يـاسـيـن وبـهيــة المسرح الشعبى كما ينبغى أن يكون

يـاسـيـن وبـهيــة المسرح الشعبى كما ينبغى أن يكون

العدد 830 صدر بتاريخ 24يوليو2023

هو واحد من المهمومين بقضايا الظلم والقهر والإستبداد بشكل عام ولا يخص بموضوعاته بلد معين أو أناس معينة، حمل على عاتقه وهو لا يزال فى سن صغيرة مهمة الدفاع عن البسطاء والمقهورين من خلال فنه وثقافته وعلمه، فهو خريج المعهد العالى للفنون المسرحية قسم التمثيل والإخراج وتتلمذ على يد كبار الأساتذة فى المهنة، انه الشاب يوسف مراد منير مخرج العرض المسرحى “ ياسين وبهية “ لمؤلف البسطاء نجيب سرور ومن انتاج مسرح الشباب تحت قيادة الفنان القدير سامح بسيونى داعم الشباب والموهوبين، وقد رأيت لذاك الشاب من قبل عرضا مسرحيا  يدعى “ طار فوق عش الوقواق “ التابع لهيئة قصور الثقافة، وكان عرضا مقتبسا من نص أمريكى يناقش فيه ايضا موضوع الظلم والقهر والفساد الممارس بالمؤسسات العلاجية وغيرها، وتنبأت له حينها بمستقبل واعد وإنه سيكون يوما ما من الفئة الأولى من مخرجى مسرح الدولة ذوى المكانة والأهمية، وها هو بالفعل يخطو أولى خطواته به بالعرض المسرحى “ ياسين وبهية “ لينجح من خلاله وبأقل الإمكانيات فى أن يأكد ويثبت ذاته بمسرح الدولة كمخرج مهم له مستقبل واعد يستطيع أن يقدم فيه عروضا فى القريب العاجل بكبار النجوم، وهذا نتاج طبيعى لشاب نشأ فى أسرة فنية من الدرجة الأولى فوالده هو المخرج المسرحى الكبير مراد منير ووالدته هى الفنانة القديرة الراحلة فايزة كمال، لذا أكتسب موهبته بالفطرة تمثيلا من والدته الراحلة وإخراجا من والده أطال الله فى عمره، ومع ذلك حرص كل الحرص أن يشق طريقه بنفسه دون الاستعانة بأسمائهم الفنية الكبيرة، فبدأ بقصور الثقافة لينجح فيها ومن ثم نجاحه  وحده فقط هو من أهله الى مسرح الدولة، ليواصل فيه مسيرة النجاح بعدما أختار لنفسه ان يكون نصيرا للبسطاء من خلاله .
اختار يوسف منير أن يبدأ مسيرته بمسرح الدولة بعرض مسرحى يعبر عن فكره ومبادئه، فلم يجد أمامه أفضل من أن يبدأ بواحدة من أهم مؤلفات أستاذه فى النضال المسرحى ضد القهر والظلم، الا هو الظاهرة الأدبية نجيب سرور ورائعته الخالدة “ ياسين وبهية “ .
في خمسينيات القرن العشرين ظهرت مسرحيات نثرية تتناول التحولات الجذرية في المجتمع المصري وقضايا النضال الاجتماعي والسياسي، هذه المسرحيات تميزت بتطور غير مسبوق في تكنيك التأليف الدرامي ووعي الكاتب بوظيفة الفن المسرحي، وقد واكب نهضة المسرح النثري قيام نهضة مماثلة في الدراما الشعرية استطاعت أن تقدم إضافات هامة، وأصبح الشعر في الدراما الشعرية المعاصرة أكثر اندماجا في نسيج المسرحية وبنائها الفني، واستيعاب تجارب الإنسان وهمومه والتعبير عنها من خلال حوار يرقي إلي مرتبة الشعر، والشاعر نجيب سرور من أقدر الشعراء علي تحقيق هذا الإندماج بين الشعر والدراما .
