نصف وجه.. تجربة إنسانية مميزة

نصف وجه.. تجربة إنسانية مميزة

العدد 833 صدر بتاريخ 14أغسطس2023

«‏ليس مهمًا كيف يراك الآخرون، ولكن المهم كيف ترى أنت نفسك»، من هذه المقولة انطلق الفنان أيمن مرجان مخرج العرض المسرحي «نصف وجه»، والذي قدمه ضمن عروض مشاريع مرحلة دبلوم الدراسات العليا على مسرح المعهد العالي للفنون المسرحية بأكاديمية الفنون، تحت إشراف الأستاذ الدكتور أشرف زكي.
«نصف وجه» تأليف الكاتبة الإنجليزية سوزان هيل، والذي يدور حول فتى يدعى «ديري» لديه أربعة عشرة عامًا، أصيب بحرق في وجهه نتيجة لسقوط حامض عليه، الأمر الذي جعله يتعرض للتنمر والسخرية ممن حوله مما أدى إلى انطوائه على نفسه بسبب نظرة الناس إليه. 
يبدأ العرض باقتحام «ديري» لحديقة منزل «السيد لام» اعتقادًا منه أنه منزل مهجور ليس به أحد حتي يتفاجأ بـ«السيد لام»؛ هذا الرجل الذي سيكون سببًا في تغير نظرة الفتى لنفسه وللعالم من حوله، ففي بداية اللقاء بينهما سنلاحظ أن «ديري» يحاول أن يخبئ وجهه عن «السيد لام» لكي لا يري النصف المشوه لكن «السيد لام» يستنكر هذا الفعل فيبدأ بإقناعه بأنه لا يجب عليه أن يُخفي اختلافه أو يشعر بالنقص تجاه ذاته ومن المهم أن يرى نفسه بعين التقدير، ولابد أن يضع لنفسه هدفًا يسعى لتحقيقه مهما كانت العواقب والصعاب التي يواجهها من المجتمع حتى لو كان الهدف بسيطًا مثل أن يصبح له حبيبة يُقبلها، ولا يفسد حياته بحجج واهية تعطله عن بلوغ أحلامه، وبذلك يرى نفسه بعين الرضا التي لابد أن تنعكس على رؤية من حوله له، لأنه من الواضح أن الفتى كان متأثرًا بالسلب تجاه نفسه بسبب نظرة من حوله له لأنهم لا يقبلون اختلافه حتى أقرب الناس إليه، حتى أمه عندما تقبله فهى تقبله على نصف وجهه السليم، فتدريجيًا بدأ «السيد لام» بزرع أفكاره الإيجابية في عقل وجوارح «ديري»، فبدأ يعي أنه في هذه الحياة من يقود نفسه بنفسه، وبالتالي ليس بالضرورة أن تكون الأفضل أو الأجمل في نظر الناس فالأمر كله يتعلق بذاته، فيجب أن يرضى عن نفسه أولاً ثم يلتفت لرضا الآخرين وقبل أن يفكر في سماع رأي الآخرين يسمع صوت ذاته.
إن الجو المشحون بالعواطف الإنسانية المختلفة كان يحتاج إلى نوعًا من الترويح وهذا ما قام به المخرج من خلال استعراض يصاحبه أغنية مرحة، وكانت هذه الأغنية بمثابة نقطة فاصلة في العلاقة بين «السيد لام» و»ديري» لأنها كانت مليئة بالسعادة والبهجة مما جعلت الصبي يحب هذا الرجل ويتقرب منه اكثر.
وضعنا المخرج في العرض أمام اثنان من ذوي الإعاقة لكن نظرة كل منهم لنفسه وللحياة مختلفة تمامًا ف»السيد لام» رغم فقدانه لساقه في الحرب ورغم الوحدة الذي يعاني منها إلا أنه دائمًا ما يري الجمال في الأشياء حتى وإن كانت محفوفة بالتشوه وهذه هى النظرة التي عكسها ل»ديري»، فمثلاً طنين النحل يسمعه على أنه غناء، وبجانب كومة القمامة يستطيع أن يري الزهور المتفتحة أما بالنسبة لنظرة الناس وحكمهم وعدم تقبلهم للاختلاف فلابد أن يعي أنه قد توجد عدة أسباب تخلق نوعًا من التعارض ورؤيتنا لذاتنا مع رؤية الآخرين لنا، وقد تكون لهم وجهة نظر في ذلك، فنحن بشر لا نخلو من الأخطاء، لذلك لابد من خلق التوازن بين رؤيتنا لأنفسنا، ورؤية الآخرين لنا، وبعد هذه المناقشة الطويلة التي تجمع بين «السيد لام» و»ديري» في حديقة منزله ننتقل إلى منزل «ديري» ليدور نقاش بينه وبين أمه - التي تمثل نموذج صغير لنظرة المجتمع لإعاقته - نرى فيه كيف تغيرت نظرته لنفسه وللعالم وكيف بدأ يرى الجمال في الأشياء، فهو يريد هذا العالم الذي رسمه له «السيد لام» ويريد أن يفكر ويشعر ويحب، فيصيح في وجه أمه التي كانت تحاول أن تمنعه من الذهاب لمنزل هذا الرجل متهمة إياه بالجنون لكنه يتركها ويذهب إليه ثانية كما وعده ليجده ملقى على الأرض وقد فارق الحياة بعد أن سقط من أعلى شجرة التفاح.  
