العدد 833 صدر بتاريخ 14أغسطس2023
أراد الريحاني تطبيق ابتكاره الجديد المعروف تارة بالأوبراكوميك وتارة أخرى بالفرانكوآراب - أي الفودفيل الجامع بين العربية والفرنسية – بصورة عملية، فحلّ فرقته التي عرضت في الرينسانس، وكوّن فرقة جديدة تليق بمشروعه الجديد الذي سيعمل عليه في مسرحه الجديد «الإجيبسيانا» بشارع عماد الدين! وأشار ناقد جريدة «المنبر» الفني إلى ذلك في منتصف عام 1917 قائلاً:
«لم يحلّ النابغ نجيب الريحاني جوقته ليرتاح من التمثيل وعنائه ومتاعبه، بل أنه أراد أن يصل من حلّها إلى تكوين جوقة جديدة أرقى من الأولى، تتفرغ لتمثيل الروايات المعروفة بالأوبراكوميك. وسيكون مع إرجاع فرقة الريحاني الجديدة الممثلون المعروفون عزيز عيد، وأمين صدقي وغيرهما. وستبدأ تمثيلها الجديد في مسرح الريحاني الحديث، الذي أُنشئ بجوار «كازينو دي باريز». وإذا كان العرب قد أخذوا فيما مضى لغتهم عن الأعاجم، فإن التمثيل العربي يأخذ الآن قوته عنهم لأن مدير جوقة الريحاني هو الشاب الفاضل المسيو «كانجوس» أحد كبار المقاولين، وقد أظهر على التمثيل العربي غيرة كبيرة، من آثارها «تياترو الإجيبسيانا»، وهو مسرح الريحاني الجديد».
وبدأت الصحف تهتم بمشروع الريحاني وتحدد مكان مسرح الإجيبسانا وتصفه بأنه في الهواء الطلق!! والمقصود بذلك إنه غير مسقوف، وشبيه بالسينمات الصيفي! أما مكانه تحديداً فيقع في شارع عماد الدين بين كازينو «دي باري» وسينما لندن! وآخر ما أشارت إليه الصحف الحديثة نوعاً ما أنه تحول فيما بعد إلى «سينما ليدو»!! أما فرقة الريحاني التي بدأت عروضها في الإجيبسيانا فمن أهم ممثليها: حسين رياض، وحسين نجيب، وأستفان روستي، وحسن فايق، وطارق أحمد، وعبد الحميد زكي، وأحمد عبد الحافظ، والمسيو كلوديوس الممثل الأمريكاني مع جوق الممثلات الأفرنجية.
مسرحية أم أحمد
ثلاثة أشهر مرّت على تحضير الفرقة وتجهيز المسرح وبروفات العرض الأول وهو مسرحية «أم أحمد»، التي تُعد أولى مسرحيات الريحاني الكبيرة – ذات الفصول الثلاثة – والتي تضاربت الكتابات حولها بين السلب والإيجاب، حيث إن الريحاني لم يتخلص من عيوب الفودفيل والابتذال فيها من وجهة نظر ناقد جريدة «الأفكار» الذي قال – فور عرضها في سبتمبر 1917 – تحت عنوان «التمثيل الكوميدي أو الهزلي»: «مضى على هذه الرواية وقت ليس بالكثير، أعلن في خلاله حضرة نجيب الريحاني عن روايته «أم أحمد» بعد أن احتجب عنها مدة شهرين أو ثلاثة، كنا نظن أنه رحل عن رواياته القديمة المسماة في عرفه «فرانكوآراب»، وأوحت إليه بنات أفكاره بروايات أوقع تخالف هذا النوع، ولكن ساء فألنا برجوع حليمة إلى عادتها القديمة على رأى المثل الدارج».
وبدأ الناقد يهاجم العرض لما به من نكات مبتذلة، كلها تنديد على المصريين!! والواجب على كل شرقي أن يحافظ على كرامة أبناء جنسه!! ويختتم الناقد كلمته بسؤال وجهه إلى الريحاني قائلاً: «يا حضرة نجيب الريحاني أرجو منك جواباً على هذا السؤال: ماذا تقصد برواياتك هذه .. إن كنت تقصد التفكه فأمامك أبواب أخرى كثيرة تطرقها موافقة لنا وللتمثيل الذى دنس بهذا النوع الجديد! وإن كنت تقصد الرقص والغناء فإن لهذا دوراً غير دور التمثيل، يُطلق عليه اسم «ملهى»».
