«تائهون».. في دوامة الجريمة والعنف... «الجانب المظلم» لتونس!

«تائهون».. في دوامة الجريمة والعنف... «الجانب المظلم» لتونس!

العدد 798 صدر بتاريخ 12ديسمبر2022

إحدى عشر سنة مرت على الثورة وأحداث الرابع عشر من يناير و لايزال الوضع في تونس يتسم بالضبابية و غياب الرؤى على جميع المستويات فبين الانفلات الأخلاقي والقيمي وتردي الوضع السياسي وتدهور الوضع الاجتماعي والانهيار الاقتصادي و تهميش الميدان الثقافي والفني، لازال المبدع التونسي يقاوم ويسعى لإستقراء الوضع العام ومحاكاته وطرح وتشريح تمظهراته وتمفصلاته على خشبة المسرح، فلعلنا نجد في هذه المحاولات الفنية الجادة بصيص أمل يسمو بنا من عتمة الواقع إلى سماء الخلق والإبداع.
بعد جولة من العروض في عدد من المهرجانات والمناطق التونسية، يستعد المخرج التونسي نزار السعيدي لتقديم  منجزه الابداعي الجديد “تائهون - ) Dark Sideالجانب المظلم)» في المسابقة الرسمية للدورة23 لمهرجان أيام قرطاج المسرحية،  دراماتورجيا، عبد الحليم المسعودي، تمثيل كل من رمزي عزيز، توماضر الزرلي، محمد الصادق الطرابلسي، جمال ساسي، محمد شعبان، علي بن سعيد وانتصار العيساوي.
تنطلق مسرحية “تائهون” بفاجعة تهز البلاد التونسية وتثير اهتمام الرأي العام الوطني والدولي حيث تقدم فتاة تونسية مراهقة تدعى “إشراق” على قتل والداتها والتنكيل بجثتها ثم تهرب لتحول فعلتها الى مادة دسمة يتناقلها رواد مواقع التواصل الاجتماعي والصحافة المحلية والعالمية مثيرة وابل من التساؤلات والشكوك والريبة والحيرة...الكل يبحث عن “إشراق” محاولين فهم هذه الظاهرة وتفكيك تعقيداتها.
أثناء عملية بحث أعوان الشرطة عن المجرمة، ترتكب “إشراق” ثاني أبشع جرائمها و تقتل أستاذها لتعمق بذلك الأزمة. بعد رحلة التفتيش والبحث غير المجدية في ايجادها، ينتهي العرض بانتحار المراهقة، تاركة خلفها جملة من الألغاز والتساؤلات المعلقة...  لعل أبرزها كيف دخلنا في هذه الحلقة الدموية الامتناهية ولماذا وصلنا الى هذه الحالة من الضياع والتيّه؟
“إشراق” هذه الشخصية الغامضة، التي ندركها من خلال الأخر، فهي غائبة عن أبصارنا وحاضرة بقوة في أذهاننا، نحن ازاء مراهقة ترتكب أبشع أنواع الجرائم في حق والداتها وتنطلق في اتمام مشروعها الدموي دون قيد أو شرط مثيرة الخوف والذعر في نفوس جميع الشخصيات. قد تبدو المسألة بسيطة في بادئ الأمر فنحن أمام قضية، بطلتها مراهقة متمردة، منفلتة عن الضوابط الأخلاقية والاجتماعية ومصيرها اما السجن أو مستشفى الأمراض العقلية من منظور قانوني وجزائي، لكن في حقيقة الأمر، المسألة أعمق من هذا بكثير ولعل أرحب مختبر للتمحيص وتشريح هذه الظاهرة التي باتت تهدد السلم الاجتماعي الوطني وتثير تساؤلات المجتمع العالمي هو خشبة المسرح.