ولد الشاعر والمؤلف المسرحي نجيب سرور بقرية أخطاب بمحافظة الدقهلية، وفي عام 1958 أوفدته الدولة إلي الاتحاد السوفيتي لدراسة الإخراج المسرحي، وعاد إلي القاهرة عام 1964 وشارك  في النهضة المسرحية التي حملت لوائها مسارح الدولة، شارك نجيب سرور في تأصيل حركة الشعر الجديد بقصائده ومقالاته التي بدأت تظهر في مطلع الخمسينيات في لبنان ومصر، وكان من الرواد الذين تتلمذ علي يديهم في الشعر هم والده، وأبو العلاء المعري، ودانتي، بايرون، وبوشكين، وكتب سرور ست مسرحيات هي “ ياسين وبهية ”، “ آه يا ليل يا قمر ”، “ يا بهية وخبريني ”، “ ملك الشحاتين ”، “ قولوا لعين الشمس ”، و“ منين أجيب ناس “، وفي الإخراج المسرحي أخرج: “ بستان الكرز ” التي ترجمها عن الروسية، “ وابور الطحين ” لنعمان عاشور، و“ ألف باء “ لناظم حكمت، و“ ميرامار “ عن قصة نجيب محفوظ، وتعد مسرحية “ ياسين وبهية “ هى أولي مسرحيات نجيب سرور، وقد قدمت على المسرح لأول مرة في عام 1964 علي مسرح الجيب، ولم يكن قد كتبها في إطار مسرحي بل كتبها شعرا روائيا أو قصيدة روائية تتألف من 10 لوحات، وتقع أحداث مسرحية  “ ياسين وبهية ” في قرية بهوت حيث انها تعد إحدي قلاع الإقطاع قبل ثورة يوليو 1952، وهى قرية مجاورة  لقرية أخطاب التى نشأ فيها نجيب سرور .
وتدور أحداثها من خلال قصة حب بسيطة بطلاها الفلاح الفقير “ياسين” وابنة عمه “بهية ”، اللذان تربيا معا وربطهما الحب وتعاهدا علي الزواج في ظل نخلتين متعانقتين، لكن الحلم يتبدد فجأة  إذ يستدرج الباشا الإقطاعي بهية  إلي قصره  لتعمل في خدمته، فيهرع ياسين وشباب القرية إلي إنقاذها من الذل والعار، وتنشب معركة ضارية بين الفلاحين وحرس الباشا، فيحترق القصر إنتقاما لبهية، بينما يبذل ياسين حياته ثمنا للدفاع عن شرف بهية، ويسدل الستار علي بهية التي تجلس في ظل النخلتين وقد ملك الأسي قلبها .
وتختلف مسرحية “ياسين وبهية ”، اختلافا جذريا عن القصة الشعبية المشهورة، في أنها تعرفنا بقاتل ياسين الذي تتساءل عنه الرواية الشعبية في لهفة، والمسرحية رغم أنها تتناول ظاهريا مأساة ياسين وبهية إلا أن باطنها يحمل ما هو أكبر من ذلك بكثير، حيث انها تعكس مصير الفلاحين في صراعهم الدامي مع الإقطاع  الذي كان يفرض عليهم كل ألوان الظلم والاستبداد ذاك الوقت، والذى تعهد نجيب سرور بمواجهته وتعريته والتصدى له من خلال كتاباته الأدبية، وذروة الحدث هنا فى مسرحية « ياسين وبهية « تتبلور من خلال الصراع بين الطبقة الكادحة والطبقة المستغلة، وخاصة عندما يصل هذا الاستغلال الى مداه فيطلب الباشا « بهية « للعمل بقصره  ويحاول ان يهتك عرضها أيضا، ومن هنا تتولد الشرارة التي تندلع منها نيران الثورة .
تناول يوسف منير النص المسرحى «ياسين وبهية» لنجيب سرور برؤية جديدة جمع فيها بين كل مفردات المسرح الشعبى بداية من الراوى والمغنى الطربى الشعبى والتحطيب نهاية الى الديكور والملابس الريفية والالتزام باللغة الشعرية للنص الأصلى، فدعنى أقول لكم هنا أن يوسف  منير يعد واحدا من القلائل جدا ان لم يكن الوحيد الذى التزم بالنص الأصلى لنجيب سرور فى إخراجه للعرض المسرحى دون أدنى معالجات له، معتمدا فقط فى رؤيته الإخراجية على التيمة الشعبية لعناصر الفرجة المسرحية والآداء الشعرى كعمود فقرى للعمل الفنى وهدفا أصيلا له، بجانب الغناء والموسيقى الحية كما هو المعتاد بالأرياف فى الموالد والفرق الشعبية المتجولة بها، كما إنه تعمد أن يضيف روح الكوميديا الخفيفة للنص بالرغم من مأساوية القصة حتى لا يقع فى براثن التكرار وأيضا منعا لتسرب الملل فى قلوب جمهور المتلقى، فى وقت هم فى أمس الحاجة فيه الى البسمة نتيجة ما يحاوطهم من ظروف صعبة يمرون بها فى تلك الحقبة الزمنية، كما عمل أيضا على مزج اللغة الفصحى بالعامية لنفس الهدف السابق أيضا، وهذا ذكاء وجرأة  تحسب  له فى تناوله لعمل فنى شهير من التراث الشعبى . 