ورغم هذا النقد القاسي إلا أن الجمهور كان يطلب عرض مسرحية «أم أحمد» تحديداً، كلما حاول الريحاني تمثيل غيرها في هذه الفترة! وربما موضوعها الكوميدي سبب الإقبال الجماهيري على مشاهدتها، حيث يؤدي فيها الريحاني دور «بلبوص» مُحصل دائرة عنتر باشا. والريحاني هو ذلك الرجل الهرم الذي تُعجب به وبجماله وبياض لحيته امرأة أمريكانية ثرية، فتقع في حبه، وتطلب منه أن يكون لها بعلاً محباً وزوجاً أميناً، فيقبل أولاً، ثم يُمعن النظر في وجهها، فيراه كئيباً مكفهراً، ويرى الشيب مخيماً على رأسها، فيقشعر جسمه وتشمئز نفسه فيبتعد عنها بُعد الرجل من الأفعى، ويصيح بأعلى صوته «يا رفاعي يا صاحب الطريق مدد». ولكنها ترغمه على اقترانه بها فتحضر له جيشاً جراراً من العبيد والخدم ونساء حاشيتها، فيهددونه ويرغمونه على شُرب هذا الكأس المُرّ، ولكنه يتخلص منهم بحيلة جميلة.
والحق يُقال إن المسرحية بها عبارات غير لائقة تم إلقاؤها على خشبة المسرح في هذا الوقت أثناء اندلاع الحرب العالمية الأولى، ولكن الرقابة المسرحية اعترضت عليها عندما أراد الريحاني إعادة الترخيص بتمثلها مرة أخرى عام 1926 – أي بعد تسع سنوات – وحددت الرقابة هذه العبارات في النص الأصلي – المُمثل عام 1917 - ومنها على سبيل المثال: قول كشكش: «أخْ دي العبارة قلبت بصبصة .. هعدي عليكي يا لطافة». وقول أم أحمد: «لأ لأ ما تغمذنيش أحسن بأغيّر يا منيل»، وقولها: «جتتي بتنمل يا دلعدي .. آه يا ناري .. ما استحملش .. قطيعة».
وهناك ملاحظة مهمة أن هذا النص – وربما غيره من النصوص – يتم تعديله وفقاً للأوضاع السياسية أو الاجتماعية، حيث وجدت لحن الختام يقول: « آدي أعظم درس يا جاهل رأيته .. سيب جيرانك وكل واحد في بيته .. ليه تجوُر على غيرك وتخطف ماله .. واللي مش على خاطري بعيد عنك تطوله .. خلي دين الإنسانية يبقى دينك يا ابن عمي .. وقتها أعطيك حياتي وكمان أفديك بدمي .. حط إيدك مع إيدي بالمحبة يالله بينا .. سعد مصر اليوم حايبقى نور وزينة». وفي عام 1917 عندما تم تمثيل النص لأول مرة لم يكن «سعد زغلول» بدأ ثورته، ولكن في عام 1926 كان سعد في قمة تألقه السياسي، وهنا يكون قول «سعد مصر» مناسباً في العبارة الأخيرة!! وهذا أمر كان منتشراً في «جميع» العروض المسرحية بعد نجاح ثورة 1919 - وتولي سعد زغلول الوزارة - حيث كانت العروض تنتهي بأغاني ومارشات موسيقية وقصائد في سعد زغلول.
كله في الهوى
إذا عدنا إلى عام 1917 مرة أخرى سنجد الريحاني يقدم عمله الثاني في الإجيبسيانا، وهو مسرحية «كله في الهوى»، ومن الواضح أن نجاحه فاق نجاح العرض الأول! فقد قالت جريدة «المقطم»: كان تياترو الإجبسيانا بشارع عماد الدين مزدحماً ازدحاماً عظيماً في مساء البارحة، حيث تقاطرت عليه الجماهير لمشاهدة رواية «كله في الهوى»، التي فاقت جميع الروايات العربية والأفرنجية في نوع الريفيو. وقد نالت هذه الرواية استحساناً عظيماً، وقد ظهر المؤلف نجيب الريحاني بأدوار جديدة مختلفة، أدهش فيها المتفرجين بمهارته. فتارة يتكلم بالتركية، وأخرى يظهر في ثوب بائع الخضار، ويظهر بملابس شخص العمدة المشهور كشكش بك ممتطياً حماره، يتقدمهم خادمه الأمين زُعرُب المشهور. وبالاختصار فقد كانت هذه الرواية من عجائب الروايات العربية الأفرنجية وقد أدهش الحضور بما رآه من الرقص بالملابس العجيبة الألوان الغريبة بإدارة أستاذ مشهور في الرقص أحضره خصيصاً لهذا الغرض.
ومسرحية «كله في الهوا» تُعدّ استعراضاً من فصلين ومقدمة، تأليف المسيو «جبير» ونجيب الريحاني. أما الموسيقى فقام بها كاميل شامبير كما قالت جريدة «الأخبار». وفي نوفمبر 1917 بدأت الصحف تُعلن عن عرض مسرحية «دقة بدقة» ذات فصلين وعدة مناظر، كونها أوبريت أفرنكي عربي من تأليف «داني لوفيتش» تعريب «حسين شفيق»، كما أعلنت الصحف أيضاً عن مسرحية «حماتك تحبك» من فصلين تأليف أمين صدقي بالاشتراك مع نجيب الريحاني، وقد عُرضت بالفعل يوم 12 نوفمبر 1917.
ثم توالت العروض من ديسمبر 1917 إلى سبتمبر 1918 – كما تابعتها في إعلانات صحف: المقطم والأهرام والأخبار والأفكار ومصر - ومنها: مسرحية «أم بكير»، ومسرحية «أبقى قابلني»، ومسرحية «حَلّق حُوش»، ومسرحية «إديله جامد» وكلها من تأليف أمين صدقي ونجيب الريحاني، وكانت «فاطمة قدري» تطرب الجمهور بين فصول هذه المسرحيات. أما مسرحية «على كيفك» فكان لها وضع خاص في الإعلانات، حيث أعلنت عنها جريدة «الأخبار» بصورة تفصيلية لأحداثها أو مواقفها الكوميدية تشويقاً للجمهور، قائلة: «رواية «على كيفك» ذات مقدمة وفصلين تأليف نجيب الريحاني. ألحان الرواية تأليف الأستاذ كاميل شامبير. الفصل الأول: سفر كشكش إلى بلاد مسمط خان .. رقص شركسي .. خطاب كشكش .. مفلسين من كل لون .. دكاترة آخر موضة .. الأبوكاتية وعم عطية .. الحانوتية .. هيجان أهل مسمط خان .. الحاج برهوم الجعار .. كشكش شرلم برلم. الفصل الثاني: كشكش يتزوج .. الخدامين الغلابة .. كشكش يبحث عن زوجة .. مسكين يا متجوز .. يا بختك يا عازب .. بنت الملك كسرة أبو كحيان .. زفاف كشكش بك».
كذلك كانت مسرحية «حَمار وحلاوة» مميزة في تفاصيل إعلاناتها – مثل سابقتها – فنقرأ الآتي في إعلان جريدة «الأخبار»: «تياترو الإجيبسيانا بشارع عماد الدين إدارة نجيب الريحاني .. الاستعراض العظيم .. رحلة من الأرض للسماء «حمار وحلاوة»، ذات مقدمة وفصلين تأليف أمين صدقي ونجيب الريحاني. المقدمة: الفلاحون والفلاحات .. رقص البلاص .. ربع دستة حماوات .. خوازيق الجاز. الفصل الأول: مملكة العجائب .. رقص الدبكة والسماعي .. كشكش على العرش .. الموضة العمدة البريمة. الفصل الثاني: طلوع حما جديدة لكشكش .. كشكش في الأسر .. أولاد الكيف .. البائعات السكلانس».
وتوالت العروض بعد ذلك ومنها مسرحية «1918 - 1920» ذات ثلاثة فصول تأليف نجيب الريحاني وبديع خيري. مساء كل يوم ماتنيه، وكل يوم ثلاثاء للسيدات، وكل يوم خميس وأحد ماتنيه للعائلات. ثم مسرحية «كله من ده» التي نشرت بعض تفاصيل مواقفها جريدة «الأخبار» قائلة: «تياترو إجيبسيانة يمثل نجيب الريحاني رواية «كله من ده» ذات ثلاثة فصول تأليف نجيب الريحاني وبديع خيري. الألحان وضع الأستاذ كاميل شامبير. الرقص تحت إدارة الأستاذ بوجي. الفصل الأول: ستوتة، قهوة الحبيبة، التفاح، خناقة، في قهوة الشحاتين. الفصل الثاني: الأسطى كشكش، كشكش طباخ، فين أيامك. الفصل الثالث: الأصل يغلب، المنزلوجية، كشكش والطباخين».
