تأملات في نظرية المعرفة السيميوطيقية في تحليل الأداء (2)

 تأملات في نظرية المعرفة السيميوطيقية في تحليل الأداء (2)

العدد 709 صدر بتاريخ 29مارس2021

 تشير ظاهرة ما بعد السيميوطيقا الى أن جميع الروابط السيميوطيقية داخل العوالم والمحتملة وبين العوالم القصصية والعوالم الفعلية قد انكسرت . فمثلا، في المسرح بعد الدرامي، فان الشخصيات المماثلة لشخصيات مسرحية بيرانديللو «ست شخصيات تبحث عن مؤلف «، تظهر أمام الجهور في حقيقتهم المجردة بدونمساعدة الممثلين في ترجمة أو نقل المعلومات عنهم للجمهور . وفي هذا الموقف، تزول علاقة الممثل/الشخصية، بنقل مثلث نموذج اتصال التمثيل (الشخصية الدرامية – نموذج خشبة المسرح – الموضوع الجمالي ) الى أشكال النقل الخطية . وتضم أمثلة هذه الظاهرة أعمال فناني المسرح والأداء الذين يبحثون الامكانات الجمالية لمزج المسرح بالفنون البصرية . ويتحدى هؤلاء الفنانين درجة انغماس الجمهور الفكري والعاطفي، ناهيك عن البدني، في خلق الأداء المسرحي.
 العرض الذي قدمه المخرج جان فابر بعنوان « ملك الموت « ( عام 2003 فرقة مسرح بوبلين) هو مزيج من الفيديو والرقص والأداء المسرحي . ويقوم علي نصوص جان فابر وتصميم الرقصات، ويضم الفنانة ايفانا جوزيتش علي خشبة المسرح والراقص ويليام فورسيث في فيلم . وكفنان وسائط متعددة، يرفض فابر الحاجة الى خلق عالم قصصي علي خشبة المسرح، باستخدام العروض كمكان للتعبير عن ممارساته الوجودية وقلقه السياسي . وقد ظهر عرض «ملك الموت « كاستكشاف لعالم الفنان أندي وارول . وقد ألف فابر النص الأصلي لهذا اعرض 1996، ووضع له عنوانا فرعيا « مونولوج لرجل أو امرأة أو خنثى « . وفي عام 2000، وقام بموائمتها مع رقصات ويليام فورسيث ثم طوره لاحقا في عرض مسرحي مع الممثلة ايفانا جوزيتش . ومن خلال بناء الحدث المسرحي في شكل حوار مع وجهات نظر وارول العامة، يتامل فابر مع مشاكل المخنث الفنية عن طريق الاستعارة اللغوية، ويبحث رهابه الفني : قضايا التحول، وجمال نوع الجنس ( وبالتالي الجمال الخنثوي )، والكينونة المزدوجة، وتناقض كونك فنان، والموازنة بين الشهرة والتوق الى الغموض والعزلة . وتدور الأحداث في الترتيب المكاني لمسرح يدور بالفنانه ايفانا جوزيتش بالقرب من الجمهور المحيط الجالس علي وسائد . ويتجلى ذلك في صورة مونولوج ثابت لجوزيتش بجانب فيلم يعرض فورسيث وهو يتلو نص فابر، وفي نفس الوقت ارتجال جوزيتش الذي يتضمن تفاعلات مختلفة مع الجمهور . وفي عمل فابر، يتعرى المؤدي الى العري التام تقريبا . بالمعنى العملي، يتم عرض جوزيتش للجمهور وهي ترتدي قطعتي ملابس فقط، وبمعنى استعاري، تقدم نفسها كجسم يمثل – جوزيتش – الموجودة لتقديم شخصية، والفنانة، والراقصة ايفانا جوزيتش . وفي تخطيطاته الدرامية والأدائية، يعتمد عرض « ملك الموت» علي شكل حر لمقال تنظيري حيث يعمل المؤدي كمتحدث رسمي لفلسفة المخرج .
