العدد 831 صدر بتاريخ 31يوليو2023
انتهت معركة الفودفيل الشائن في ساحة المحاكم، عندما مثّل جوق الكوميدي العربي مسرحية «القرية الحمراء» لكاتبها أمين صدقي، بطولة عزيز عيد وروز اليوسف ونجيب الريحاني، الذي خرج من المسرح قبل انتهاء العرض لعدم رضائه عما يُقدم من إسفاف!! وتفاصيل هذه النهاية المؤسفة بدأت في أبريل 1916 عندما نشر الناقد المسرحي «ميخائيل أرمانيوس» مقالة نقدية حول المسرحية في جريدة «الوطن»، جاء فيها الآتي:
رواية جديدة أخرجها لنا صديقي الأديب أمين صدقي باسم «القرية الحمراء»، وطلب مني بعض الإخوان أن انتقد الرواية فامتنعت لأول وهلة خشية أن تؤثر الصداقة التي تربطني بالمؤلف، ولكني عدت وقلت في نفسي إن الانتقاد حلو وجميل متى روعي فيه واجب اللياقة والأدب، فأذعنت للإشارة على ما بي من عجز وقصور. أما أمين صدقي فلشخصه عندي من المنزلة السامية بمقدار ما أصبح لروايته هذه من الاحتقار!! رواية أخذ موضوعها الاجتماعي عن «موباسان»، ثم حاول أن يطبق وقائعها على فلاحي إحدى القرى التابعة لمركز دسوق من أعمال مديرية الغربية، فأفسد على المؤلف روايته بعد أن جعلها خليطاً مشوهاً من العوائد الغربية والشرقية، فكان مثله مثل من يرتدي ثياباً أفرنجية وفي قدميه «بُلغة» مغربية! فلا هو أخرج الرواية حسب ذوقها الأصلي، ولا جعل الوضع الذي اختاره ملائماً لعادات المصريين في الوجه البحري. ولعمرى لولا ما أبداه الممثلون والممثلات من البراعة والإجادة في تمثيل أدوارهم، ولولا بقرة حلوب ظهرت على المسرح فأضحكت الحاضرين بنعيرها من حين إلى حين، وحمار امتطاه العم سلمان ساعي البريد .. لخرج الناس ساخطين صاخبين! والآن تعالى معي أيها القارئ لأريك «القرية الحمراء» على نور مصباحي: يُرفع الستار عن دار أبي رزق وأم رزق وابنتهما «عين أبوها» وفي ضيافتهم ناعسة وأمها متأهبين - عدا الابنة - للذهاب إلى مُولد سيدي إبراهيم الدسوقي، فيدور بينهم الحديث بكل ما قُبح وخُبث من الألفاظ والعبارات على مواضع لا تتفق مع رعاية الآداب وسلامة الذوق! وإذ يفاجئ الدار - قصد الراحة من عناء الصيد - رضوان بك عمدة القرية، والدكتور ثابت بك طبيب المركز [ومثله نجيب الريحاني]. وإذ ذاك تقدم لهما على سبيل التحية أكواب من شراب «السوبيا»! وعلى أثر ذلك يخرج أهل الدار تاركين ابنتهم مع العمدة والطبيب!! ويلوح لي أن عدم إلمام المؤلف بشؤوننا الاجتماعية أدى به إلى تصوير عادتنا على غير حقيقتها، لأننا لم نسمع قبل اليوم أن فلاحي بلادنا يقدمون السوبيا تحية للزائرين، وهم لا يعرفون اسمها ولا رسمها!! كما لم يتعود أهل قرانا مهما كانوا من السذج البسطاء أن يتركوا ضيوفاً لهم من الحُكام مع ابنتهم العذراء وحيدة فريدة في الدار مؤثرين الذهاب إلى المولد. وأنكى من ذلك تلك الأخلاق المتناقضة التي صورها لنا للعمدة رضوان بك على المسرح. ذلك العمدة الذي تمكن من الاختلاء بالفتاة «عين أبوها» في منزلها أولاً، وبعد أن عبث بعفتها على جرف المسقاة وقتلها، ثم يموت بتبكيت الضمير. وهذا مغزى الرواية وملخصها .... ولو ذهبنا مذهب المؤلف في أن العمدة دنس رجس ومن طبعه الإقدام على أفظع مما ارتكبه، فهل مثل ذلك المجرم الأثيم يكون ذا ضمير يوخزه فيموت به؟! [ثم جاء الناقد بأمثلة أخرى كثيرة، واستكمل نقده قائلاً]: هذه أمثلة قليلة أقيمها على فساد النظريات التي رُكبت منها أجزاء هذه الرواية، ولو إني حاولت أن أعدد معائبها وأبين تشويش وقائعها واضطراب حوادثها لما