مخرج من الخرس المجتمعي قراءة في مسرحية «أصوات الأعماق» لإدواردو دي فيليپُّو

مخرج من الخرس المجتمعي قراءة في مسرحية «أصوات الأعماق» لإدواردو دي فيليپُّو

العدد 616 صدر بتاريخ 17يونيو2019

«روزا: ماذا تريدين أن تعرفي؟ إنها عاملةُ اختزال. عندما يتكلمُ المحامي تنقش على الورق رموزًا غريبةً لا يفهمها أحد سواها، ثم تقوم بقراءتها وكتابتِها على الآلةِ الكاتبة. رمزٌ كهذا مثلاً (ترسم بسبابتها في الهواء خطًّا قصيرًا متعرّجًا) يعني: «سيداتي سادتي، لنواجِه الواقعَ بشجاعة. إنه حقًّا أمرٌ جَلَل...».
ماريا: كل هذا برمزٍ واحد؟!
روزا: أجل. لذا فهي تربح كثيرًا وتتقدم في عملِها».
هذه الفقرة من الفصل الأول في مسرحيتنا قد تبدو هامشيّةً مع القراءة السريعة، إلا أنها حين تنضَمُّ إلى شواهد أخرى من حوار المسرحية تُعطينا مفتاحًا ثمينًا لفهمها. دي فيليپُّو Eduardo de Filippo (1900 - 1984) كاتبٌ مسرحي وشاعرٌ وكاتب سيناريو وممثلٌ إيطالي مثّل للمسرح والسينما. وهذا النص الذي بين أيدينا Le Voci di Dentro كُتِبَ عام 1948. وكما يُتوقَّعُ من هذا التاريخ، نلمح في النص أصداءَ الحرب العالمية الثانية وآثارَها الاقتصاديةَ المدمِّرةَ على المجتمع الإيطالي. فالأحداثُ تدورُ بين أُسرَتين متجاورتَين في السُّكنى في ناپولي، إحداهما تتكون من أخَوين (ألبرتو وكارلو) وعمِّهما المُسِنّ (نيكولا) الذي اعتزل الناس وامتنع عن الكلام، وهم متعهدو حفلاتٍ يرتزقون بتأجير الفِراشة والألعاب النارية، ويُعانون أزمة ماليةً طاحنةً جَرّاءَ الحرب، بعد أن عرفوا زمنًا أكثر انتعاشًا في حياةِ الأب الراحل (ساپوريتو). الأسرة الأخرى (تشيمّاروتا) تتكون من (پاسكوال) المريض غير القادر على العمل، وزوجته (ماتيلدا) التي تعول الأسرة بالعمل في الدجل وقراءة الطالع، والابن (لويجي)، والابنة (إلفيرا) التي تتحدث الفقرة السابقة عنها، والعَمّة (روزا) والخادمة (ماريا).
 المحرّك الأساسي للأحداث هو حُلمٌ رآه ألبرتو، يَحدثُ فيه أنَّ أسرة تشيماروتا تقتُلُ صديقَه (أنيِلُّو أمِترانو) - الذي كان فيما يبدو واحدًا ممّن يترددون على ماتيلدا لقراءة طالِعه - وتسرقُ مالَه وتُخفي أدلة الجريمة في حائط البيت. المهمُّ في الحُلم أنه يبدو واقعيًّا تمامًا لألبرتو، حتى أنه يتصرف بناءً عليه ويتحايل مع كارلو على أسرة تشيماروتا ذاتَ صباحٍ لإبقاء أفرادها بالمنزل ريثما يُداهِمُ رجالُ الشرطةِ البيتَ ويُلقُون القبض عليهم، ولا يدرك ألبرتو أن ما رآه كان مجرد حُلمٍ إلا بعد أن تقتاد الشرطةُ جيرانَه إلى القِسم ويفشل هو والبوابُ (ميكيلي) في العثور على أدلة الجريمة المزعومة! يُطلَق سَراحُ الجيران، ويُفاجَأ ألبرتو بعد عودتهم بأنّهم يتوافدون عليه واحدًا