ثم جاء موعد عرض مسرحية «ولو»، أعلنت عنها جريدة «الأخبار» قائلة في أكتوبر 1918: «تياترو إجيبسيانة .. يمثل جوق نجيب الريحاني رواية «ولو» من نوع الفنتازي الأوبريت، ذات ثلاثة فصول. تأليف نجيب الريحاني وبديع خيري. الألحان من وضع الشيخ سيد درويش الموسيقار الشهير. الفصل الأول: يا ولاد الحلال، الصنايعية، أم شولح، نتيجة عضة، أم كشكش، كشكش من سلالة ملوك، يوه يوه. الفصل الثاني: إمارة مدفشخر، استقبال كشكش، وفود البلاد، استعراض من مدفشخر. الفصل الثالث: الملك لله، الاحتكار، مزاحم لكشكش، صندوق الدنيا أو السفيرة عزيزة، البويجيه، اللبن الحليب .. ويتخلل الفصول رقص الكهربا البديع من المدام بلانش، وتطرب الحضور فتحية أحمد». وفي بعض العروض كان يغني بين الفصول المطرب «زكي مراد»، حتى جاء موعد عرض مسرحية «إيشْ» في يناير 1919، وهي من تأليف نجيب الريحاني وبديع خيري، ومن تلحين الشيخ سيد درويش، وكتب نوتتها الموسيقية «كاميل شامبير»!!
في ميزان النقد
كثرة عروض الريحاني الكوميدية المعتمدة على شخصية كشكش بك لفتت أنظار النُقاد أخيراً، وكان من الصعب تجاهلها، لذلك كتب الناقد «النحاس» مقالة عنوانها «الغناء والتمثيل»، ونشرها في جريدة «المنبر» - أغسطس 1918 - التي هاجمت الريحاني وغيره عندما كان يقدم فودفيلات عزيز عيد فيما سبق! وفي كلمته قال الناقد:
كتب الكثيرون عن التمثيل وكالوا للنوع الكوميدي بدل الصاع صاعين من قذف وتشنيع!! ومن زعماء ممثلي الكوميديا نجيب الريحاني المعروف للعامة بكشكش بك، وقد طار صيته بيننا وذاع تفننه في المضحكات. ورأيي في هذا الرجل أنه عصامي جداً، واجتهد حتى نال الثروة في طريق التمثيل! وليعذرني القارئ إذا وجد مني تطرفاً في القول واختلافاً في الرأي لما أكتب، لا لمدحه ولا للتقرب منه، ولكن من أجل الحقيقة!! لقد عابوا على الرجل أنه يأتي بالمُضحك وليس بالجد. فهل فقهوا أولاً أن الحكمة إذا دُست في الفكاهة كانت سهلة التناول قريبة من النفس متيسر العمل بموجبها؟ هل لا يزالون على رأيهم أن كل قول يتخلله الهزل فيه سخف وابتذال؟ أيمنعون عن الروح غذاء لا تعيش إلا به ولا تحيى إلا بتعاطيه؟ أردت من هذا أن أقول إن روايات الريحاني هي - إن لم تكن من المستحسنات التامة - لا تخلو من عبرة أو موعظة في قالب تقبله النفس وتقبل عليه. شاهدت بعضاً من رواياته وأمعنت في مغزاها، ولم آخذها على علاتها فوجدت الأغلبية فيها تنطوي على مناظر تدعو إلى الإصلاح! ففي رواية «كله من ده» يعرض أمام ناظرك جماعة الحَمّارين يبثون شكواهم من الحالة الحاضرة، وكيف أن القوم استبدلوا ركوب الحمير بعربات الأُمُبيس والترام والعربات الأخرى وغير ذلك. لذلك يعرض أمامك في صورة هزلية من رواية «1918 - 1920» تعسف التجار، وكيف أنهم ربحوا الأموال الطائلة! وانظر كيف يريك أن الطالب في هذه الأيام لا يُعنى إلا بزيّه وهندامه ولا يعرف من أمور الحياة وآداب الحديث إلا بعض كلمات فرنسية يرددها بين شدقيه!؟؟ انظر كذلك كيف أنه يصور لك في هذه الرواية أيضاً خرافات السيدات المصريات وتمسكهن بعادة التنبؤ بالمستقبل بتقولات الفلاحات حاملات القفف السائرات في عرض الطريق ينادين «نبين زين ونشوف البخت والودع نبين .. إلخ». هذه كلها مناظر مصرية عرضها أمام المُشاهد في صور فكاهية حتى إذا خلى بنفسه أمعن في مغزاها. وقالوا إنه يعرض أمام المشاهدين نسوة يرقصن وهن شبه عاريات! فلماذا ينكر القوم عليه هذا الأمر وهم يسعون خصيصاً إلى دور الراقصات، قائلين إن الشيخ سلامة حجازي كان يجذب الجمهور بالغناء، فلماذا لا يجذبهم الريحاني بطريقته هذه!!