 تساعد حجة فيليب أوسلاندر حول المركزية المنطقية والاختلاف في نظرية الأداء في بحث الاختفاء بين الممثل والشخصية كما تتجلي في عرض فابر « ملك الموت « . وكما يدعي أوسلاندر، تستند نظريات التمثيل الرئيسية الثلاثة في القرن العشرين ( نظريات ستانسلافسكي، وبريخت، وجروتوفسكي ) الى درجات متفاوتة من اعتماد الذات علي العقل . وهذا الاعتماد في {اي أوسلاندر يجعل التفسير واحتمالات عمليات التمثيل محدودة، لأن كل هذه النظريات تتطلب أن نتحدث عن المتثيل في اطار الحضور ونشير الى ابداع الذات من لعبة الاختلاف التي تصنع الخطاب المسرحي . وتقديم الشخصية في عرض “ ملك الموت “ أقل أهمية من تقديم الجسم المادي للممثل، عندما ينتقل العرض المسرحي نحو قطب اللاتمثيل not-acting، لكي يستخدم مخطط اللاتمثيل/التمثيل الذي اقترحه مايكل كيربي . وفي هذا النموذج، يقدم قطب اللاتمثيل علاقات صفرية ziro relationships – علامة فارغة – لبين الدال ( جسم الممثل ) والمدلول (الشخصية الدرامية) . ولا تشارك رؤية الجمهور للشخصية الدرامية والشخصيات الدرامية الأخرى في انشاء علامة التمثيل . وفي نموذج اللاتمثيل، يتساوى الدال (جسم الممثل) مع المدلول (جسم الشخصية) . ولذلك تؤكد ظاهرة اللاتمثيل علي مادية علامة التمثيل ( جسم الممثل في مقابل جسم الشخصية) وتعيد التركيز علي العرض السيميوطيقي لجسم الممثل . في النهاية، تستفسر ظاهرة اللاتمثيل عن كثافة العالم القصصي وامكانية تمثيله . وكلما اعتمد الممثل علي نفسه وعرضها في الأداء يصبح بقاء العالم القصصي أقل، لأنه مادية حضور كل ممثل فرد هي التي تتولى نموذج خشبة المسرح : تتغلب فردية الممثل (أ ) علي فردية الشخصية (ب) التي يتم تقديمها للجمهور، وبالتالي ينكسر تناغم نموذج خشبة المسرح ( فالنظر الى (أ) علي أنه (ب) ويتم تفسيره علي أنه (ج) هو أ ب ج ) . وتستحوذ مادية (أ) وتميزها علي كل من (ب) و (ج) . وبالتنالي تفقد ممارسة اللاتمثيل طبيعتها السيميوطيقية ، وتقدم للجمهور ظاهرة مابعد سيميوطيقية حيث يصبح جسم الممثل مركز الاهتمام، ولكن ليس باعتباره حاملا للمعنى، بل في ماديته وايمائيته . فالعلامة المسرحية الأساسية، وهي جسم الممثل، ترفض أن تخدم الدلالة . وممارسة اللاتمثيل باعتباره أحد عناصر الحدث المسرحي، يقدم نفسه باعتباره بدنية مكتفية بذاتها auto-sufficient physicality تُعرض في كثافتها وامكاناتها الايمائية والشفهية، وايضا التوتر المنقول داخليا وخارجيا . وبرفض عمليات الدلالة، ويجاور اللاتمثيل واقع الجمهور ( استمرارية زمان ومكان المتفرج) مع واقع المؤدين ( استمرارية زمان ومكان الممثلين )، وتجاوز واقع الشخصيات الدرامية، والمشارك الثالث في ابداع نموذج خشبة المسرح (الممثل – الشخصية – المتفرج ) . انه يرفع من وعي الجمهور للوجود الفردي للممثل وسيرته الذاتية التي تصبح مضمونا للتواصل المسرحي، لأنه في ممارسة اللاتمثيل، غالبا ما يكون هناك وجود للجسم المقدس، الذي ينحرف عن القاعدة في المرض أو العجز أو التشوه ويؤدي الى انبهار الجمهور اللاأخلاقي أو قلقه أو خوفه . وتزيد البنية الأدائية لعرض “ ملك الموت “ وعروض جان فابر الجمالية المماثلة من صعوبة رؤية تفرد المحاكاة في المسرح وتميزها . وويفقد الأداء المسرحي خاصيته يضطلع جسم المؤدي، أي مادية حضور الممثل علي خشبة المسرح (مادة النطق الأدائي ومادته الأساسية ) بدور دالها (نموذج خشبة المسرح) ومدلولها (الشخصية الدرامية.