واحدًا، ليُلقِي كلٌّ منهم التُّهمة على غيرِه من أفراد الأسرة، ف(روزا) تتهم لويجي الطائش المُسرِف ابن أخيها، ولويجي يتهم عمتَه روزا التي أحالَت البيت إلى مصنع صابون وشمع، حيث يُلمِح لويجي إلى أن العَمّةَ تستخدم دُهنًا من جثمان المقتول في صُنع الصابون، وپاسكوال يتّهم زوجتَه التي يشُكُّ في عِفَّتِها ويَرميها بأنها قادرةٌ على ارتكاب كل الفظائع، وهكذا! يرتَدّ ألبرتو إلى حالةٍ من الشكّ في حقيقة ما رآه، فيَغدو غير مُدركٍ تمامًا إن كان حُلمًا أم حقيقة. يحدثُ هذا بينما أخوه (كارلو) - الذي يُظهِر التديُّن ويتردد بانتظامٍ على الكنيسة – يتآمر مع التاجر الانتهازي (كاپا دانجيلو) ليستأثِر وحدَه بتَرِكَة مُعِدّات الفِراشة التي تركها أبوه للأخَوَين ويبيعَها لحسابِه بالكامل. في النهاية يكتشف ألبرتو مع الشرطة أن صديقه أمِترانو – الذي يَظهر ظهورًا خاطفًا في المشهد قبل الأخير - على قيد الحياة، فيتأكد من أنّ ما رآه كان حُلما. ولا يلتئم شمل أسرة تشيماروتا إلا ليدفعوا عن أنفسهم شبح التهمة ويحاولوا التغرير بألبرتو وقتلَه في مكانٍ ناءٍ، ولهذا يواجههم ألبرتو في النهاية بأنهم قد ارتكبوا جريمةً أفظع من قتل أمِترانو، وهي أنهم قتلوا الحُبَّ بينهم ولم يجتمعوا إلا على الشّرّ، كما يكتشف خيانةَ أخيه من حديث البواب المُخلِص ميكيلي معه، ويصفع كارلو صفعةً أخيرةً قبل أن يخرُج الجيران وتدخُل الشمس إلى الغرفة التي يبقى فيها الأخوان وحدهما ويتعانقان، في إشارة إلى الأمل في بداية عهدٍ جديدٍ بينهما.
 بشكلٍ شخصيٍّ، تُحيلُني حادثةُ القتل التي تُلقَى تبعاتُها على أسرة بكاملِها إلى مسرحية (زيارة المفتش An Inspector Calls) للكاتب الإنجليزي (چون بوينتون پريستلي)، لكن في هذه الأخيرة لدينا واقعة انتحار فتاةٍ من الطبقة العاملة، يَتّهم رجلٌ يدّعي أنه مفتشُ شرطةٍ أسرة من ميسوري الطبقة الوسطى بالمسؤولية عن دفعها للانتحار. في (زيارة المفتش) يُعبّر پريستلي عن قَناعاته اليسارية في ما يتعلق بمسؤولية كل فردٍ في المجتمع عن المجتمع كُلِّه، وهي قَناعاتٌ أخلاقيةٌ راسخةٌ في الأديان الكُبرى كذلك. أمّا حُلمُ ألبرتو في (أصوات الأعماق) فهو يسيرُ بالأحداث في مسارٍ عبثي يَفضحُ طوايا أفراد تلك الأسرة المتهمَة وما يُكِنُّه كلٌّ منهم للآخرين. اللافتُ للانتباه أنّ نَصّ پريستلي عرف طريقه إلى المسرح لأول مرّة عام 1945 في الاتحاد السوفياتي، بينما كتَب دي فيليپُّو مسرحيته عام 1948. ليس من السهل بالتأكيد أن نقطع بتأثُّر الإيطالي بالإنجليزي، أو بأنّ (أصوات الأعماق) تشبه رَدَّ فعلٍ على (زيارة المفتش)، فالمسألة تتطلّب غوصًا في مذكرات دي فيليپُّو وما كُتِبَ عنه، وليس هذا مجالَها، وإن كانت الإشارة واجبةً إلى هذا الاحتمال.
