النافذة أن تتذكر ما يجب ألا تنساه

النافذة أن تتذكر ما يجب ألا تنساه

العدد 597 صدر بتاريخ 4فبراير2019

يظل المسرح من أهم القوى الكاشفة لمشكلات الإنسان إن لم يكن أقواها على الإطلاق، وهو المجرد لكل مجرد ليظهر الحقيقة برؤى كاشفة شرط ألا تنساق مع الهوى والمسرح، هو النافذة التي يطل منها الإنسان على ماضيه وحاضره ومستقبله إن اقتضى الأمر ذلك لقراءة الماضي وتحليل الحاضر والتنبوء بالمستقبل عل هذا التنبوء يدرأ الخطايا وينقي المستقبل من الدنس الذي يعتريه إن استسلم لحاضر مدنس.
ضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي في دورته الحادية عشرة التي أقيمت في القاهرة، قدم مبدعو الأردن عرضهم المسرحي “النافذة” تأليف مجد حميد وإخراج مجد القصص، وهو قراءة لواقع الإنسان إبان الحروب والأزمات التي قد يمر بها سواء أكان هذا الإنسان عربيا أو غير عربي سواء أكان هذا الإنسان ذكرا أو أنثى شابا أو كهلا، فكل من تأذى ومن ذاق ويلات الحروب في الهم سواء. وتدور المسرحية عن شاب يسعى آخر ان يجعله يتذكر ما جبن عن تذكره ليرى العالم في صورته الحقيقية الأكثر توحشا، وهو الشاب الذي فقد أباه في مقتبل حياته وما لبث أن فقد أخاه شابا إثر التحاقه بالحرب، ولتطل الحرب من تلك النافذة (الإلكترونية) بفعل مقاطع الفيديو المؤطرة للتمثيل البشري في العرض المسرحي ليؤكد العرض مقولته الأهم في سياق الأحداث، إن الناس/ كل الناس لا تولد وهي تكره، فالحب هو أساس البقاء وأساس الحياة، ومن يجعل الكره نبراسه ليس إلا كائنا غير حي أو لنقل إنه وقود للجرب في كل الأحوال، رقما يحترق ليتغذى به قادة الحروب.
بدأ العرض على توتر يخلع القلوب لشاب يتم استجوابه من قبل الآخر، وفي الوقت ذاته يتم عرض ملخص لخلجاته النفسية فوق شاشة العرض مع عملية ولادة لأحد المواليد عن يسار المسرح لدمية معلقة فوق (البانوه) وعملية دفن لأحدهم بواسطة (الجاروف) على يمين المسرح، وهي عملية متتابعة في الحالة فما بعد الميلاد هو الموت فكان تتابعها في الدراما ليلتحم البانوهان بعد ذلك المنظر المسرحي برجوعهما لعمق المسرح وتعدد استخدامهما برشاقة ووعي لا يخلو من البساطة مع ترك فراغ خشبة المسرح للممثلين لا يعوقهم عائق عن التشخيص الذي بدا محكما بشكل لافت، واكتسبت بساطة الرؤية التشكيلية عمقا أكثر بذاك التجريد الواضح في المنظر المسرحي بمنضدة متحركة وكرسيين يتم شغل فراغ خشبة المسرح بهم، فضلا عن (بانوهين) عن يمين المسرح ويساره تشكلا حسب مقتضى الحال في الدراما، تؤطرهما الشاشة الكاشفة لغبن الحرب بتلك المادة الفيليمة للدمار الناشئ عن الحروب، فكانت تذكارات الشاب تمتلك من القسوة القاتمة ما جعله يرفض تذكرها فتذكرها عنوة ولم يملك رفاهية تجاهلها طوال الوقت، فكانت النافذة دائما تطل على ذاك (الماضي/ الحاضر) المقيت بفعل الحروب وتبعياتها، ليسطر مبدعو الأردن مثلا عن مبدعي العرب ومبدعي العالم بطبييعة الأحوال أنه ليس عدلا أن تستمر حالة إزهاق الأرواح غصبا.
“النافذة” إطار عازل لا يعزل يطل على عالم يطل علينا في اللحظة نفسها، ليطرح فرضية مفادها أن هناك من ينتحل دور الرب ويشرع القتل كواقع حتمي عن طريق جعل الحروب واقعا حقيقيا ومعيشا، وبالتالي تم تشريع القتل عن طريق تأجيج الحرب بين الجميع لصالح السلطات، وتطل بالتبعية نافذة الشاب الرافض لهذا الواقع المقيت على عالم لا يحتمل العيش فيه، فيظهر كخليط بين أماكن يعرفها ولا تشبه معرفته فكأنما يرى العالم كما لم يره من قبل، فظهرت مدينته كمدينة أشباح ترتع فيها كائنات مدججة بالسلاح لا وظيفة لها إلا أن تقتل أو تُقتل، وفي مشهد بديع يقوم الشاب والرجل بلعب (شطرنج) مع ملاحظة أن قطع دمى الشطرنج كانت كبيرة نسبيا عن المعتاد، ودارت اللعبة وخسرت دائما العساكر في سبيل الإبقاء على الملك حيا، كل ذاك إبان حوار شيق ومكثف وشديد الحساسية، مع ملاحظة أنه مع كل حركة قتل لدمية من دمى عساكر الشطرنج تظهر محفة يحملها مسعفان يحملان قطعة الشطرنج إلى مثواها الأخير، في إشارة إلى عدم جدوى أو أهمية الدمية إلا في التضحية بالنفس والجسد في سبيل أن ينجو السيد (وقد نجا).
العرض المسرحي “النافذة” للمؤلف مجد حميد وإخراج مجد القصص، نجح مبدعوه في تحييد الزمان والمكان فتشابه من ثم مع كل زمان ومكان، وعرض قضية ظاهرها محلي الصياغة والطرح والدلالة، نظرا لما تمر به الأمة العربية من قهر وظلم وعدوان واشتعال الحروب في بقاع عدة، إلا أنه تخطى محلية الطرح بتجريده فبدا ظاهر العرض محليا وباطنه عالمي الصياغة والتشكيل، معتمدا على تقنيات شديدة البساطة والعمق في الآونة نفسها، مع تمكن فريق التمثيل من تمرير الأفكار الواضح تشبعهم بها تشبعا مكنهم من صدق الطرح والتمكن من مناط القول وأداءاته المختلفة، لا سيما في مشاهد العودة للطفولة والشباب ومناجاة الأم والحبيبة، وإن عاب العرض - ولم ينقصه - النبرة الخطابية الزاعقة في نهاية الأحداث ولم يكن العرض في حاجة إليها نظرا لقدرته الآثرة منذ بداية العرض سواء على مستوى التمثيل أو السينوغرافيا بكامل مفرداتها في تمرير الأفكار المجردة شديدة الإنسانية لدرجة استخدام لهاث الأنفاس ودقات القلوب المتعبة في بعض نقلات الموسيقى.
“النافذة” دعوة صريحة لتذكر ما يجب ألا ننساه، فالحرب صنيعة مهلكة لا يدفع ثمنها إلا الأبرياء.


محمد النجار

mae_nagar@yahoo.com‏