أفراح القبة.. ثغرات الصمت تكشف ما وراء البوح

أفراح القبة..  ثغرات الصمت تكشف ما وراء البوح

العدد 729 صدر بتاريخ 16أغسطس2021

ثمة طبيعة بالغة التعقيد لوعى الذات الإنسانية بالزمن ومدى السرعة التي ينطلق بها، فما يستحيل عودته يولد في النفس الجزع، واستحالة الإعادة تعد أهم خصائص الزمن، مما يجعل ثمة جهل بالمصير وهو ما يشكل هاجساً دائماً للذات الإنسانية، وما يزيد الأمر حيرة وثقلا هو اكتشاف الذات الإنسانية لفكرة تعدد الأزمنة، ومن ثم اكتشاف غربتها في هذه التعددية الزمنية.
ذلك  الوعي المكثف بالغربة بمستوياتها  المتعددة والمختلفة يختزل حضور الذات في  لحظتها  الآنية، فيبدو الحاضر ذا ثقل قادر على حجب الماضي وما به من ذكريات ويتجلى الحاضر أكثر هيمنة، فتظل تلك الحالة من الآنية مسيطرة على الذات الإنسانية إلى أن يظهر ما يحاول إلقاء الضوء على الماضي ويكشف ستره ،هنا يضطر جميع أطراف الحكاية إلى البوح فتتعدد الحكايات، وتتعدد الأزمنة وزوايا الرؤى بل وتتعدد الحقائق ليهمين السؤال الأهم أين الحقيقة وأين الواقع الموضوعي إن صح أن كل شيء نسبي؟.                                                                                           
يقدم مسرح الشباب مسرحية “افراح القبة” عن رواية نجيب محفوظ التي تحمل نفس الاسم أفراح القبة اعداد وإخراج يوسف المنصور، منذ اللحظة الأولي من العرض تدرك كمتلقٍ أن المخرج يعتمد علي تكنيك المسرح داخل المسرح “الميتاتياتر”  وهو أسلوب درامي يقوم علي ادخال مسرحية داخل مسرحية، ويؤدي ذلك إلي بنية مُركبة تحتوي على زمانيين ومكانيين وثمة تداخل دائم بين الزمان والمكان، هذا إلى جوار أن المسرحية إعداد عن رواية أفراح القبة وهي رواية تتخذ من المسرح وسيلة أساسية يمكن من خلالها الكشف عن مكنونات كل شخصية روائية فيتبدى الفعل جليا بداخل السرد الروائي.
والسرد في هذه الحالة يأخذ شكلا مُغايرا، فقد يختلف ترتيب الوقائع في الحكاية عن ترتيبها زمنيا في الخطاب السردي، مما يولد مفارقات زمنية ما يعني مقارنة نظام ترتيب الأحداث والمقاطع الزمنية في الخطاب السردي بنظام تتابع هذه الأحداث في القصة، وفي رواية أفراح القبة يعتمد الزمن علي التداخل والتشظي والحكاية متعددة الأبعاد، ولذلك يلجأ الراوي إلي المفارقات الزمنية ويقطع زمن السرد، ليجسد رؤيته فيسترجع الماضي عبر الشخصيات والأحداث أو يستبق الأحداث عبر الشخصيات والأحداث أيضا، وفي مسرحيتنا أعتمد المخرج علي تداخل الأزمان وكانت تقنيات الاسترجاع والاستباق ضمن أدواته، معتمدا تنفيذهما من خلال الفعل المسرحي، والذى يعد الصراع هو جوهره  ويجسد لنا المخرج هذا الصراع من خلال لوحاته الدرامية، التي تقدم الحكاية يتخللها الصراع بأشكال مختلفة، وكل شخصية درامية لها أثر في الحكاية الأساسية والتي تتلخص تيمتها في رحلة البحث عن قاتل تحية، وهي تيمة بولسيه  تسعي منذ البداية إلي محاولة العثور علي القاتل والكشف عن هويته ومن ثم معاقبته، مما يدفع الفعل إلي التوهج الدائم علي خشبة المسرح ويساهم في تسريع الإيقاع، فتهزم فكرة الملل التي تقف بالمرصاد أمام المتلقي نظرا للمدة الزمنية التي يستغرقها عرض المسرحية في الواقع وأثر ذلك علي المتلقي، وقد ساهمت تلك التيمة البوليسية التي اختار المخرج أن يبدأ منها في تسريع الأحداث وذلك من خلال جثة تحية التي استهلت الأحداث الدرامية، وجعلتها أكثر تشويقاً والتي ساعدها فعل الممثلين على ضبط الإيقاع واستمرار عامل التشويق طوال مدة العرض.