في تونس ارتفع منسوب العنف الى أرقام مفزعة حيث بلغت حالات العنف والجريمة بشكل عام و في صفوف الشباب والمراهقين بصفة خاصة الى نسب مرتفعة جدا وغير معهودة سابقا بحسب الاحصائيات الرسمية وكذلك البحوث الاجتماعية والتقارير الصحفية والاخبارية (25 جريمة خطيرة يوميا).
التفكك الأسري و اختلال المنظومة التربوية و الفقر و الجهل وغيرها من الأفات الاجتماعية ، أرضية خصبة، كفيلة لوحدها بخلق الفوضى وتوليد العنف.. اضافة الى الوضع العام للبلاد منذ 2011 الى الأن بكل ما فيه من تحولات سياسية واجتماعية وثقافية وظرفيات تاريخية صعبة ومقيتة عايشها المجتمع التونسي والتي كانت من أبرز عناوينها “العنف” و “الفوضى”.

إشراق الجلاد / الضحية
« أنا إشراق « كلمة نطقت بها جل شخصيات المسرحية، هل في هذا الافصاح، اعتراف بالذنب وتحمل لقدر من المسؤولية؟ هل نحن مسؤولون  تجاه هول هذه الفاجعة؟ أم هي فقط حالة معزولة نكتفي بمشاهدتها وقراءة أطوار قضيتها على صفحات المجلات والجرائد؟
كلنا «إشراق»... كلنا «تائهون»... فالمراهقين الذين نشأوا في جو عام يسوده  التخوين و التكفير والعنف والفوضى والإغتيالات والهجمات الإرهابية وتراشق التهم بين “النخب” السياسية” في وسائل الاعلام التي تخلت بدورها عن واجبها الأساسي ووظيفتها الحقيقية كسلطة رابعة تنير الرأي العام وتكشف الحقائق وتحولت الى مرتع لكل من هب ودب، فاتحة أبوابها على مصراعيها لكل اثارة وابتبذال.. ليس هناك شروط - فقط كن “تافه” و تفضّل - كل هذه العوامل زادت من تعميق الهوة بين المراهقين والشباب،  فاختاروا الانعزال و وجدوا في العالم الافتراضي وألعاب الفيديو كينونة جديدة ومرتعا لاكتشاف ذواتهم وتحقيق تطلعاتهم وااشباع غرائزهم و أهوائهم دون الوعي بمخاطر هذا العالم وسلبياته.
مسرحية “تائهون” تصور تيه المجتمع التونسي بمختلف أطيافه وشرائحه فنشاهد من خلالها تيه المؤسسة الأمنية وصراع جيلين من الأمنيين فبين المؤمن بضرورة الرجوع الى المنظومة القمعية، بكل ما تحمله من تسلط وتجبر وعنف وبين الأمني الشاب الذي يسعى للبحث عن ايجاد آليات عمل جديدة ومحاولة فهم التغيرات الطارئة على المجتمع.. الفنان المعلق بين أحلامه  وتردي الذوق العام واكراهات السوق ومنطقه التجاري الجاف الخالي من كل اعتبارات فنية.. السياسي التائه بين مشروعه وايديولوجياته وبين الخطابات الشعبوية والسعي فقط للوصول الى السلطة مهما كلفه الثمن دون مراعاة أبجديات اللعبة السياسية وتطلعات الشعب و أولوياته كذلك تيه الاعلامي والأستاذ في ظل منظومة تربوية مهترئة تتغذى على فتات وبقايا منجزات دولة الاستقلال والاصلاحات البورقيبية دون مراجعات أو مواكبة لأحدث تطورات بيداغوجيات التعلم ومستجدات المنظومات التربوية والأكاديميات في العالم المتقدم و هو ما يفسر تراجع تصنيف الجامعات التونسية في قوائم وتصنيفات مؤسسات التعليم العالي حول العالم.
“إشراق” هي الجلاد والضحية في الوقت ذاته، فهذه المراهقة بدلا من أن تغدو شمسا ساطعة في الأفق يبعث نورها أملا وجمالا وعلما وثقافة، أجهض اشعاعها وغربت قبل أن تشرق تاركة خلفها مجتمعا يتخبط في الظلام والدم والعنف والخوف.