 انه يجعل المتلقي يتبنى المادة الفائقة لعلامة التمثيل . ويساعدنا العمل من خلال مفهوم المجال المسرحي السيميوطيقي – وهو أداة تربط المنهجين السيميوطيقي والفينومينولوجي في تحليل الأداء – علي قبول وبحث هذه الظاهرة .
- المجال المسرحي السيميوطيقي : تعريفاته وأشكاله ووظائفه
في أحد آخر كتبه « عالم العقل Universe of the Mind” عام 1990، يفهم البنيوي والسيميوطيقي الراحل يوري لوتمان مصطلح “ المجال السيميوطيقي” بأنه الفضاء النهائي للاتصال البشري – عملية الادراك اللانهائية، ومعلومات فك التششفير . وقد تميز مفهوم المجال السيميوطيقي بأنه مساحة الاتصال الدينامي، ويمكن تطبيق شرط التبادل الثقافي، الذي تحتفظ من خلاله كل ثقافة بوجودها الآني عبر المجالات الزمنية والجغرافية، علي فهم الحدث المسرحي باعتباره مركب من ترجمات آنية .
 يضم المجال المسرحي السيموطيقي المميز بديناميات التبادل الحواري وفعل الترجمة الدائم، الذي يحدث علي الحدود بين المسرح والجمهور، لهجات علاقات المسرح/الجمهور التي تتكشف في القرب الزماني المكاني للحدث المسرحي . فهو يتوظف باعتباره المساحة السيميوطيقية الأساسية التي توفر السياق والامكانية لكل من الاتصال الانساني وابداع أو توليد معلومات جديدة، ويضمن المعنى الابستمولوجي الأساسي للتحليل السيميوطيقي في دراسات المسرح . ويضم المجال المسرحي السيموطيقي ديناميات الباعث الادراكي في التقارب الثلاثي لفراغ خشبة المسرح، ومكان الجمهور، والفراغ فيما بينهما – مساحة التفاعل التواصلي بين خشبة المسرح والجمهور الذي يحدث داخل مدة المسرحية، ونتيجة تبادل الطاقة والمعلومات بينهما . فهو يسمح لنا أن نناقش ديناميات علاقة خشبة المسرح/الجمهور، من خلال النظر الى القوى الطاردة والجاذبة للنقل المسرحي .
 وعلي سبيل القياس علي تعريف فلاديمير فيرنادسكي للمجال الحيوي biosphere ككائن حي، يرتبط المجال السيميوطيقي عند لوتمان بالضبط والتحويل والتطوير داخليا وخارجيا . ونتيجة لشرط تطوير الثقافة، فان المجال السيميوطيقي عند لوتمان هو تحديدا مجمل المادة الحية وكليتها العضوية وهو أيضا شرط استمار الحياة . انه منطقة الحياة التي تزود المشارك بمرونة الروابط السيميوطيقية . وبوصف كل حدث مسرحي بأنه دراماتورجيا علاقات خشبة المسرح/الجمهور المركبة من ثلاثة أجزاء والتي تنشأ في كل فعل أدائي، يجسد المجال السيميوطيقي ديناميات الرسالة المسرحية واستجابة الجمهور العاطفية والفكرية .