 نعود إلى الفقرة المقتبَسة في بداية المقال. هذه الإشارة العابرة إلى فُقدان اللغة أو اختزالِها الذي يكادُ يكونُ كوميديًّا إلى درجة العبث لدى الفتاة الصغيرة (إلفيرا)، تنضمّ إلى علاماتٍ أخرى خلال النصّ. أهمُّها حالة العم نيكولا الذي ابتكرَ طريقةً يعبّر بها عن انفعالاته وعواطفه واحتياجاته من خلال الألعاب النارية، فهاهُو كارلو يقول عنه: «إنه لا يتكلم لأنه لا يريد الكلام. استغنى عنه منذ وقت طويل. ومادامت البشرية صمّاء فلماذا لا يكون هو أبكم؟ ولَمّا كان يرفض الكلام إلى جانب أنه أُمّي لا يعرف القراءة والكتابة فقد لجأ إلى التعبير عمّا يَجيشُ في صدره بالقنابل والطلقات والصواريخ المضيئة. يسمونه في ناپولي قاذف الفرقعات، فما يُطلِقه ليس طلقاتٍ حقيقيةً وإنما فرقعات. رجلٌ غريبُ الأطوار». كذلك لدينا حوار لويجي وألبرتو. فضلاً عن صراع الأجيال الناضح من هذا الحوار السريع، فهو يركّز جدًّا على مسألة الفائض اللُّغوِي وتبرُّم الشباب به وحرص الكِبار عليه، كما يتضح من هذه الفقرة:
«ألبرتو: أعندَك ما تقولُه؟
لويجي: أنتم معشرَ الجيلِ الماضي لا تستطيعون الكلامَ دُون الرُّجوع إلى قواميسِ التقاليد. مادمتُ
 قد حضرتُ إلى هنا فلا شَكَّ أنَّ لدي ما أقوله.
ألبرتو: وماذا ينبغي أن أقول حسب قاموس جيلِكم؟
لويجي: تقول (حسنًا؟)، متبوعةً بعلامة استفهامٍ طولُها متران ونصف.»
 في هذه الإشارات الثلاث، لدينا مشكلةٌ عميقةٌ في التواصُل تُشفِي على الخَرَس. فالرمز المقتضَب الذي تصطنعه عاملةُ الاختزال (إلفيرا) يضرب بعرض الحائط مَدَى واسعًا من ظِلال المعاني وألوان التعبير الإنساني التي لا سبيل إلى ضغطها في مثل هذا الرمز، والفائض اللغوي الذي لا يُطيقُه الشابُّ لويجي هو ما يمنح الأحاديثَ دفئَها بين البشَر. لنَمضِ خُطوةً أبعد ولنسمحْ لأنفسِنا بالاستطراد، في الحقيقة يبدو الفائض اللغوي باعثًا على الدفء بدرجةٍ ما في العلاقة بين العبد والربّ. هذا ما تشهدُ عليه فكرةُ تكرار الذِّكر والتسبيح في الأديان المختلفة، وإطالة السُّجود في الإسلام، والواقعة القرآنية مشهورةُ التفسيرِ في سورة (طه) بخصوص حديث سيدنا موسى مع الله: «وما تلك بيمينِك يا مُوسى؟ قال هي عصاي أتوكّأُ عليها وأهشُّ بها على غنَمي ولِي فيها مآرِبُ أخرى». عَودًا إلى موضوعنا، تبدو حالة العم نيكولا زُبدةَ اليأس مما وصل إليه حالُ المجتمع البشري من تفكُّك الروابط وفقدان القدرة على التواصُل والضيقِ بالكلام، ولأنه يأسٌ أصيلٌ جدًّا، فما يُطلِقُه الرجلُ «ليس طلقاتٍ حقيقيةً وإنما فرقعات». نلمح هنا وعي الكاتب متدخّلاً في تلقائية الحِوار، فبالتأكيد لا يُفترَض في بائع الألعاب النارية أن يُطلِق طلقاتٍ حقيقيةً، وإنما يحاول دي فيليپُّو أن يَلفِتَنا إلى لاجَدوى ما يفعلُه العم نيكولا، الذي لا ينطق خلال المسرحية إلا قبل أن ينتحر.