وباعتماد المخرج يوسف المنصور علي أسلوب” الميتاتياتر/ المسرح داخل المسرح” والذي يعد جوهره الوعي بالذات المسرحية بين الواقع الدرامي والوهم الفني، فإن كل شخصية تقدم الحكاية من وجهة نظرها ومن ثم تري الشخصيات من وجهة نظرها، ويري المتلقي المشهد من جديد كما تتصوره الشخصية المختلفة عن الأخرى، وتستطيع كل شخصية مع نهاية حكاية الشخصية المقابلة لها أن تعترض، وتطالب بحقها في أن تعيد الحكاية من جديد، وهنا تتجلي وطأة الزمن بثقله وتكراره اللامتناهي ففي الإعادة تفاصيل أشد بؤساً وأكثر قسوة، فالجروح غائرة، والتناقض جوهر الشخصيات وهو أحد وجوه المستحيل، وذلك التكرار يجعل الشخصيات في حالة من اختلال الشعور بالواقع وبالذات، ففي التكرار اختلاف وتشابه، ليس نسخاً لما كان بل إنه انتاج لشيء جديد، فكل شخصية تكرر الأحداث من وجهة نظرها مما يؤدي إلى استمرارية الهدم وإعادة البناء، وهنا في مسرحية أفراح القبة قد يبدو التكرار في لحظة ما إرجاء للفقد ومحاولة بائسة لاستعادة ما أصبح مستحيلاً.
أن تستعيد ذلك الحبيب المفقود، أو الماضي المفقود أو كليهما معها، فعودة تحية من جديدة قد تعيد إلي الشخصيات الدرامية في المسرحية حياتها، وتوازنها وذواتها الإنسانية من جديد، وعلى ذلك فإن التكرار للأحداث الدرامية من وجهة نظر كل شخصية فيه مواجهة للغياب، مواجهة للفقد ومحاولة لتجاوزه، أما التسليم بموت تحية يؤكد على انهيار عالم الشخصيات، والقبول باللحظة الآنية والتي تعني القبول بالموت.
 أراد عباس المؤلف المسرحي داخل الرواية أن يسعي لكشف كل ما هو تحت السطح، فقدم لحظة فارقة وهي لحظة إعلانه عن مسرحيته، فعباس هو الشخصية التي يمكنها كشف أسرار الجميع من خلال عرضها في مسرحيته أمام الجميع، وعباس هو ابن حليمة وكرم يونس الملقن في المسرح الذي سيقدم عليه عباس مسرحيته بعد أن قُتلت تحية، وذلك ليعري الجميع أمام أنفسهم، ويعد كرم من أكثر الشخصيات الدرامية وضوحا فهو يري الجميع كاذب بما فيهم أمه جدة عباس، وما يعرفه عن سوء خُلقها وانهزامها أمام الرغبة في الحصول على لقمة العيش، وقد تربي كرم على التنازل لكسب الرزق، أما الأم حليمة  فقد وضعها الابن عباس موضع الشك وأحال عليها كثير من الذنوب التي لم ترتكبها وقد أهالها أن ينسب لها مالم تفعل في مسرحيته التي تقدم، لذلك تدخلت في حكايته وقدمتها كما تراها مدافعة عن نفسها ومبررة لأفعالها و مؤكدة على  شرفها وكرامتها، أما طارق فهو الذي يحب تحية ولا يريد زواجها، و يقيم علاقة مع أم هاني التي تصرف عليه دون أدنى إحساس منه بخجل، ويعد طارق نموذج للمتردد المتسلق والذي يأبى أن يجتهد مادام يحيا في رغد ويجد من يصرف عليه، أما سرحان بيه صاحب المسرح فهو نموذج واضح لذلك البورجوازي الغادر الذى يفعل أي شيء في سبيل أن يحصل على ما يريد، وعن( تحية) فهي رمزا للحياة والحب والوطن، بهجتها تضفي على المسرحية روحاً جديدة، وحزنها يُشعر بالآسي فهي مفتاح البدء في اللعبة وحل اللغز في نهايتها. .
مسرحية أفراح القبة عن الغدر والحب واليأس والأمل مسرحية تقدم الذوات الإنسانية وما يعتمل بها من تناقض واضح، ومن قبول وعدم قبول لهذا التناقض، فهي تكشف ذلك المسكوت عنه في كل شخصية مقدمة على خشبة المسرح، وقد تبدو الشخصيات الدرامية في لحظات متفرقة من العرض المسرحي وكأنها مرآة عاكسة لبعض مما في نفس المتلقي، فيشعر أحياناً بأنه يعرف كل شيء ويتتبع كل خيط درامي بوعي كامل، وأحياناً أخري أن عليه كمتلقٍ أن يمعن النظر من جديد ويري من زاوية أخري ويتابع الحكاية بعين أخري.