 ويعرف لوتمان المجال السيميوطيقي بأنه مساحة متعددة القنوات في الاتصال البشري لاستبدال مخطط الاتصال الثنائي المتعلق بالمرسل والمستقبل والقناة التي تربطهما معا . ان تعارض الموجه/المرسل addresser/sender (الثنائي) في رأي لوتمان محدود للغاية بحيث لا يمكن استخدامه لشرح عمليات التواصل المعقدة بين محاورين منغمسين في مجال سيميوطيقي محيط موجود قبل أي شكل من أشكال الاتصال . وبالتالي، لكي يتوظف بشكل ملائم، فان ثنائية تخطيط الموجه /المرسل لا بد أن تنغمس وتستوعب في شبكة كبيرة من المتغيرات السيميوطيقية . ولذلك، فان المعاني التي تنشأ في شبكة الاحتمالات الدلالية والسياقية هذه يمكن التنبؤ بها وبمرونتها مثلما يمكن التنبؤ بعدد المشاركين الأفراد ومجالهم السيميوطيقي المعني . وبالنظر الى المجال السيميوطيقي علي أنه نسق بيئي، وشرط للتبادل الثقافي، وشكل من أشكال الاتصال المركب بين عدد من المتلقين، فمن الممكن تعريفه علي أنه حوار بين ممارسات التفسير المختلفة التي تحدث آنيا في فضاء خشبة المسرح وفضاء الجمهور وما بين هذين الاثنين . علاوة علي ذلك، فان المجال السيميوطيقي، كشكل من أشكال الاتصال الثقافي، ونوع من الاتصال الفني، يتوظف كمكان لزراعة لغات تواصل جديدة وظهورها . ويتحول المجال السيميوطيقي في حدث المسرح بعد الدرامي آلية لزعزعة سرد القصة سببيتها وشفهيتها وبصريتها، فهو يضمن تنوع الأشكال الفنية ( مثل السينما والفيديو والتمثيل الصامت وألعاب السيرك والرقص ) التي تساعد علي زيادة ومضاعفة الانساق السيميوطيقية المنشئه لللأداء المسرحي . يتميز المجال السيميوطيقي عند لوتمان بأربعة مبادئ أساسية . اذ يدل التغاير Heterogeinty على أن لغات المجال السيميوطيقي تعمل علي طول سلسلة متصلة من تتضمن أقصى درجات التبادلية الكلية لقابلية الترجمة والتبادلية الكلية لعدم اقابلية للترجمة . ويتجلي عدم التناسق Asymmetry في بنية المجال السيميوطيقي علي مستويات متعددة، بما في ذلك عدم تناسق الترجمات الداخلية، والمركز مقابل المحيط، وبنيات اللغة الشارحة . والحدودية Boundedness هي آلية التفرد السيميوطيقي (مثل) انشاء الحدود، التي تحدد جوهر العملية السيميوطيقية . فالحدود تجريدات وتوصف غالبا بأنها سلسلة من المرشحات ثنائية اللغة أو الأغشية التي هي بالتعريف سائلة وقابلة للنفاذ، من ناحية، وكمجالات للعمليات السيميوطيقية المتسارعة من الناحية الأخرى . وأخيرا تشير الثنائية الى نقطة بداية أي ثقافة تقوم علي التمييز الثنائي للفراغ الداخلي مقابل الفراغ الخارجي. ويضمن مبدأ الثنائية النمو الداخلي لثقافة معينة وتطورها وزيادة مستويات الحوار عبر محتوى تاريخي وجغرافي أوسع بين الثقافات المتجاورة . علاوة علي أنه يوفر آلية لتعدد لغات الاتصال وتوحيدها داخل ثقافة واحدة ويضمن ظهور لغات جديدة، تنافس الأشكال الفنية الأخرى . وعلي نحو متطابق يتميز العالم المسرحي بتغايره وعدم تناسقه وحدوديته وثنائية اتصاله، حيث تكون فيه اللغات التي تملأ الفضاء السيميوطيقي مختلفة، وترتبط ببعضها البعص عبر التدرج الذي يمتد من قابلية الترجمة المتبادلة الى عدم القابلية المتبادلة للترجمة . وبالنظر الى التغاير، وعدم التناسق والحدودية وثنائية الاتصال الموجودين في حدث المسرح بعد الدرامي، أوضح الامكانيات المنهجية للعمل باستخدام مصطلح «المجال المسرحي السيميوطيقي» بالنسبة لعلماء تحليل الأداء اليوم .