وسعني المقام. وما كانت الرواية لتستحق هذا الاهتمام لولا أن الممثل الفني المعروف «عزيز عيد» أعلن بأنها الحجر الأول في تشييد بناء التمثيل العربي الصحيح، فخشيت أن يتداعى البناء كله بعد حين إذا كان الأساس هكذا غير متين. أما لغة الرواية فقد أفرغها حضرة واضعها في قالب من أسلوبه الدارج، تتنازعه لهجة فلاحي بحري، ويشوهه لحن صعايدة قبلي، وتتجاذبه عامية الصبية الصغار. وبالاختصار لا ترجع إلى ذوق ولا يمحصها نقد. أكتب هذه السطور والله يعلم والضمير يشهد إني لا أقصد بها سوى استنهاض همة حضرة صديقي المخلص «أمين صدقي» إلى ما يعلي شأنه ويرفع قدره إلى مصاف روائيينا النبغاء، الذين صرفوا نضرة العمر وزهرة الشباب في الدرس والتعريب والتأليف، حتى فازوا أخيراً ببغيتهم ورضى عنهم خاصة الناس وعامتهم.
الاعتداء على الناقد
بعد يومين من نشر هذه المقالة نشرت الجرائد حادثة غير مسبوقة، وهي حادثة اعتداء المؤلف «أمين صدقي» على الناقد «ميخائيل أرمانيوس» بسبب نقده لمسرحية «القرية الحمراء»، ونشرت جريدة «الوطن» بعض تفاصيل الحادثة، قائلة: ذكرت الصحف حادثة الاعتداء على حضرة الكاتب الفاضل ميخائيل أفندي أرمانيوس بسبب نقده الأدبي الذي تناوله على صفحات الوطن يوم الثلاثاء الماضي، بشأن إحدى الروايات التمثيلية، حيث احتال مؤلف تلك الرواية على حضرة ميخائيل وتمكن من الاختلاء به في غرفة متطرفة بدار التمثيل العربي، بينما كان الجمهور لاهياً بالتفرج على التشخيص! فقالت جريدة الأخبار: «فلما وصل ميخائيل إلى الغرفة وحيّا صدقي، فقابل هذا تحيته بأن بصق في وجهه، وهجم عليه يريد خنقه فصرخ .. وفي الحال أرخى الستار وهاج المسرح والقاعة بمن فيها، وأوقف التمثيل وتراكض الممثلون فرأوا صدقي وهو ممسكا بميخائيل. ولام الكثيرون صدقي على عمله، وقال له الأستاذ إبراهيم رمزي: إذا كان هذا جزاء ناقدي الروايات، فلا جدال في ترقي الفن. وقد أبلغ ميخائيل الحادثة إلى النيابة بواسطة أحد كبار المحامين». وروت جريدة الأفكار الحادثة في عدد أمس تحت عنوان «إياكم والانتقاد»، وعادت اليوم فنشرت بشأنها مقالة خطيرة بعنوان «حادثة المسرح أو المؤلف والناقد» ننقل منها الفقرات الآتية: «قرأت في الصحف أن مؤلف رواية مُثلت حديثاً تصدى لنقدها أحد الكُتّاب فما كان من حضرة المؤلف إلا أن دعا ناقده وقد رآه في دار التمثيل لمقابلته في إحدى غرف الممثلين، فلبى دعوته ظناً أنه سيبحث معه في مواضع النقد فما رآه حتى بصق على وجهه، ثم انقض عليه كالأسد الكاسر، فأسرع الممثلون إليه فانقذوه من بين مخالبه ... وبعد فليس أمام النقاد بعد اليوم إلا أمران لا ثالث لهما. أما الصمت وأما التقريظ. هذا إذا أحبوا أن يصونوا وجوههم عن أن تُجلل ببصاق حضرات المؤلفين. وأن يحفظوا صدورهم وأعناقهم من أيديهم وأرجلهم فلقد رأينا الأيدي التي تحمل الأقلام تُحسن «البوكس» في بعض الأحيان» ... هذا وقد وصلتنا في بريد اليوم الرسالة التالية وهي من أحد أفاضل الكُتّاب قال فيها: «يشهد كل من طالع نقد حضرة الكاتب الأديب ميخائيل أرمانيوس على آدابه العالية وميله الكلي إلى المحافظة على شعور حضرة أمين صدقي مؤلف رواية «القرية الحمراء»، التي تناول ميخائيل نقدها. وقد لحقه من أجلها ما قابله بحلم واسع وصدر رحيب. وإني أثباتاً لذلك أروي للقراء بعض ما تحدث به الأدباء في أنديتهم العمومية ومجالسهم الخصوصية في هذا الصدد: قال حضرة الفاضل حسين رمزي الأستاذ بالجامعة المصرية: يظهر أن الاستعاضة عن