قدم لنا يوسف مراد منير مجموعة واعدة منتقاة من الممثلون بالعرض المسرحى يجب على أصحاب الشأن الالتفات لهم جيدا لما سيمثلونه من إضافة كبيرة  فيما بعد للحقل الفنى، لما يمتلكانه من حضور فنى وموهبة فذة كان من ابرزهم آية أبو زيد فى دور الأم والتى لعبت الشخصية بأستاذية وحرفية عالية، إيمان غنيم فى دور بهية بما تمتلكه من قبول طاغى وإحساس فريد، حازم القاضى فى دور ياسين حيث تركيزه  وثقته اللامتناهية على الخشبة كما كبار النجوم، يوسف مراد فى دور العم وحيوية وطاقة فى الآداء، ليلى مراد فى دور الغجرية تذكرك بتمكن وهدوء الراحلة فايزة كمال، وكان لمساحة الأدوار المكتوبة بشكل حرفى دور كبير  فى ابراز قدراتهم التمثيلية والآدائية بشكل كبير، كما إنه من الصعوبة أن تجد مخرج مسرحى يجمع بين الإخراج والتمثيل فى عمل فنى واحد وتكون النتيجة هى عرض محكم ومنضبط وبهذا الكم من الممثلين، الا فى حالات استثنائية  فقط لبعض المخرجين الذين وهبهم الله تلك الملكة، الا وهى ملكة التركيز الذهنى فى أكثر من عنصر من عناصر العرض المسرحى فى نفس الوقت، ويوسف منير بالرغم من انه هو ذاته مخرج العرض الا انه يشارك  فيه ايضا كأحد أبطاله كما أعتاد دوما فى كل أعماله السابقة، وتلك مهمة شاقة أشفق عليه كثيرا فيها الا انه ينجح  كل مرة  فى تخطيها ببراعة دونما حدوث أية أخطاء ناتجة عن عدم تركيز أو فقدان للسيطرة، وحقيقة تلك تعد موهبة إضافية استثنائية تحسب له أيضا كمخرج وممثل خاصة انه يقدم عروضا بكم كبير من الممثلين ولا تنتمى لعروض المونودراما أو الديودراما حيث تكون المهمة أسهل . 
كما سبق وأشرنا أعتمد المخرج على الموسيقى الحية أثناء عرضه المسرحى، سواء ان كانت موسيقى تصويرية  للعرض أو ألحان خاصة بالأغانى الطربية الشعبية بصوت  فتحى ناصر من قام بدور الراوى بالعرض، وهو صوت واعد متمكن من أدواته الصوتية التى يجيد توظيفها حسب النوع الذى تنتمى اليه الأغنية، وبالرغم من تعدد الراوة بالمسرحية  الا ان المخرج قد حرص على أن يكون هناك اختلاف وتنوع فيما بينهم، فوجدنا راوى يعتمد على الحكى وراوى آخر يعتمد على الغناء، ومن وجهة نظرى النقدية أراها فكرة جديدة لم تضر الراوية فى شئ، بل تعد نوع من الفلكلور التى أضافت للتراث الشعبى الذى يتناوله العرض المسرحى، فالتراث الشعبي يتكون من عادات الناس وتقاليدهم، وما يعبرون عنه من آراء وأفكار يتناقلونها جيلاً بعد جيل، وهو استمرار للفولكلور الشعبي كالحكايات الشعبية، والأشعار والقصائد المتغنى بها، والقصص البطولية، والأساطير، ويشتمل على الفنون والحرف، والأغانى وأنواع الرقص واللعب والتحطيب، وكل ما سبق قد وجدناه  فعلا بالعرض المسرحى الذى يتميز عن غيره بالخصوصية  الشعبية،  وقد قام بالتأليف الموسيقى والألحان هنا محمد علام الذى أجاد مع فرقته التعبير عن الطابع الشعبى للمسرحية .
لم يكتفى المخرج هنا بمسرحيته ياسين وبهية على شعر نجيب سرور فقط بل اعتمد على ابيات شعرية متنوعة منتقاة من التراث الشعبى المصرى تدعيما لفكرته ورغبته فى تقديم مسرح شعبى خالص، فأستعان بأبيات شعرية باللغة العربية لمجموعة من أشهر شعراء التراث أمثال الشيخ إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم وغيرهم، قدمها على المسرح مصحوبة  بآداء حركى معبر وعلى أنغام موسيقى شعبية حية  للفرقة الموسيقية . 