 المجال المسرحي السيميوطيقي وتحليل الأداء اليوم : ملاحظات عملية
 – المجال المسرحي السيميوطيقي والتغاير :
يتأمل لوتمان المجال المسرحي السيميوطيقي باعتباره ظاهرة زمانية مكانية وباعتباره مزيجا من مختلف اللغات الشفهية وغير الشفهية الموجودة في الحوار المستمر مع بعضنا البعض . ويوظف التعريف الزماني المكاني للحوار الذي يمكن أن يظهر كليهما في مساحة مشاركة المتحاورين، وفي زمان ومكان الموقف الحواري نفسه الذي ينطبق مباشرة علي الموقف الأدائي .
 ويتميز العالم المسرحي بانفصاله المكاني، وبالتالي يخلق داشرة سحرية للحدث المسرحي، التي ينتمي اليها كل من الممثل والمتفرجين . ولا تظهر وحدة المساحة السيميوطيقية للمجال السيميوطيقي فقط من خلال التكوينات البنيوية الشارحة metastructural formations : والأكثر حسما رغم ذلك العامل الموحد للحدود، الذي يقسم المساحة الداخلية للمجال السيميوطيقي من الخارج، يفصل داخلها عن خارجها . ويتميز المجال السيميوطيقي، باعتباره وجودا زمنيا، بتغايره. فدخول المتفرج الى قاعة المسرح ( علاوة علي اطفاء أنوار القاعة واضاءة خشبة المسرح) يفترض ضمنا حدودا لمساحة التقديم ومساحة التلقي ( حتى لو كان عرضا في الشارع أو احتجاجا سياسيا أو كرنفال أو مقايضة ثقافية ) ويخلق تغايرا في الثقافة المسرحية، ومجالا مسرحي سيميوطيقي . ويقدم التغاير نفسه، كتصنيف أساسي للاتصال المسرحي، في تعدد العناصر واختلاف وظائفها علي حد سواء . ويفترض أن كل لغات المجال المسرحي السيميوطيقي تحضر في نفس اللحظة وبتأثير من نفس الدوافع . ولتوضيح فكرة التغاير كملمح أساسي للبنية الداخلية للمجال السيميوطيقي، يستخدم لوتمان وصف سالة المعرض، حيث تتلاقي مختلف النصوص ( مثل النص المصور والنص اللفظي والنص البدني ) . وهنا تعرض رسوم العصور التاريخية والأنواع والأساليب علي حوائط قاعة المتحف لجذب انتباه المتفرجين بالاضافة الى النصوص الادارية . يتوظف هذا الاداء متعدد المستويات واللغات باعتباره الآلية الوحيدة المنشئة لصورة المجال السيميوطيقي، تكون كل العناصر في حالة ترابط دينامي وليس جامدا والذي تتغير شروطه دائما . ورغم ذلك، ففي المسرح، بعكس الأدب والسينما، يظهر سيناريو المسرح/اتصال الجمهور – سيناريو الفعل المسرحي، وسيناريو توقعات الجمهور، وسيناريو الحدث المسرحي المتغير دائما – في الأبعاد الزمنية للحدث المسرحي في وقت حضور المتلقي بشكل متزامن . وفي المثال المقتبس سابقا، ان المعرض في قاعة المتحف هو الذي يمزج الأعمال في تقاليد الماضي والحاضر، ويخلق نصه الأدائي الشارح meta-performative text ونصه الدرامي الشارح meta-dramatic text والتقديم السردي في تطوره . ويستهل هذا السرد الدوافع التزامنية والتعاقبية واللاتاريخية في المرسل اليه . انه يعتمد علي الدلالات التاريخية والمعاصرة التي تستدعيها السرد أثناء معالجته . وهنا ينشئ احتمال الاتصال متعدد الأبعاد الطبيعة الكروية (الدائرية) للديناميات السيميوطيقية التي لا تتكون علي أساس التطور، بل علي أساس مبادئ الآنية، لأن جزء من تزامن هذه الثقافة . وبالمثل، يقدم المجال المسرحي السيموطيقي بنية موحدة لتناقضات متعددة، ويملي دراماتورجيا الأداء بعد الدرامي التي تولد فعل خشبة المسرح/ الجمهور المركب .