الجدل بالبصق والخنق هي من الاكتشافات الجديدة، التي لم تصل إلى علمنا قبل اليوم .. وقال حضرة الدكتور مراد الحسيني: إن الإهانة التي لحقت بميخائيل تشمل كل أديب يجري في عروقه دم الشهامة والإباء. وقال حضرة الأستاذ إبراهيم رمزي: كأن المؤلف الذي بصق في وجه ناقده استل خنجراً وطعن به نفسه لأنه دلّ بذلك على عجزه. وقال حضرة الأديب عبده لطفي من خريجي كليات فرنسا: إن هذه الحادثة مثلت عيوبنا الأخلاقية أصدق تمثيل. وقال حضرة الفاضل «نجيب الريحاني» الذي مثّل دور الطبيب في الرواية المذكورة: إني قبل نهاية التمثيل أسرعت بالهرب خزياً وتوارياً عن عيون المتفرجين. وقال حضرة البارع محمد صادق ممثل دور العم سلمان مازحاً ومداعباً: يجب على زميلي مؤلف هذه الرواية أن يكتب عليها «حقوق البصق محفوظة للمؤلف»».
هذه الضجة أسفرت عن بلاغ إلى النيابة، ومن ثم قضية تُنظر في المحاكم، أخبرتنا بها جريدة «الوطن» في منتصف مايو 1916 قائلة تحت عنوان «محاكمة المؤلف لتعديه على الناقد»: «تحددت جلسة يوم 15 الجاري بمحكمة جنح الأزبكية لمحاكمة حضرة أمين أفندي صدقي المُعرّب الروائي بجوقة الكوميدي العربي من أجل تعديه على حضرة الكاتب الفاضل ميخائيل أرمانيوس الذي يقوم عنه بطلب الحق المدني حضرة صاحب العزة المحامي الشهير إسكندر بك عمون. هذا وقد قدّم حضرته بلاغاً آخر إلى النيابة العمومية ضد المتهم المذكور لاشتراكه مع جناب الخواجة عزيز عيد مدير هذا الجوق على التشهير به بواسطة النشر في إعلانات عمومية».
وبعد نظر القضية بيوم واحد، قامت الجريدة بنشر التفاصيل تحت عنوان «الحركة المباركة والنتيجة الباهرة في تياترو برنتانيا»، جاء فيها: انعقدت صباح أمس محكمة جنح الأزبكية لتنظر في قضية حضرة الأديب أمين أفندي صدقي المؤلف الروائي بجوقة الكوميدي العربي لتعديه على حضرة الكاتب المفضال ميخائيل أفندي أرمانيوس الذي تنازل أمام المحكمة عن دعواه، بناءً على حضور أمين أفندي صدقي إليه ومصافحته إياه وتقديم الترضية الكافية في خطابين: الأول نصه يقول: «حضرة الكاتب الفاضل ميخائيل أفندي أرمانيوس .. أتأسف لأنه بدرت مني بادرة استياء من نقدكم في جريدة الوطن الغراء روايتي «القرية الحمراء» فاستفزني استيائي إلى الإساءة إليكم على رغم إرادتي مع اعتقادي أن لكل كاتب الحق في نقد ما يرى نقده بإخلاص وإنصاف. ومع يقيني بعد ما عرفته من أخلاقكم في مدة الصداقة التي كانت بيننا قبل هذا النقد، إنكم لا تكتبون إلا بالإنصاف والإخلاص. وقد كدت بعد ما وقع أن أعود إليكم بعد ساعة للاعتذار فلم أوفق للاجتماع بكم. ويسوؤني أن بعضهم أشاع أنني هجمت عليكم قصد ضربكم والتفّ [البصق] في وجهكم، وهذا أمر غير صحيح لأنني لست ممن يفعلون مثل هذه الأفعال الشنيعة، ولا أنتم ممن يجترأ عليهم بمثل هذا لاسيما وأن صداقتنا القديمة تمنعني من أن أفعل ذلك، ولو خرجت عن طور التفكير ساعة الغضب. أما ما نشرته في جريدة الأفكار الغراء من أن هناك أسباباً دفعتكم إلى انتقاد روايتي، فقد قصدت بتلك الأسباب خلافاً شخصياً وخلافاً فنياً بينكم وبيني في هذه الرواية وليس هناك سبب آخر مما يزعمه بعض المفسدين. ثم أنني أبلغكم أن لا دخل لي في الإعلانات التي وزعت في يوم 11 مايو سنة 1916 وفيها تصيد لكم، لأنني ككاتب ومُعرب أنكر هذه الطريقة إذ في البلد صحف يكتب فيها كل امرئ ما يشاء. وإني في كل حال أطلب مصافحتكم استبقاءً للمودة التي كانت بيننا في 13 مايو سنة 1916. [توقيع] «أمين صدقي».
