرة خارج بلاده يحلم أن يطير حرا داخل بلاده.
أدخل عوني فكرة السفر وحلم الهجرة للشباب عن طريق فضاء الطائرة والمضيفتين وشنط السفر، ليطرح عوني إشكالية حلم الهجرة لأغلب الشباب في الوقت الحالي ويلمس جزءا حقيقيا من حقائق المجتمع المصري، ليكون هذا الجزء هو نفسه المتناص مع شخصية «إيكاروس» الذي يريد الطيران. إضافة شخصيتي المضيفتين التي كانتا بمثابه المهدئ العام للأجواء المضطربة وأمل في عدم سقوط الطائرة. فسوء الأحوال مهدد لانقطاع الأمل، لكن ظهور المضيفتين في أغلب لوحات العرض مؤكد دائم على أنه لم ينقطع بعد.
ثم تأتي لوحه الإرهاب التي تلمس حالة البلاد العربية حاليا ودخول داعش ضمن الأحداث المسرحية وما تتعرض له البلاد العربية من سقوط، لتظهر حالة تناص جديدة بين البلاد العربية وإيكاروس الذي يريد الحرية والتخلص من السجن وتتحول لغرض التخلص من المستعمر للوطن.
كما قدم أيضا نوعا مختلفا من أنواع الطيران وهو الطيران الروحاني وهدف الالتقاء بالذات الإلهية، وزهد الذوات والأغراض الإنسانية، بعرضه لرقصة صوفية أداها «عوني» بنفسه وهو يتطهر عن طريق الوضوء ثم يقوم بالدوران وإقامة طقس صوفي مصاحب لموسيقى غربية غير مكملة للحالة الصوفية المرسومة بصريا، فقصدية كسر الحالة ترسم حالة جديدة وهي تعارض الأفكار في بعض الأحيان لمن يريدون الطيران أو من ينادون بالحرية وإشعال ثورات دون فهم مبادئها، أو رسم مخطط واضح بعد حصولهم على الحرية المطالبين بها، وسوء استخدامها في بعض الأحيان. ولعبت الإضاءة دورا بارزا في العرض لتأكيد خاصية الحلم عن طريق الإضاءة ومزج وتداخل الألوان المبهجة وكأن الطيران هو الحلم الجميل الذي يحلم به منادو الحرية.
لجأ وليد عوني إلى مبدأ «رقصة التعارضات» الذي يعد من ضمن المبادئ البراجماتية لأنثروبولوجيا المسرح وتحريك الجسد في أوضاع انشدادية متعارضة ليؤكد على فكرة التناقضات، سواء كانت تناقضات داخل النفس الواحدة أو اختلافات في حركات الراقصين فيما بينهم، لتظهر تناقضات بين النفوس أو الشعوب في مكان واحد أو في بلد واحده. ليكون الطيران في بعض الأحيان هو الهدف وأحيانا أخرى هو الوسيلة للوصول للهدف.
فتعارض الآليات المسرحية بعضها مع بعض داخل اللوحة الواحدة من ألوان وموسيقى وحركة، بمثابة تعارض أفكار واضطرابات نفسية ترسم داخل اللوحة الواحدة لوحات جديدة فتارة تكون أجساد الممثلين مفعمة بالحماس، وتارة أخرى ذو حركات بطيئة تصاحبها إضاءة خافتة لتظهر أجسامهم على هيئة مسخ وكأن حلم الطيران هو من أهلك هذه الأجسام وجعلها منحولة باهتة.
وتعتبر مشاركة عوني بالرقص داخل العرض، ليدخل نفسه في حالة تشابه مع إيكاروس، وكأن عوني يسرد مأساته على الطريقة الأسطورية بشكل راقص فوق خشبة المسرح، بعد هجرته من لبنان وسفرة لأوروبا مخزولا بعد أول مرة قدم فيها «سقوط إيكاروس» ليكون تقديم عرضه مرة أخرى، وبعد مرور 25 عاما خير دليل على انتصار فكرته وقوة إيمانه بها، وأن إيكاروس حتى وإن سقط مرة يستطيع أن يعود للطيران والتحليق، ليكون «عوني» نفسه هو الأمل أمام كل من سقطوا أو من أوشكوا على السقوط في العودة من جديد. وتجديد طاقة الأمل هذه عن طريق الرقص، فالرقص وحركات الجسد لغه مشتركة بين الكثيرين، ولغه عامة يترجمها كل حسب ثقافته ورمزا للأمل وحيوية الجسد.
فإذا يئست يوما تذكر دوما «سقوط إيكاروس».

بطاقة العرض
اسم العرض: سقوط إيكاروس
جهة الإنتاج: فرقة الرقص المسرحي الحديث
عام الإنتاج: 1993
تصميم وإخراج: وليد عوني

 


منار خالد