درماتورجيا العرض عبد الحليم المسعودي، الذي عهدناه كاتب وناقد وباحث في  المسرح والعلوم الثقافية نجده يرتدي قبعة الدراماتورج والكاتب المسرحي في أولى تجاربه ويؤمن دراماتورجيا وكتابة نص مسرحية “تائهون” بمعية المخرج نزار السعيدي.
البحث والتجديد ومحاولة مساءلة مفهوم الدراماتورجيا ودراسة العلاقة بين المضمون والشكل المسرحي وخلق “ذهنية دراماتورجية” على حد تعبير الناقد الفرنسي برنار دورت  B.Dort ، واضح وجلّي في عرض “تائهون»  حيث إشتغل الدراماتورج على تكييف أفكار ورؤى المخرج وفلسفته  تماشيا مع البنية الشكلية والبصرية للعرض كما عمل على تحديد وتوضيح السيميولوجيا والدلالات القائم عليها العمل.
كتابة متداخلة، متشعبة ومترابطة في الوقت نفسه باحكام، تعتمد على السرد الشبكي حيث تذكرنا بشكل كبير في بنية وتقنية “هايبر لينك“ Hyperlink المعتمدة في صياغة السيناريو والكتابة السينمائية، اذ تستقي من بنية الشخصيات الدرامية، منطق و ديناميكية خط سير الأفعال والأحداث في كتابة درامية دائرية تنساب بكل سلاسة وطبيعية مع اللعب الدرامي القائم على ثنائية المفتوح والمغلق فجل العلاقات في العمل قائمة على فكرة الثنائيات وهو ما استند عليه الكاتب في اشتغاله على المادة النصية والحوارات التي كانت جلها منحصرة بين المونولوجات والصوليلوك  (the soliloquy) .
 النص كذلك لم يخلو من الشاعرية حيث إستصاغ الكاتب اللهجة التونسية و صور من خلالها جملة من الصور الشعرية البسيطة-المركبة، المختزلة-المكثفة في الأن ذاته من خلال سجلات قول الشخصيات التي لا تخلو من الاستعارات الرمزية ومن أبلغها شاعرية ورمزية في رأينا جائت على لسان شخصية الأستاذ «حمة زهومة” في مونولوجه الأخير و الذي لعبه باقتدار الممثل محمد شعبان.
«إشراق” الحاضرة-الغائبة خلق لها المسعودي محور درامي عمودي يتوسط باقي المحاور الدرامية الدائرية وكأن الشخصيات الستة الحاضرة على الركح تدور في فلك إشراق المظلم والغامض، باحثين عن شيء ما. الحقيقة؟ ربما...
هذه الشخصية التي حيرتنا واستفزتنا وأثارت تعاطفنا وسخطنا، تأتي وكأنها بطلة استحضرها الكاتب من رحم التراجيديا الإغريقية وحكم عليها بالموت والشقاء وظلت فكرة معلقة في أذهاننا منذ بداية العرض إلى نهايته، نخشى مصيرها و نفزع من سقوطنا المماثل لسقوطها في الجانب المظلم من الحياة.
في هذا السياق يتراءى إلى أذهاننا “أنتيجون” جان أنوي (Jean Anouilh - 1944) و كذلك “أنتيجون” برتولد بريشت (Bertolt Brecht - 1948) فهل سنتحدث يوما ما عن “إشراق” عبد الحليم المسعودي؟

الإخراج  وتصوير جماليات القبح
خاض المخرج نزار السعيدي من خلال مسرحية «تائهون» مغامرة فنية جادة تدرس و تشّرح بدقة وتفصيل معضلتي الجريمة والعنف اللذان نخرن جسد المجتمع التونسي واستنزفن دماء الوطن، فالجريمة التي ارتكبتها «اشراق» ما هي فقط الا الباب الذي فتح من خلاله السعيدي مختبره ليضع هذه الظاهرة تحت المجهر ويسائلها في عمقها ويدرس أسبابها و محركاتها ليس لغاية الاجابة بل لمخاطبة عقل المتفرج ومشاركته عملية البحث والتحليل وخلق علاقة جدلية فكرية-فنية معه تنبهه وتدعوه للنقد و التفكير في حلول تجتث هذا المرض العضال قبل مواصلة استشرائه في جسد المجتمع التونسي.  
