تابو صرخة في وجه التابو

تابو صرخة في وجه التابو

العدد 844 صدر بتاريخ 30أكتوبر2023

«السكوت لا يعني الموافقة.. كل منا يهوى الضجر.. عندما يصبح الاكتئاب 
والجنس تجارة 
أما الألم فهو الدليل على بقائنا أصحاء.. فاحذر إذا لم تشعر بالألم 
أرضى بجسد عاجز..»
تلك العبارات باللغة العربية هي جزء من العبارات التي تسللت إلى آذاننا مع موسيقى تدق بلا هوادة، وظلام دامس، هذه الأوفرتيرة الخاطفة كانت بداية عرض (تابو)، وهو إنتاج مشترك بين سوريا وألمانيا، وإخراج محمد ديبان، وتم عرضه ضمن العروض المتنافسة بمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي بدورته الثلاثين. 
قبل تحليل العرض، الذي كان رقصا معاصرا، سنتحدث ولو قليلا عن مدخل العرض، وهو اسم العرض (تابو)، تلك الكلمة المنتشرة، بل أصبحنا نطلقها على كل الثوابت، بل وحتى محاولة هدمها، وأصبحنا ندرك أن هناك ثلاثة تابوهات أساسية، وهي (سياسة، دين، جنس)، ولكن ما أصل الحكاية أو أصل كلمة تابو؟
بالعودة لعام 1983 حين صدر كتاب «الطوطم والتابو» من تأليف سيجموند فرويد، ستجد بالفصل الثاني تعريفه الآتي للتابو: «يتشعب معنى التابو لاتجاهين معاكسين، يعني لنا من جهة مقدسا مباركا، ومن جهة أخرى رهيب خطير محظور مدنس»، وإذا كان التضاد يبرز المعنى ويوضحه، فالتضاد هو كلمة نوا ومعناها اعتيادي، أي متاح للجميع، وكلا المصطلحين يأتيان من البولينزية قديما، هذا ببساطة هو تعريف سيجموند فرويد الطبيب النمساوي الشهير مؤسس علم التحليل النفسي الذي إذا فهمناه فهمنا أشياء كثيرة عن أنفسنا وعن الآخرين،  صحيح أن مدرسة فرويد في التحليل ليست الأصح في كل شيء ولكنها مرجع أساسي.
هي تبدو غير مفهومة  أحيانا كثيرة يقابلنا من لا يفهم عروض الرقص المعاصر ولا يستعذبه كفن، لأنه يريد شيئا 
مفهوما، يريد حوارا بين شخصيات وحبكة تتعقد، وأيضا حلّ العقدة ليس فقط التي بالعرض، بل التي بحياته، ولكن في حقيقة الأمر الرقص المعاصر هو نوع من الفنون التي يجب أن تترك فيها لروحك وقلبك العنان كي تشعر بالموضوع المطروح، وحينها إذا كان بالفعل عرضا جيدا  ستجد نفسك تحت التأثير دون صعوبة وبذل مجهود للفهم، ويتفق الرقص المعاصر والتابو في التعريف والعبارة التي قالها فرويد «المحظورات التابوية تفتقر إلى أي تعليل، ولا يُعرف لها مصدر، هي غير مفهومة بالنسبة لنا في حين تبدو بديهية لمن يقع تحت سلطانها»، فإذا أردت  أن ترضي الفضول وتبحث عن أصول الرقص المعاصر، بالتأكيد ستجد أبحاثا وكتبا محللة 
ليس فقط للرقص المعاصر، ولكن للأداء الجسدي للمؤدين؛ مما يفترض أنه يُسهل عليك عملية الفهم، ولكن صدقني إذا لم تقع تحت تأثير الرقص في العموم لن تفهم حركات مؤدين يتحدثون دون عبارات، يخاطبون وجدانك قبل أفكارك، وتخيل إذا كان موضوع العرض هو (التابو)؛ أي كل ما يضعه الإنسان نصب عينيه سواء بالتقديس أو بالتحريم، ولا يقف التابو عند بلد أو بيئة بعينها، فهو موجود على نطاق عالمي، حتى وإن لم يكن المصطلح والكلمة موجودين، فالمعنى موجود، لذا تجد العرض يضم أكثر من لغة، فالبداية كانت للغة العربية كما سلف وأوضحت في بداية المقال، وبعدها نسمع عبارات بالإنجليزية، وبعدها لغة تركية أو ما يشبهها، وعلى مدار العرض موجود في الخلفية للسماع ثلاثة أشياء: موسيقى، وأحيانا موسيقى مع عبارات منطوقة على طريقة (الفويس أوفر)، والصمت، بل حتى بعض المشاهد بها رقص يتخلله صمت داعين حاسة النظر للاستماع، ولا يدهشك تكرار أن بعد انتهاء الرقصة التي كانوا يؤدونها مع موسيقى بعد توقف الموسيقى، يستمر الرقص، إذا كانت الموسيقى روح والرقص حياة دعني أخبرك أن بعرض «تابو» كانت الحياة مستمرة بعد توقف الروح عن البث.