 يحدث ارسال واستقبال العلامات والاشارات آنيا . ويحول  الأداء المسرحي السلوك علي خشبة المسرح وفي القاعــة الى نص مشترك، نـص اذا لم يكـن هنـاك حـوار منطوق علي خشبة المسرح أو بين الممثلين والجمهور . وبالتالـي  فان وصف المسرح مرتبط بقراءة النص ككل . وبقدر ما  يمكن أن تتلاقى نظرات المشاركين فعـلا، تشكـل حالــة المسـرح مجموعـة كـاملة مكـونة مـن عمليـات تواصــل واضحة وخفية .
بمعنى آخر، في المسرح بعد الدرامي، يتم عرض الامكانات الدائرية للتواصل في المجال السيميوطيقي عبر عدم القدرة علي التنبؤ بأفعال المشاركين وردود أفعالهم التي تنشأ داخل حوار خشبة المسرح الجمهور الزماني والمكاني . وبالنسبة الى ليمان، لا يمكن الوثوق بالقواسم المشتركة والجماعية في المسرح بعد الدرامي . واذا أرا المسرح الجديد أن يصل الى ما وراء المشاركة الخاصة وغير الملتزمة، فلا بد أن يسعى الى طرق أخرى لكي يجد نقاط الاتصال الفردية . ويجدها في الادراك المسرحي للحرية – حرية من الخضوع الى التسلسلات، وحرية من مطلب الترابط . ولا توجد نقاط الاتصال الفردية هذه داخل البنية الداخلية للنص الأدائي المقدم للجمهور فقط، بل توجد أيضا كنقاط اتصال داخل سياق خشبة المسرح/الجمهور . وتستخدم أعمال مسرح أودين ورؤى يوجينو باربا النظرية حول دراماتورجيا المتفرج وممارساته الاخراجية كمثال لتغاير المجال المسرحي السيميوطيقي . وفي رأي باربا أن ذلك هو الفرق بين الجمهور والمتفرجين والذي يوفر يقدم خبرة فردية في المسرح : فالجمهور هو الذي يقرر النجاح أو الفشل : أي أنه أمر له علاقة بالاتساع . والمتفرجين في تفردهم، يحددون ما يتعلق بالعمق – انهم يحددون الى أي مدى يتخذ الأداء جذرا في ذكريات فرد معين . وفي نصيحته للبحث عن العلاقات خارج الفردية بين خشبة المسرح والجمهور، ينظر باربا الى أربعة متفرجين لا ينشئون فقط كائنا متفرجا من المشاهدين بل متفرج مستقل ماديا . وهذه المستويات الأربعة هي الطفل الذي يفهم الأفعال شفهيا، والمتفرج الذي يعتقد أنه لا يفهم والذي رقصاته الخاصى ؛ ذات المخرج البديلة، والمتفرج الرابع الذي يرى من خلال الأداء وكأنه لا ينتمي لعالم القص الزائل . وبالتالي، يتخيل المخرج نفسه في مكان كل من مشاهديه المحتملين ويمارس في نفس الوقت تجاربهم كجماعةوهذه التقنية هي نقطة انطلاق في ابتكار دراماتورجيا مركلة لعلاقات خشبة المسرح/ الجمهور – دراماتورجيا سياقات تطفو بحرية داخل مجال سيميوطيقي مسرحي لحدث واحد . ولا يمكن اغواء المتفرج الأول بالاستعارات والايحاءات والصور الرمزية والاقتباسات والتجريدات والاختبارات الايحائية، بينما يرفض المتفرج الثاني التحليل العقلي للنص المسرحي المقدم، ويسمح لنفسه بالتأثر بالأداء التعبيري المسبق، ويذكر المتلقي الثالث زميله محترف المسرح وبالتالي يكون علي دراية باسرار المهنة، وبالتلي يمكنه الدخول في حوار غير مسموع مع الأداء . والمشارك الأخير هو متعاون ليس فقط علي دراية جيدة بأسرار المنهنة ويمكنه التعرف علي أنماط المعنى الدلالي والفلسفي، بل انه أيضا الشخص القادر علي اضافة رسالة روحية لحدث مسرحي يسعى الى تقديمه .