وبالحديث عن عناصر العرض بداية من التمثيل كانت جميع الشخصيات في العرض أبعادها واضحة وخطها الدرامي مكتمل الأبعاد حتى شخصية الأم التي لم يتعدى ظهورها على المسرح بضع دقائق، في هذا النوع من العروض الإنسانية وجود ممثل متمكن من أدواته هو سبب أساسي في نجاح العرض، وفي هذا العرض ساعد اختيار الممثلين علي نجاح المخرج في توصيل تفاصيل الفكرة، بما يتوافق مع طبيعة كل شخصية مما يدل على الفهم والدراسة الدقيقة لطبيعة كل شخصية ودوافعها وتخيل أبعادها الجسدية والشكلية والنفسية وساعد على ذلك أيضًا تمكن الممثلين من أدواتهم وتوجيهها لتوصيل الحالة فمثلاً سنرى ذلك في طريقة تعامل «السيد لام» مع إعاقته وكيف يتحرك ويمشي ويلمس هذا الساق المبتور وبالرغم من أنه رجل عجوز وصاحب إعاقة إلا أن طبيعة الشخصية الطيبة المرحة المفعومة بالإيجابية ظهرت بسلاسة في ملامحه ونبرة صوته والطريقة التي تعامل بها مع الفتى، أما «ديري» الذي بجانب أنه كان منسابًا جدا لأداء الشخصية استطاع أن يوصل التدرج النفسي الذي حدث في الشخصية من قمة الإحباط إلى قمة الأمل ومن عدم الثقة الكاملة في نفسه ووجهه إلى ثقة بل وحب وكل هذا بفضل «السيد لام»، هذا ما تم تنفيذه ببراعة في نهاية العرض على مستوي الصورة فبعد هلع «ديري» من مشهد «السيد لام» وحزنه علي موته ينظر «ديري» لشجرة التفاح ويتحرك تجاهها ويلتقط بتفاحة ناظرًا إليها نظرة أمل تدل على استمرارية الأفكار التي غرسها «السيد لام» داخله وأنه سوف يعيش ليعمل متجاهلاً إعاقته والعواقب التي مر بها.
بالنسبة للديكور تم تنفيذ ديكور الحديقة بصورة واقعية لدرجة استخدام زرع وتفاح حقيقي، بجانب قطعة الديكور المتحركة علي شمال المسرح التي كانت منزل «السيد لام» في بداية العرض ثم أصبحت منزل «ديري» بحيلة لجأ إليها المخرج ومهندس الديكور وهى أن قطعة الديكور يتم تدويرها لتعطي المظهر الخارجي لمنزل «السيد لام» والداخلي لمنزل «ديري»، أما المكياج في هذا العرض يلعب دورًا أساسيًا خاصة مكياج شخصية «ديري» وكان تنفيذه دقيقًا وقريب للواقع.
والموسيقى في العرض جاءت معبرة عن الحالة النفسية للشخصيات خصوصًا مع شخصية «ديري» الذي يعاني من أزمات نفسية كثيرة، وكذلك الحال بالنسبة إلى المؤثرات الصوتية فهى من العناصر الأساسية التي ساعدت على إعطاء الجو المناسب للحدث المسرحي فوضع المخرج بعض المؤثرات الصوتية مثل أصوات العصافير وأصوات توحي بالجو العام للحديقة الذي كان موجود في خلفية الصوت علي مدار المسرحية، أما الإضاءة  فكانت واقعية سيكولوجية تعبر عن انفعالات الشخصيات والحالات المختلفة داخل العرض. 
قام بالتمثيل في دور «ديري» إبراهيم الألفي، وبدور «السيد لام» محمد زلط، ودور والدة «ديري» سهيلة الأنور، ديكور محمد دياب، إضاءة وليد درويش، مكياج ناريمان الملاح، أزياء روضة مرجان، أشعار أحمد الشريف، استعراضات محمود نوح، تسجيل صوت ومكساج محمد سامي، تصميم بوستر محمد وحيد، تصوير فوتوغرافي أحمد فرحات، مساعد مخرج محمود حسني، مخرج منفذ أسماء ماهر.
عرض «نصف وجه» لم يكن مجرد عرض بل حالة إنسانية ودعوة إلى التفاؤل وحب الذات وتقبل الآخر وإن كان مختلفًا، فحتى يرانا الناس بعين الاحترام والتقدير يجب أن نقدر أنفسنا وأن نحترم اختلافنا مع الآخرين.


آن سليمان