خريف المثقف ودرامية الواقع في عرض مسرحية (أمل) جواد الأسدي..

خريف المثقف ودرامية الواقع في عرض مسرحية (أمل) جواد الأسدي..

العدد 829 صدر بتاريخ 17يوليو2023

 هل كان (جواد الأسدي) يسعى لمنح المتلقي جرعة (أمل) من خلال قراءته لواقع متصدع ومضطرب، تصادمت فيه الإرادات وتنازعت فيه القوى واشتبكت فيه المواقف..؟ وما هي المعطيات التي قرأ من خلالها هذا الواقع..؟ وهل استطاع أن يكون شاهداً على زمن المحنة والقسوة والوحشية والإنفلات والفوضى..؟ وما مدى استجابة المتلقي لهذه القراءة..؟ 
 يغادر عرض مسرحية (أمل) تأليف وإخراج (جواد الأسدي) لعبة البحث عن إجابات تقليدية أو اقتراح أسئلة في معنى الحياة والوجود، ذلك لأنه هو ذاته وجه آخر لهذه الحياة، وهو يتماهى مع ذلك الجوهر الذي يستعيد من خلاله تلك الأسئلة المراوغة لمعنى الوجود ومعنى الذات، لشخوص أصبحوا أنماطاً لنماذج عديدة، فرضت هذه الحياة عليها أن تعيش العزلة والخوف في بيئة موحشة وباردة وكئيبة كل شيء فيها آيل للسقوط، بعدما سقطت عنها الأحلام والأمنيات وفقدت (الأمل) في أن تحيا بأمان.
 هذا المأزق الوجودي والإغتراب الموجع لشخوص تعاني العزلة المفروضة عليها قسراً نتيجة لواقع مضطرب ومتشابك اختلف تأثيره النفسي من فرد الى آخر، ومن عائلة الى أخرى، لتعيد طرح سؤال الوجود والعدم، والمتمثل في طموح كل الأزواج في إنجاب طفل كثمرة لعلاقتهما الزوجية، ولكن السؤال هنا، هل سيحتمل الأبوين مسؤولية ذلك الألم الذي سيعانيه هذا الطفل في عالم مشحون بكل مسببات الألم واليأس واللاجدوى المتوالدة بلا (أمل) في نهاية تلوح في الأفق، حيث يكتشف المتلقي إن ما يحدث هو ليست مشكلة بين زوجين تتعلق بموضوع إنجاب طفل، بل إنه يمتد الى صراع بنيوي يدخل في تركيبة المجتمع، تشكل منذ سنوات طويلة نتيجة لمخاضات الحروب وإجهاضات الفوضى وإنكسارات متوالية وهزائم مستمرة، وما خلفته تلك الهزّات من آثار سلبية على مجمل مخرجات الواقع الراهن، ولعل فكرة إجهاض الطفل التي كانت سبباً في إشتعال الأزمة وتصعيد التوتر بين الزوجين تحيل الى أكبر وأشمل من فكرة الإجهاض المجردة، بكل حمولتها الدلالية التي تبدأ من إجهاض الأحلام والطموحات والأفكار والآمال وصولاً الى عملية إجهاض الطفل في تعبيرها المباشر والصريح.
فـ(الأسدي) يموضع ضعف إرادة بطله (باسم)، ويؤسس مجمل مفردات بنية خطابه على ذلك المعطى الذي تناسل وتوالد حتى أصبح مهيمناً على كل كيان شخصية الزوج وتفكيره وسلوكه وقراراته مع زوجته (أمل)، فالتواصل بين الزوج والزوجة، يكاد يكون مقطوعاً، بعد أن اتسعت الهوة الروحية بينهما، فلم يعد أحدهما يحتمل الآخر في كل ما يقوله وما يفعله، وهكذا تقطعت بهم كل المسالك التي كانت تدل على روحيهما، فالتوتر والتأزم الذي يتسيد كل محاولة حديث أو مناقشة أمر ما بينهما وسرعان ما يصل الى مفترق طرق وينتهي بخلاف متصاعد، بسبب ذلك الواقع الضاغط على سلوكهما وتفكيرهما، وعلى روحيهما المسحوقة تحت سطوة الخوف المدمر، واقع داخلي بينهما وهو نفسي، وآخر خارجي يتمثل في أحداث الشارع المتوتر نتيجة للحرب وآثارها المدمرة التي لا تنتهي بسهولة، وكلاهما يشكل ضاغطاً نفسيا واجتماعيا وروحيا على كيانهما وعلى ذواتهما التواقة الى فضاءات الحرية والإنفتاح والـ(أمل)، ليمنح كل واقع منهما زخما ودافعا للآخر في إدامة واستمرار حالة الصراع المتجه الى أقصى درجاته، فليس ثمة (أمل) في أن تعيش الشخوص مثلما ترغب وتتمنى، ففي الداخل تعيش في ظل حياة منفرة لا ضوء فيها للرؤية ولا هواء فيها يخفف وطأة هذا الجو الخانق والمشحون بالتوتر، وليس هنالك في الخارج فرصة للعيش، حيث القتل المجاني في أقصى حالاته عبثاً ورعباً، موت في الداخل وموت في الخارج وموت في مقاومة هذا المناخ الضاغط من كل اتجاه وزاوية، حيث كل شيء يقود الى نهايات سوداوية معتمة، أحكمت سطوتها على الجو العام للعرض إبتداءاً من لحظة المواجهة الأولى مع المتلقي، حيث يدخل باحة منتدى المسرح وهي بيت بغدادي طرازي، تهيمن على فضاءه مكتبة آيلة للسقوط، أو تكاد تهوي، تساقطت منها الكتب على الأرض، وصوت خرير مواسير المياه ينساب في كل أرجاء البيت المتهالك بلا توقف أو انقطاع، وكأنه يوحي بما تشعر به الشخوص من استنزاف مستمر للحياة، بلا أدنى (أمل) في محاولة وقف هذا النزيف الذي ينساب متواصلاً، لتتواصل معه رحلة الاغتراب في واقع مشحون بالانفعال والتوتر والتأزم المتصاعد، حتى وأن كانت بعض المواقف دون هذا التأزم، لكن واقع الشخصيات المضطرب وهواجس العزلة والخوف تعلل ذلك.
   من جانب آخر، فان رؤية الأسدي لم تغفل عملية الكشف عن موقفه الجريء من الثقافة والمثقف ومن العالم الذي يعيش خريف الحياة الثقافية، فهو يعلن بوضوح إدانة واستنكار ورفض لموقف المثقف الذي لم يكن قادراً على التأثير ولو بالحد الأدنى من مجريات ما حدث وما سيحدث، وهو موقف انهزامي وغير متوقع، فالمثقف هو ليس من يقرأ الرواية والشعر والمسرح والفلسفة، وإنما هو الموجّه لعملية الفكر والتفكير والمحرك لجوهر الأحداث التي تعيد تشكيل وتعديل وتصحيح مسارات الواقع كما ينبغي أن تكون، لا أن يكون المثقف هو الضحية الأولى أو المستسلم الأول عند أول مواجهة مع هذا الواقع على الرغم من قسوته ومرارته.
 العرض ألقى حزمة كاشفة من الضوء على مشكلات الواقع الراهن، وناقش تفصيلاته من أجل تصحيحها واقتراح معالجاتها وتخطي وإدانة سلبياتها، وإن كانت الطريقة سوداوية أو قاسية، تتماهى مع عالم اللامعقول، فالمهم هو أن تصل تلك الرسالة وتحقق تأثيرها في المجتمع، عسى أن تحدث التغيير نحو ما ينبغي أن يكون، ففي النهاية يلوح ثمة ضوء بعد هذا النفق الطويل المعتم، حيث تقرر (أمل) أن تخرج بحثاً عن طبيب، و(باسم) يستعيد ابتسامة أمل مكبوتة بعد حلم ملأ كل كيانه بالضوء وهو يشاهد ابنه يلعب ويجري، فالأمل هنا يتجسد في رفض عملية إجهاض الطفل ومعه كل الأحلام والأمنيات والـ(أمل) بالقادم..
  جاء الفضاء السينوغرافي مكملاً لأنساق تشكيل العرض التي حاول فيها (على السوداني) أن يستثمر الضوء واللون والصوت مع مجمل المفردات التشكيلية في رسم المشاهد بطريقة هارمونية، انحازت مرة الى جماليات تشكيل العرض وحاولت التخفيف من قتامة الفضاء المشحون بالتأزم المتصاعد، أو قد تتوافق مرة أخرى مع ذلك التأزم، بحسب ما تستوجبه الحالة التأثيرية للعرض في المتلقي.
    تباينت المقدرة الأدائية للشخصيتين، حيث امكانية كل منهما على تحقيق مستوى من الاستجابة عند المتلقي، فكان (حيدر جمعة)، ممثل شخصية الزوج، حاضراً ومهيمناً طوال زمن العرض، ولم يخرج عن دائرة الإقناع إلا في بعض لحظات المبالغة في الإنفعال التي انجرف فيها مستلذاً وراء عواطفه حيناً وتجليات نرجسية الممثل حيناً آخر، لكنه كشف عن أعماق الشخصية بشكل متوافق مع إيقاعها الداخلي، في حين اقتنعت زميلته (رضاب أحمد)، ممثلة شخصية الزوجة، بالبقاء على بعد أفقي واحد من أبعاد شخصية أمل المتداخلة، دون الحفر في أعماق بنية هذه الشخصية الإشكالية، ويبدو إنها اختارت الطريق الخالي من الانعطافات الحادة التي تحتاج الى مهارة عالية في الإمساك بكل أبعاد الشخصية.
   جواد الأسدي في عرض مسرحية (أمل) كان شاهداً أميناً على زمن المحنة والقسوة والوحشية والانفلات والفوضى، وقد أستطاع أن يحيل المتلقي الى تلك العروض الكبيرة التي تؤثث المسافة الجمالية التي تصل الى وجدان وضمير المتلقي وهو يستشعر إنه إزاء واقع يستلزم تعديل المسار، ليؤدي الى مخرجات تنتصر للإنسان وتمنح الحياة معناها وجدواها..


د. رياض موسى سكران