تصميم الديكور لعمرو الأشرف جاء مواكبا لفكر المخرج فى التركيز على التيمة الشعبية للنص المسرحى وتصدير تلك الصورة لذهن المتلقى من أجل المعايشة الكاملة له، فجاء تصميم الديكور للأشرف عبقريا نتيجة لاستغلاله لضعف الإمكانيات لصالح العرض المسرحى، وذلك من خلال استخدامه للغة الرموز فقط فى تصميمه لديكور العرض، والمتمثلة فى بعض الموتيفات البسيطة التى تسهم فى ترك ذاك الإنطباع الريفى على روح وقلب المتلقى، بداية من دخوله من باب المسرح العائم الخارجى ليجد عدة لافتات على شكل اسهم مدون عليها اسم القرية « بهوت « التى اختارها سرور لتدور من خلالها الأحداث، وهى قرية مجاورة  لمسقط رأسه « اخطاب « بالرغم من أن الأحداث الحقيقية دارت بالصعيد لترشده الى مكان صالة العرض، ليجد كل ما هو أمامه على الخشبة يوحى بالجو الريفى الشعبى، على سبيل المثال النخلتين المتعانقتان وهى رمز للقاء العاشقان ياسين وبهية، مع بعض قناديل النور المعلقة على واجهات الأبواب ذات الطابع الريفى لترمز الى عنصر الزمن الذى دارت به أحداث القصة، مستغلا اياها ايضا فى تدعيم عنصر الإضاءة  المسرحية التى هو المصمم لها فى ذات الوقت، والتى جاءت  مكملة لعنصر الديكور وبمنتهى الحرفية والإتقان، حيث  تركزت ما بين اللون الأحمر الذى يرمز للدم والظلم عامة، واللون الأخضر حيث يرمز للخضرة  وأهل الريف الأنقياء الطيبين وجسدت الإضاءة هنا الصراع ما بين الخير والشر، وفى منتصف المسرح نجد باب تظهر فى خلفيته درجات سلالم غالبا ما تقف عليها بهية لتعبر عن انفعالاتها المختلفة فى صورة جمالية مبهرة .
الأزياء  لرحمة عمر جاءت بسيطة كما حال أهل الأرياف ومعبرة فى ذات الوقت عن المكنون الشعبى للراوية كما كتبها نجيب سرور، وفى ذات الوقت حرصت رحمة على أن تكون ألوان ملابس بهية فى مشاهد لقائها بحبيبها ياسين تتميز بالبهجة والحيوية بعكس ألوان ملابسها بعد مقتله، وبالنسبة للرجال كان الجلباب البلدى هو التصميم السائد بينهم، نفس الحال لمكياج محمد شاكر الذى جاء معبرا عن طبيعة كل كاركتر بالمسرحية .
الدراما الحركية لمحمد بيلا ما بين الرقص والتحطيب والتكوينات الجسدية كانت بمثابة رموز معبرة عن حالة كل مشهد وطبيعة انفعالاته والرسائل المرجوة منه، كما استمدها ايضا من التراث والفلكلور الريفى الشعبى .
ختاما أستطيع أن أقول وبكل حيادية اننا أمام رجل مسرح حقيقى صاحب  فكر ورسالة بالرغم من صغر سنه، يجيد التعبير عن قضاياه  بحركة مسرحية مدروسة ومنضبطة وذات دلالات ورموز، تبشر بمستقبل مخرج واعد فى الإخراج المسرحى لازال فى جعبته الكثير الذى لم يقدمه بعد كما يخبرنى دوما، وحقيقة ومن خلال رؤى سابقة لى لعروضه المسرحية تيقنت انه مخرج حرفى يجيد استخدام كل عناصر الفرجة المسرحية وتطويعها برؤية إخراجية  تجذب المتلقى الى المسرح سواء ان كانت الشعبية منها أو الكلاسيكية أو غيرها من العناصر، بما يمتلكه من فكر وثقافة وحرفية كما رأينا بذاك العرض المسرحى، الذى قدم لنا فيه المسرح الشعبى كما ينبغى أن يكون، وقد عبر يوسف مراد منير عن نفسه قائلا : 
«حلم نجيب سرور بمسرح مصرى شعبى، وحلمت بهية بابن عمها ياسين وهو فى شاله الأحمر، وحلمت أنا بهذا العرض، سنة كاملة أن يرى النور، واليوم يرى النور، ويراكم، وتروننى، كمخرج، وكحالم بغد أفضل، بغد مسرح» . 


أشرف فؤاد