العدد 600 صدر بتاريخ 25فبراير2019
لم يعتد المرء في بلدنا على لغة العنف والمشاحنات الناتجة عن الصراعات العرقية والدينية والسياسية.. إلخ التي قد تصل حد القتل في أغلب الأحيان، سوى في الآونة الأخيرة تحديدًا منذ نشبت ثورة الخامس والعشرين من يناير وكأننا أمام بركان ظل خامدًا لسنوات كثيرة تحت مظلة الشعارات الخاوية مثل تقبل الآخر وكون الاختلاف لا يعني الخلاف... وغيرها من الشعارات التي أدرك المجتمع مؤخرًا أنها لم تكن سوى شعارات زائفة مزقها الشعب حين أعلن الحرب على كل مختلف وانقسم إلى طرفي نزاع أحدهما مسلم والآخر مسيحي، إخواني وثوري، مع النظام وضده، وكثير من الانقسامات التي جعلت منا شعب ممزق بين هذا وذاك، شعبا استباح دماء المختلف دون أن تطرف له عين، ربما هذا لا ينفي أن تلك المشادات العنيفة كانت تحدث قديمًا ولكنها كانت بتخف، تحدث على استحياء يخشي أن يُصرح به على الملأ مرددين أنها مجرد فتن تهدف إلى تدنيس استقرار أرضنا، أما الآن فحوادث القتل التي كانت تؤرقنا قديمًا تحولت إلى أمر معتاد، وكأن اللاصقة السوداء وملابس الحداد قطعتا الأحجية التي لزم وجودها لتكتمل صورة حياتنا القاتمة بين جنود سقطوا ضحايا للإرهاب وقتل أبرياء بدور العبادة أو حتى أثناء متابعتهم لمباراة كرة قدم، بينما ينتظر الجميع أن تشرق شمس أرضنا من جديد.
وبدورها تأتي الفنون لتتطرق إلى تناول تلك الأوضاع السائدة كونها مواضيع ساخنة يمكن أن تتيح لصناع الأعمال الفنية مقاربة الواقع برؤى وطرق مختلفة، فلا ريب أن اللعب على استثاره المتلقي من خلال أحداث الواقع العامل الأكثر ربحًا، فالجمهور يلهث للنظر في تلك المرآه التي تعكس واقعه المعيش بشكل أو بآخر وتتحدث بلسان حاله. ولذلك جاءت أحداث العرض المسرحي “أيام صفراء” ليست غريبة أو بعيدة على المشاهد فالمتلقي المصري يعي ويدرك جيدًا كيف أن الأحداث تلمس واقعه بشكل أو بآخر بل إنها أيضا لسان حال الكثير.
حيث إن العرض المسرحي “أيام صفراء” الذي يُعرض حاليًا على خشبة مسرح الهناجر بدار الأوبرا المصرية المأخوذ عن نص “أيام صفراء” للكاتبة السويسرية دانيلا يانيتش ترجمة نفين فايق وإعداد درامي عمر توفيق وإخراج أشرف سند، أحدث التناولات التي تطرق إلى الاختلافات العرقية والدينية والسياسية والفكرية.. إلخ، فنحن أمام أسرة واحدة تكشف مكنونات أفرادها أثناء الحرب عن الرفض التام لتقبل الآخر بسبب الاختلافات الفكرية وبراثن التطرف والأفكار الموروثة التي تتحول إلى عقائد ومن ثم تؤدي إلى عنف رافعين لافتة البقاء للأقوى دائمًا.
يطرح العرض الكثير من التساؤلات دون أن يُجيب على أي منها حول الاضطرابات التي تؤرق حياة الأسرة الواحدة وكذلك نظرتهم إلى ماضيهم وذاكرتهم المشتركة، ولعل أبرز تلك الأسئلة وأهمها على الإطلاق هو سبب تلك الحرب فلا يدرك المشاهد ما إذا كان سبب تلك الحرب هو اختلاف الدين أم الطائفة أم أنه اختلاف طبقي أو بسبب مباراة أو غيرها، وتبقى علامة الاستفهام حائرة دون إجابة طوال أحداث العرض حتى يُسدل ستاره دون إجابة، فتلك هي غاية العرض الرئيسية التي تدور من خلالها بنية العرض الدرامية، فما دامت النتيجة واحدة في كل الأحوال فلماذا نكترث للسبب!! فقصدية صُناع العرض في عدم الإفصاح عن سبب الحرب بشكل مباشر أعلنت عن فكرة أنه قد تتعدد أسباب الحرب ولكن تبعيتها ونتائجها واحدة، ولذا جاء عدم وضع أحداث العرض في إطار زمني أو مكاني محدد مكملاً للفكرة التي الأشمل التي بحث صُناع العرض على ترسيخها بذهن المتلقي فكما ذكرت سلفًا أنه قد يختلف المكان والزمان وربما الأشخاص والتفاصيل ولكن ستبقى سطور النهاية واحدة هي التدمير وسقوط الأبرياء.