قام بدور عباس “محمد تامر” وقد أداه بشكل متوافق مع طبيعة الشخصية التي تبدو الملائكية مسيطرة عليها، مع تأكيده على أن هذه الشخصية فعلها والذى يتبلور في تأليف مسرحيتها يعد هو الدافع الأول لرد فعل الشخصيات الأخرى، وكأن فعل شخصية عباس هو نقطة الهجوم على الوسط الساكن ومحرك الأحداث التي تقدم كل شخصية على حقيقتها، أما شخصية «تحية» قدمتها سمر علام بأداء يتوافق مع طبيعة الشخصية ويضيف إلى دراما العرض، و شخصية “الأم” والتي أدتها ياسمين ممدوح موافى تعد مفتاحا للعديد من التصرفات التي قام بها كرم فهي التي أثرت في تكوينه النفسي بشكل واضح، وقد أدت الدور بتمكن، وشخصية سرحان الهلالي قدمها عبد المنعم رياض وهو من أكثر الممثلين إقناعا وتميزا في هذا العرض، محمد عبد القادر استطاع تقديم شخصية” طارق” كما ينبغي أن تكون وهو ما كان إضافة للعرض بشكل واضح، أما هايدي عبد الخالق التي قدمت دور” حليمة” أدائها قادر على جذب المتلقي فهي من الممثلات التي تستطيع تطويع الجسد والصوت لخدمة الشخصية بحيث تتصور كمتلقي في لحظة ما أنها هي نفسها الشخصية الدرامية، أما شخصية أم هاني أدتها عبير الطوخي بشكل يمكنك كمتلقي من رؤية ما في داخلها من تناقضات، ويؤكد قبولها بحب يعوضها الابن والحبيب في آن معاً، حتى وإن كانت تدرك أنه حباً كاذباً، واستطاعت الممثلة أن تعبر من خلال أدائها عن تلك البنية المُركبة للشخصية الدرامية.
تصميم ديكور وإضاءة “عمرو الأشرف”  وبرغم من واقعية الديكور الا أن ميكانيزم تفكيكه وتركيبه الذي بدي سريعا يؤكد علي مدي إتقانه، فالواقعية ليست نقلا حرفيا للواقع وليس الأهم فيها أن تكون كتل الديكور ضخمة لا تحرك من مكانها وإنما الأهم كيفية استخدامها، وأنه يمكن التغيير بين المشاهد دون استغراق وقت وتشتيت المتلقي، ديكور العرض يعبر عن مكان الأحداث بوضوح تام: فتارة يتحول إلى المسرح الذى يقدم عليه عباس مسرحيته، وتارة أخرى يصبح بيت حليمة، وفي لحظة يتحول إلى بيت تحية، وفي لحظة مُغايرة تماماً يعبر عن  اللحظة الآنية والتي تظهر أمامنا ومن ثم تتوارى لتسكن الغياب، ويظهر الماضي محققاً سطوة التناقض ولحظة الاستحالة التي مضت فيعلو صوت انزياح الآني في مقابل ما كان في الماضي.
 أما الإضاءة فتعبيرها عن لحظات الدراما كان مناسبا تماما للعرض، فالألوان والبؤر الضوئية لم تكن بشكل مجانى وإنما كلما تطلبت اللحظة الدرامية ذلك  .
تصميم الأزياء «عبير بدراوي” وساهمت بشكل واضح في إضفاء الجو العام المناسب لطبيعة العرض المسرحي، وتعدد الحكايات فيه، هذا إلي جوار أنها أدت إلي استكمال الصورة المرئية لكل شخصية عند المتلقي، وبالتالي ساهمت في تكوين الانطباع  المطلوب عن الأبعاد الدرامية لكل شخصية  داخل العرض.  .                                                                                          التعبير الحركي “المناضل عنتر” أضاف جمالا علي العرض المسرحي فلم تكن الحركة المستخدمة مقحمة وإنما كانت في أماكنها وبانضباط واضح، ومن اللافت للنظر في عرض أفراح القبة أن جميع عناصره المسرحية متكاملة بوضوح.
 ولأن الجميع في حالة من التركيز والاهتمام بجميع التفاصيل داخل العرض، ظهر العرض بشكل جيد وايقاع منضبط وعدم تشتت على الرغم من تعددية الأصوات وتفرع مسارات الصراع الدرامي والثيمات بداخله، وهو يعد من العروض التي أجاد الإعداد فيها من حيث تحويل الرواية ذات البنية المحددة القائمة على السرد إلي المسرح المعتمد في جوهره على الفعل، النابع من الصراع الدرامي، مسرحية أفراح القبة يمكنها أن تؤسس لفكرة أن انضباط وتوافق جميع عناصر العرض، يؤدي بالضرورة إلى عرض مسرحي جاذب للمتلقي ويحفزه على التفكير والنظر من زوايا متعددة.


داليا همام