خلال العرض حاولت أن أتبين وأتحسس كل تابو من الثلاثة الأشهر على حِدا، ولكن بعد أن وجدت التابو الخاص بالدين موجودا بمشهد رقص يشبه الرقص الصوفي، والراقصين مرتدين تنورة بيضاء وكنزة بيضاء، وفي الخلفية أغنية (الملك لك)، بعد هذا المشهد لم أجد أثرا لبقية التابوهات من خلال العرض، وكان التركيز الأكبر على أن الإنسان يخلق التابو لنفسه، بالضبط نفس فكرة عبادة الأصنام، يصنعون التمثال ثم يعبدونه وينتظرون منه المعجزات، نفس التعامل مع التابو، فقد خلق الإنسان لنفسه صراعا داخليا عبر وضع التابو نصب عينيه، أو العكس، إذا نساه أو كسره عن عمد، حتى إن حركة من حركات الرقص في العرض كانت عبارة عن أن الراقصين يدقون بأيديهم عند رأسهم بعنف نابع من أن داخل الرأس تدور معركة، ثم يضعون أيديهم عند القلب بهدوء، ويكررون هذه الحركة أكثر من مرة. وفي هذا الشأن يقول فرويد في كتابه «الطوطم والتابو»: «إن من يتصدى لمسألة التابو انطلاقا من التحليل النفسي؛ أي من دراسة الجزء اللاشعوري من الحياة النفسية للفرد، سوف يقول لنفسه بعد قليل من التفكير، إن هذه الظواهر ليست غريبة عليه، فهو يعرف أشخاصا خلقوا لأنفسهم مثل تلك المحظورات التابوية ويتقيدون بها بتشدد».
وعلى سيرة القيد والتشدد لم يفوتني تفصيلة أن جميع الراقصين بلا استثناء، وحتى الرجال، كان شعرهم معقودا، لكل منهم ضفيرة، وللضفيرة في المسرح دلالة قيد وتشبث.
ليست الضفائر هي الشيء الوحيد الذي كان له دلالة وإسقاط على موضوع التابو، وإنما حتى الخط الأحمر المائل الذي رسمته إحدى الراقصات على خشبة المسرح بطريقة السير على الحبال، ولكن هنا الرقص على حبل مائل تخطه بيديها على الأرض، ليأتي بقية الراقصين في المشهد الذي يليه يجلسون على الخط نفسه بميل، وهنا يأتي دور الفلسفة والتأويل، فإذا كان التابو معنيا بالاستقامة دون اعوجاج أو ميل، فالكسر أتى عبر خط مائل، وإذا كان اللون الأحمر له دلالات كثيرة نتبينها حسب السياق، فهو هنا معني بالصراخ والتمرد على كل ما هو تابو وليس مجرد إنذار.
ظلت مشاهد العرض في تتابع مشهد به جميع الراقصين، ثم يليه مشهد لراقص بمفرده أو -كما في إحدى المشاهد- راقصتان، وذلك التسلسل تظنه لخدمة عنصر الملابس في العرض، وهي جميعها ملابس بسيطة لا تحتاج وقتا كبيرا لارتدائها، وألوان الملابس لم تخرج عن الأبيض والأسود مرتبط ارتباطا وثيقا بموضوع العرض (التابو)، فهما لونان حادان يمثلان كل شيء، حتى إنهما يُرمزان لقوى الخير والشر باللونين الأبيض والأسود، ولكن في حدة اللونين نرى التابو حادا مقدسا كأبيض ملائكي، ومدنسا كأسود شرير. ولكن تتابع المشاهد تارة برقصة جماعية وتارة برقصة منفردة، نستطيع تأويله بسلاسة وربطه بالتابو، فهناك التابو كأعراف مجتمعية، يتواجد بصفة عامة على مستوى قبيلة قديما أو مجتمع حديثا، وهناك التابو بشكل فردي ممثلا صراع الإنسان مع تابوه الفردي الخاص الذي ليس بالضرورة أن يكون موجودا لدى بقية الأفراد، حتى وإن كانوا من المجتمع نفسه، بل حتى إن كانوا من نفس الأسرة.
كان العرض من إخراج محمد ديبان وراقصيه الستة هم: محمد أمين، وفادي واكد، وكارلا  أنطونيا ويبر، جنبا إلى جنب مع أوكسانا تشوبرينيوك، ومحمد علي ديب، وإينا جوشار.


سارة أشرف