في العرض المتكامل «جنة هنا» ... النسوية لا تحارب الرجل

 في العرض المتكامل «جنة هنا» ... النسوية لا تحارب الرجل

العدد 695 صدر بتاريخ 21ديسمبر2020

تجري في مسيرة العروض المسرحية كثير من المياه في فترات قصيرة، ويصبح الوقوع على مركز الثقل في أي عرض مسرحي نوعا من البحث عن إبرة داخل كومة من القش، ومهما كنت من المتحيزين للنص فلن تراه في الصدارة وقت العرض مهما امتدحه الآخرون، وغاية الأمر أن أجواء العرض في مسرحية « جنة هنا» جاءت مؤسسة على نص ثري لغويا ، ومشحون دراميا ، ويجسد خبرة طويلة لكاتبته (صفاء البيلي)؛ حيث تحولت كثير من نصوصها لعروض، فأصبحت تكتب وعينها على العرض، تقودها الدراما قبل اعتبارات أخرى، وتتقشف بلاغيا وتبالغ في التوتر الدرامي، دون أن يمنعها ذلك من اختيار البناء الفني المناسب لنصها المُخطط له بعناية،  والمكتوب بتقنيات تناسب مكان العرض ذاته.
في المسرحية نحن أمام ابنة (جنة)، تعيش على أمل خفي بعودة أبيها الذي لم تره، تناطح أمها (هّنا) والتي تعيش في الماضي بكامل وعيها، ولا وعيها، وتهاجمك المسرحية باعتماد التنافر الظاهري الذي لن ينطلي عليك مع استراق النظرات بينهما في مكان واحد صغير، ومع اللحظات الأولى تجد نفسك متورطا في الحكاية برمتها، فيبدو-وليس كل ما يبدو حقيقيا- الجزء الظاهر من الصراع قائما على التخلص من السرير النحاسي العتيق، فتبدو الابنة حريصة على بيع السرير النحاسي بينما تصر الأم على الاحتفاظ به؛ بما هو موروثها عن جدتها، ولأنه شاهد عيان على معظم أفراحها مع الزوج الغائب، هكذا يتدرج العرض وصولا لنقطته المركزية التي تنطلق من» غياب» الأب، وتعود إليه في الوقت ذاته. قد ترى في النص خلفية شفيفة من أعمال بالغة الحضور في القصة القصيرة من مثل» السرير النحاسي» ليحيى حقي، والحديث عن  السرير الموروث بكل أصالته، وتجسيده لمراحل حياتية مبهجة، وتوقع النهاية عليه.
وقد اعتمد النص في بنيته على التلاقي الذي يحتاج بصيرة؛ فأوراق الخطابات -مثلا- الذي تعيبه الابنة لعدم جدواه يعادله الكتب التي لا تفارقها، ثم تنكر تأثيرها ويعادل ورقة شهادة الفلسفة التي درستها بمحبة، ثم لم تعمل بها. هناك تركيب يكشف نفسه شيئا فشيئا يوازي الحكاية التي لا تمنحك توقعا لها حتى تكشف في النهاية عن وفاة الأب المنتظر.
 السرير مكان لاجتماع الحياة أو ما يبدو من تناقضاتها الظاهرية. السرير في المسرحية محل الجنس تلميحا، وذكرى الختان المؤلمة، في مشهد يظهر أثره النفسي الدائم وذكرياته الممضة، تماما كما كان السرير شاهد التعب والشقاء. إنه جماع ذكريات وأحلام قبل أن يكون مجرد» آلة»، ولهذا فلا مجال للقبول بتثمينه بشكل جيد من» التاجر». الشهداء لا يلتقون مع السماسرة.
 ثمة تكامل بين الأم وابنتها، وتلاقح واضح، وإن اتخذ سمة الجدل، إلى الحد الذي يوهم بالتناقض، بينما يحوي توحدا من نوع ما ، وقد وصل ذلك إلى الحد الذي تبدو فيه تعبيرات وجه الأم انعكاسا لكلام الابنة، والعكس بالعكس، فينطبع على وجه أحدهما تعبيرات عن كلام الآخر. الأثر المرآوي واضح للغاية، والتكامل بين المجالين-برغم عدم تداخلهما- ظاهر للعيان.
مثلت السينوغرافيا-بشكل عام- واحدا من مباهج العرض، فلا مجال لتراكب الديكور، دون بساطة، واللعب على الثابت والمتغير في عناصره لا يخفى، فيتحول السرير- مع حركته الدائرية- أحيانا- سبيلا للتأكيد على صعوبة الالتقاء مع التمامل، ويشهد تحوله إلى مقام للأولياء، تماما كقماش الحجاب الذي يصبح كوفية للخال المعلم حينا، وهو شال للإغواء في أحيان أخرى، ثم آداة مساعدة للرقص البلدي. كما جاءت تفاصيل أدوات الأم المستطيلة الشكل، والمحتفظة  ببعض جمال مع تراكب أدراجها، جاء نقيضا لدائرية أدوات البنت التي لا تريد الجهر بقناعاتها، وتقسو على نفسها حتى في اختيار كرسي خشبي جاف.
لن تمل استطراد الحكي مع تلازم الإيماءات بما تقوله البطلة، وبخاصة مع حضور الأب الغائب، وربما هيمنته؛ فتظهر» النظارة» وقت التنوير وكشف المستور، وتظهر» المقشة» أثناء عرض البنت لأسباب قسوتها الظاهرية، وكشفها عن كوامن ذاتها. نحن أمام نص متكامل لا يعتمد على حبكته الجيدة أو نموه المتوازن، أو شجنه الشفيف، أو أغاني مسعود شومان المعبرة.
لم يكن مثل هذا العرض ليؤكد حضوره لولا اعتماده على آداء رائق من طاقم االتمثيل بداية من عبير الطوخي، وليس انتهاء بهالة سرور، وأحمد الشريف، ولعل استمرار العرض لأكثر من شهر يؤكد شيئا من تجردهم، ومحبتهم للفن الذي لا يبدو مقابله المادي بسيطاعلى المسرح الحكومي.
لبعض الوقت ربما تشعر بطول الحوار، وبعض الاستطراد فيه فيه، وربما تجد نهاية العمل عبر إعلان وفاة الأب، ثم وفاة الأم فجأة-أيضا- نهاية تقليدية لا تناسب نزق العمل وتمرده وتجريبه، ولكنك في كل الأحوال لن تجد فرصة للخروج من الجدل مع العرض وأفكاره، والتنقل بين موقع الابنة تارة، وموقع الأم تارة أخرى، وعلى كل حال ستخرج من عرض» جنة هنا» لمحمد صابر  بحالة مشحونا بكثير من التساؤلات، ومتسائلا عن عدد العروض الجيدة في مصر، والتي تمر دون أن نعلم بها.


علاء الجابر