 يبدأ عرض باربا الذي قدمه عام 2005 بعنوان « حلم اندرسن Andersen’s Dream” بمشهد تمهيدي سلمي يقدم دائرة من الفنانين الذين يتجمعون في حديقة في الدنمارك . ويراقب المتفرج مساحة مسرح بيضاوية مغطاة بالثلح ومحاطة بصندوق أبيض بيضاوي الشكل ه عدة صفوف من المقاعد . يصور المشهد حفلة الحديقة التي جسدتها الفرقة، التي تنتظر ببساطتها الخادعة وهدوئها ليلية صيفية عندما تغرب الشمس، وتذكر بشكل لا لبس فيه أحد المشاهد الافتتاحية في مسرحية تشيكوف «بستان الكرز « . وينتهي عرض باربا بطريقة مماثلة لمسرحية تشيكوف بصورة الموت . وباتبارع مبادئ الاخراج الأساسية عند باربا – مبادئ التعارضات – يصل عرض « حلم أندرسن « الى نهايته :
 عندما توشك رحلة الشخصيات على الانتهاء، يدرك الحالمون
 ذوو العيون المفتوحة أن يومهم الصيفي استمر عمرا. وسرير
 النوم بلا أحلام ينتظرهم . فهل هـم أشبـاح ؟ وما نـوع الحيــاة  التي نعيشها عندما نتوقف عن الحلم ؟ في أي مأساة أو ملهـاة  ترقص الشمس .
كما يوضح هذا الاقتباس، فان خط القصة المقترح يعد بأخذ الجمهور في رحلة مجازية واكتشاف وقت الحياة المحدود والمسرح . ولكن في وقت مبكر من الفقرة الثانية في البرنامج، علمنا أن المسرحية تحمل هما سياسيا، وتثير أكثر المعضلات ايلاما في الوقت الحاضر : يوشك أن ينضم صديق من قارة أخرى . ومع الحلم بعيون مفتوحة، سوف يرحلون الى مجال حكايات أندرسن الخيالية . وأوروبا في سلام، أو بلادهم علي الأقل في سلام . أو ربما حدائقهم . وفي هذه المساحة الضيقة، يظل الزمن ثابتا ومؤهلا . يتمزق هذا المشهد السلمي فجأة بسبب قتال بين صديقين . يستهل القتال القصة الأوديبية في البحث عن الحقيقة، وتتكشف قصة الوحي والثورة من خلال تعدد الصور المرئية والمسموعة والتي يجب أن يجمعها كل منا في قصة اندرسن الشخصية . انه فصل الصيف، ومع ذلك يتساقط الثلج، ويتلطخ الثلج باللون الأسود . تبحر تخيلات الشخصيات في الحلم : سفينة تنقل الرجال والنساء مقيدين في السلاسل . يشعر الفنانون بثقل السلاسل الخفية، فهل هم أيضا مستعبدين ؟
...........................................................................................
يانا ميرزون تعمل استاذا بقسم المسرح بجامعة أوتاوه بكندا
نشرت هذه المقالة في مجلة  Semiotica  184-1/4 (2011)


ترجمة أحمد عبد الفتاح