وعن سينوغرافيا العرض، فنجد أن كثيرًا ما تعرقل خطط تنفيذ الإضاءة على خشبة المسرح اكتمال سير العرض المسرحي بشكل فني متقن حيث إن سقطات سينوغرافيا العروض المسرحية تكمن أغلب الأحيان بعدم جدية تنفيذ الإضاءة التي ربما لا تكن مناسبة للحدث أحيانا أو حتى لأسباب تقنيه خاصة بقاعة العرض أو غير ذلك ولكن يكفي أن نذكر أن خطأ واحد في تنفيذ إضاءة أي عرض مسرحي كفيل بأن يقلل من قيمته الفنية ويلقيه أرضا ولكن على عكس ذلك تمامًا فنجد اهتمام صُناع العرض المسرحي “أيام صفراء” بعنصر الإضاءة للحد الذي جعله العنصر الأقوى والأدق في العرض المسرحي، حيث لعب محمد عبد المحسن مصمم إضاءة العرض على خلق صورة بصرية تدعم الحدث الدرامي فدلالة اللون الأصفر الذي استخدمه عبد المحسن بأغلب مشاهد العرض لم تكن اعتباطا بل كانت مناسبة تمامًا للحالة الباهتة التي يعيشها شخصيات العرض والبنية الدرامية التي تدور من خلالها أحداث العرض، واستكمالاً لخلق حالة من التشتت الفكري والترقب جاء أداء كل من عابد عناني، رباب طارق، رامي الطمباري بصورة احترافية حيث خلق كل منهم صبغة خاصة للدور الذي يؤديه ليصبحوا كأضلاع مثلث لكل منه أبعاد نفسية واجتماعية وموروثات فكرية ساهمت في تشكيل آيديولوجيات هؤلاء الثلاثة ومن ثم انعكس ذلك على أفعالهم وانفعالاتهم وهو ما يحتم علينا أن نُثني على أدائهم المتقن.
ولكن تأتي الرياح دائمًا بما لا تشتهي السفن ففي حين بحث صناع عرض “أيام صفراء” على تقديم دراما تلمس واقع المجتمع بصورة ضمنيى بحتى وأن يظهر العرض في صورته الفنية الأقرب للمثالية، كان إغفال صناع العرض لكثير من العناصر سقطة أطاحت به بعيدًا عن هذا الكمال الفني، فقد بدت مشاهد العرض كشذرات مشتتة فعلى الرغم من استناد بنية العرض إلى خط درامي واحد إلى أنه بدا كحبات عقد يفتقد سلسلة تجمع مشاهد لتصبح متصلة بصورة منطقية قائمة على فكرة السبب والنتيجة وليست مشاهد مجمعة كما حدث، كما نجد أنه على الرغم من أداء الممثلين البارع فإن ذلك لم يوجد ببعض الأحيان، حيث تسبب التمثيل الرتيب والحركات البطيئة الانفعالات الهادئة في إصابة المتلقي بالرتابة والملل في أغلب مشاهد العرض ولا أقصد هنا إيقاع النص الذي كان من المنطقي أن يكون رصينًا بسبب طبيعة الأحداث الرتيبة ولكن ما أعنيه هو إيقاع الحدث الدرامي على خشبة المسرح.
أما عن الاستعراضات فقد ظهرت بصورة دخيلة على الفعل الدرامي دون مبرر فقد بحثت كثيرًا عن وجود مبرر درامي لاستخدام تلك الاستعراضات لكن دون جدوى فلم يتمكن المتلقي من إدراك ماهيتها داخل العرض كما كان الأمر كذلك باستخدام شخصية ملاك الموت فقد ظل ظهور تلك الأخيرة عبثيا دون جدوى فقد بدت كشخصية مبهمة دون مبرر، سوى بالمشهد الأخير من الفعل الدرامي، ومن ثم فما يمكن الاستغناء عنه يجب الاستغناء عنه طالما ذلك لم يحدث خللا في بنية العرض المسرحي.