وجاء في نص الخطاب الآخر الآتي: «حضرة الكاتب الفاضل ميخائيل أرمانيوس: بلغني أن بعضهم قال في مركز رسمي أن كلامكم عن الفودفيل في الصحف هو لعلاقة لكم بإحدى ممثلات جوق الفودفيل، وقد طلبتم شهادتي في ذلك لعلاقتي بهذا الجوق. فأنا أقرر أن تلك الإشاعة باطلة نظراً لما اختبرته بنفسي من أخلاقكم في أثناء عشرتي لكم. وكل ما يقال غير ذلك ما هو إلا إشاعات لأغراض خصوصية تشاع تبريراً لشيء في نفوس المشيعين. [توقيع] «أمين صدقي».
وينهي ميخائيل أرمانيوس الموضوع برمته – في ختام هذه المقالة، وبعد نشره لخطابي أمين صدقي – قائلاً: «وعليه فإني أشكر حضرة أمين صدقي وأكبر صنيعه معي وحسن ظنه فيّ واعترافه بإنصافي إياه فيما انتقدت به «قريته الحمراء»، ولأنه شهد بأن قلمي لا يخط إلا الحق بصراحة وإخلاص، فهذا ما عرفه ووثق به قُراء الصحف أمثال: الوطن والمقطم والمؤيد من زمان طويل. وحسبي دليلاً على ذلك النتائج الباهرة التي نشأت عن مباحثي التي كُتبت بمداد الإخلاص في موضوع الفودفيل حتى أصاخت لها الحكومة فأرغمت جوقه الكوميدي العربي على تنظيف فدافيلها وحذف البعض الآخر من بروجرامها. وكان آخر ما أتحفت به الجمهور في إعلاناتها الأخيرة أنها رتبت وعدلت رواية «خلي بالك من إميلي»، حتى جعلتها جديرة بحضور الأدباء مساء اليوم في تياترو برنتانيا، وإني لعلى يقين من أن جوقة الكوميدي العربي أصبحت خليقة بالمساعدة والتنشيط وإقبال العائلات عليها مادامت سائرة على الخطة الجديدة التي اختطتها لنفسها. أما الخطاب الثاني فقد طلبت إلى الصديق الأمين أن يقرر فيه تلك الشهادة بذمة وأمانة. والذي نفسي بيده ما ردد هذا اليراع إعجاب الكثيرين بالفودفيلية الرشيقة الآنسة «روز اليوسف» إلا تنشيطاً لهذه الممثلة البارعة، التي تنبأ لها الممثل جورج أبيض بمستقبل زاهر باهر في عالم التمثيل، فأردت أن أجعل لها حظاً من هذا القلم، يعمل على تشجيعها وتنشيطها حتى تظهر قدرتها وبراعتها كما ظهرت في دور نعمة بنت الشحاذ حسن، الذي مثلته أخيراً في الأوبرا السلطانية بحذق وإبداع جعلا المتفرجين والمتفرجات يهتفون لها بلسان الإعجاب «لله ما أجملها» .. ويقيني أن اليوم الذي تحقق فيه «الفودفيلية الرشيقة» آمال الناظرين إلى مستقبلها بعين الرجاء قريب بالرغم عن كل حقود لئيم».