«تائهون» عرض مسرحي طرح جملة من الأفكار المهمة والجادة، شديدة القسوة والحدة في الأن ذاته، فقد صور المخرج التيّه وعرض الجانب المظلم للوطن بكل جرأة وبدون أي تلطيف أو تزيين.
اشتغل نزار االسعيدي في هذا العمل على سينوغرافيا تتخذ من ناحية الديكور البساطة والرمزية، اما عن الاضاءة والموسيقى فقد كانا متناسقين ومنسجمين الى درجة كبيرة على مدى الزمن الدرامي للعرض وقد وفق السعيدي من خلال هذه العناصر في خلق جو وفضاء درامي (Dramatic atmosphere) يحاكي الفكرة الأساسية للعرض.
في التمثيل، استعان المخرج بأجيال مختلفة من الممثلين ونجح في صنع ديناميكية صلب فريق العمل مكنته من ادارة الممثلين بما يتوافق  ويتناسب مع رؤيته الإخراجية وتصوراته الجمالية للمسرحية، فالممثل في «تائهون» هو جوهر اللعبة المسرحية، بأداء قائم أساسا على الحركة والتعبير الجسدي  وفي اطار درامي مشحون بالدموية والعنف والجريمة، رائحة الدم في كل مكان والكل محاصر وتائه، فهذا النوع من الأعمال المسرحية لا يقبل التردد والتململ في اللعب، فبالرغم من تيّه الشخصيات كانوا الممثلون حاضرون وملتزمون في آداء أدوارهم بكل دقة وحرفية فقد خلق لهم المخرج فضاء لعب ضيق وقاتم لا يترك لهم متنفسا للمواقف الدرامية المنقوصة والأقوال المتذبذة فالركح دامس وقاتم والأجساد ثائرة وكأنهم يتسابقون نحو السقوط في منحدر إغواء الذات البشرية ومستنقع اللاعودة  وقاع العبث والفوضى.. منتظرين فقط اللحظة الصفر لاطلاق العنان للوحش الكامن بداخلهم على حد تعبير المفكر والكاتب الفرنسي ألبير كامو  (Albert  Camus) والانصهار في الجانب المظلم من الحياة.
بالرغم من التيمة الأساسية للمسرحية ألا و هي « الجريمة والعنف» والمواضيع شديدة القتامة والقسوة وكذلك الخطابات الدرامية الموغلة في قاموس الدموية والقتل والعنف إضافة إلى باقي عناصر الفرجة  التي كرسها المخرج لخدمة المفهوم الأساسي للعرض (The concept) القائم على هذه الثنائية، إلا أننا شاهدنا منجز إبداعي موفق ومحاولة إخراجية مميزة في دراسة جماليات واستيتيقا القبح وتحويل جملة المضامين الفكرية إلى صور بصرية فيها الكثير من الابتكار والتجديد وهو ما يحيلنا على مقولة الفيلسوف الألماني ايمانيول كانط» الجمال الطبيعي يعني أن هناك شيئا ما يكون جميلا، بينما الجمال في الفن يعني تمثُّلا جميلا لشيء ما».
تائهون» عرض مسرحي يتجاوز الفني و يرتقي لمرتبة المبحث النفسي و السوسيولوجي الاجتماعي الذي يمكن اتخاذه بمثابة النموذج لفهم ودراسة ظاهرة العنف والجريمة في تونس.


الياس رابحي