العلامةُ الأخيرة بخصوص الخَرَس المجتمعي تجيءُ على لسان (پاسكوال) في حواره مع ألبرتو: «عندما أصبح بعيدًا عن الناس أُكلّمُ نفسي وأشعُرُ بأني أُشرِفُ على الجُنون. أريدُ أحدًا أُفضِي إليه بأسراري. أحدًا يَسمعني. لم أعد احتملُ أن ًاصغِي دائمًا إلى نفسي». هنا يبدو الحديث مع النفس هو الحديث الوحيد الممكن.
ثمة موضوعان آخَران يتراسلان مع فقدان التواصل، ويُسرِّبُهما الكاتبُ إلى وعينا بلُطفٍ شديد. أولُهما هو أنَّ الحُرّيّة الوحيدة المُتاحة حَقًّا هي حرية التخلص من عبء الحياة، حيث يقول كارلو عن نيكولا: «منذ قليلٍ طلبَ رجُلٌ ألعابًا ناريةً لعيد ميلاد زوجتِه. كان مستعدًّا لدفع أي مبلغ. لكن ما الفائدة؟! قال إنه لا يستطيعُ أن يقدِّمَها له لأنه يُعِدُّ عُبُوَّةَ بنغال خضراء استعدادًا لوفاته، لأن اللون الأخضر هو علامةُ خُلُوِّ الطريق. فهو يرى أن الإنسان ليس حُرًّا إلا في أن يموت». كذلك تقول روزا في حديثها مع ألبرتو: «أترى أن الإنسان يمكن أن يثق بأحدٍ في هذه الأيام؟ ما أستطيع أن أقوله لك هو أنني أفكر أحيانا في أن أفتح النافذة وألقي بنفسي منها».
والموضوع الثاني هو الموقف المعرفي للبطل (ألبرتو) إزاء ما رآه من أحداث قتلٍ وسرقة، فهو يكتشفُ مرّةً واحدةً أنّ ما رآه كان حلمًا، وكما تتبدّد أدلة إدانة أسرة (تشيماروتا)، تتبدد معها الصبغة المادية لما رآه (ألبرتو)، فهو لا يملك حتى دليلاً على أنّ ما رآه كان حلمًا. ويتضح هذا في قولِه للويجي حين سأله إن كان متأكدا من أنه كان يحلم: «إنني لا أملك أدلة. هذا متأكد منه تأكدي من وجود الله».
باختصارٍ، يضعُنا دي فيليپُّو في قلب أزمة الوُجود البشري. فأشخاص مسرحيتِه لا يستطيعون التواصُلَ فيما بينهم كما لو كانوا فقدوا اللُّغة بدرجاتٍ متفاوتة، كما لا يشعرون بحُرّيّةٍ إلا في التخلُّص من حياتِهم. والشخص الوحيد الذي يتحول إلى هدفٍ مشترَكٍ لتواصُل أفراد الأسرة المتهمَة هو ذلك الذي (حلَم) وآمنَ أنه كان يحلُم، فتجرَّدت معرفتُه من الأدلّة المادية التي يتطلبُها الواقعُ بقيُودِه وتحولَت إلى إيمانٍ مُتعالٍ على مثل هذه القيود. ربما حاول (دي فيليپُّو) منذ أكثر من سبعين عامًا أن يلفتَنا إلى الواقع الإنساني المثير للشفقة بضغط الحياة المادية وقيودِها، وأن ينبهَنا إلى أن المَخرَجَ منه هو الحُلم - وهو المُعادلُ المعرفي للإيمان تبعًا للنسَق البنائي لهذه المسرحية، ويبدو أنه المفهومُ الأكثر ملاءمةً لعنوان المسرحية (أصوات الأعماق) – فبالإيمان/ الحُلم فقط يُرجى أن يعود الدفءُ إلى حياتنا. هو نَصٌّ تسامى على حِقبتِه التاريخية وقدّم أزمة الإنسان في مستوياتٍ مختلفةٍ للتلقّي، وأظنُّ تعريبَه وبعثَه على خشبة المسرح مُثريًا لحياتنا المسرحية والرُّوحية.

 


محمد سالم عبادة