فينومينولوجيا الأداء المسرحي(1)

فينومينولوجيا    الأداء المسرحي(1)

العدد 823 صدر بتاريخ 5يونيو2023

المقدمة:
تهدف المقالة الحالية إلى تنفيذ وصف فينومينولوجي للأداء المسرحي. ولكي أفعل ذلك، سوف أعيد النظر في بحوث دراسات المسرح المعاصر، ولاسيما نظريات تلقي الأداء المسرحي عند هانزِ سيز ليمان  Hans-Thies Lehman، وإيريكا فيشرليشت Erika Fischer-Lichte من منظور فينومينولوجي. وفي هذه المراجعة سوف أقدم مفهوم “الاختزال الاستدلالي eidetic reduction” (تعليق الحكم epoche) في وصف ميول المتفرج في التلقي. علاوة على هذا، سوف أقترح من خلال وصف التوضيح النهائي للأداء، استبدال منهج ليمان بعد البنيوي بالمنهج الفينومينولوجي. وسوف يؤدي هذا إلى شغف غير محدود بالأداء المسرحي. وِبعد هذا سوف أتأمل مشكلة التوازن المتعدد Multistability من خلال وسائل عمل مارك ريتشير Marc Richir المتعلقة بأسبقية التخيل على الإدراك. ومن هذا الأساس، وباستخدام وصف ريتشي لتجربة المتسامي، سوف أوضح أن الأداء المسرحي، عندما يصل إلى لحظة النشوة من خلال التطهير الأرسطي، يفصح عن نفسه باعتباره عملا يتم أداؤه بشكل جماعي مرح ورمزي، وباعتباره فعل تحول مؤسسات المجتمع الفينومينولوجي الرمزي والخيالي (الجمهور).
التحول الأدائي باعتباره تحولا فينومينولوجيا:
 في كتابه “المسرح بعد الدرامي Postdramatic theater” يجادل هانز سيز ليمان بأن مسرح أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، قد خضع لتحولات أنطولوجية مميزة. وأصبح صناع المسرح التجريبي الرواد في هذه الفترة، مثل جيرزي جروتوفسكي وتادوش كانتور وروبرت ويلسون وفرقة رفايللو سانزيو للمسرح التجريبي الايطالي وجان فابر.. إلخ، أكثر اهتماما بالإمكانيات الكامنة في الأداء المسرحي الحي عن التمثيل الدرامي للنص (لأنه شكل من أشكال الأدب) الذي يقف على مسافة لا يمكن التغلب عليها في اللحظة الحالية للأداء. وعلى هذا النحو، بدا النص الدرامي أحد مظاهر سيادة الكاتب المتعالي، الذي لن يكون حاضرا أبدا. ويزعم ليمان أن الشكل الجديد للمسرح لا يمكن مشاهدته وفقا للشروط الجمالية القديمة، وتحديدا تلك الشروط بتمثيل الدراما (Mimesis). ويجادل ليمان بأن مفهوم الدراما نفسه خضع لأزمة لأنه يفترض استمرارية وكلية التجربة في العالم:
ما نجربه/ أو نجسده كدراما ليس سوى تصور خادع ميئوس منه للأحداث كأفعال. فالأحداث تُفسر بأنهـا “أفعـال”: تلك كانت معادلة نيتشه في صنع الأساطـير. وتميز هذه النقلة تصور الفـرد الوهمي (بطبيعته) للواقع، والاعتقاد الأبدي في إدراك مجسم بشكل تلقائي. ولهذا السبب يعلن ليمان الحاجة إلى مسرح جمالي جديد ينشئ نفسه من تجربة الأداء المسرحي. ويجادل بأن:
 المسرح هو مكان التجمع الحقيقي، والمكان الذي يحدث فيه  تقاطـع فريـد بين الحيـاة اليوميـة الحقيقيـة والحيـاة المرتبـة   جماليا. وعلي عكس الفنون الأخرى التي تنتج شيئا أو يتـم  توصيله من خلال الوسائط، وهنا يحدث الفعل الجمالي نفسه  (الأداء) وكذلك فعل التلقي (الذهاب إلى المسرح) الذي يحدث  كفعـل حقيـقي هنـا والآن. المسـرح يعـني فـترة الحيـاة التي نقضيها ونستخدمها بشكل جماعي في الهـواء الذي نتنفســه بشـكل جمـاعـي في تـلك المسـاحة الـتي يحـدث فيهـا الأداء والتلقي. ويحدث إرسال العلامات والإشارات وتلقيهمـا في  نفس الوقت. ويغير الأداء المسرحي السلوك على خشبة  المسرح وفي القاعة إلى نص مشترك، “نص” حتى لو لم  يكـن هناك حـوار بين الممثلين والجمهـور.  وبالتالي، فـإن  الوصـف الملائم للمسـرح مرتبط بقراءة هذا النـص الشامل،  وبقدر ما يمكن أن تلتقي نظرات المشاركين تقريبا، فإن حالة المسرح تشكـل مجموعـة كاملة مكونة من عمليات تواصــل  واضحة وخفية.
كما نرى، يوضح ليمان أن المسرح فن بدون أي منتج. وعلى العكس من ذلك، فإن المسرح شيء نقوم به معا، “هنا والآن”، إنه شكل من أشكال التواصل. وأهم فرق بين الأداء المسرحي والحياة اليومية هو أن الأول “مرتب جماليا”. أو بمعنى آخر؛ “يوضع عن قصد”. ولكن في نفس الوقت، من وجهة نظر هذه النظرية –المتجذرة بعمق في الأنطولوجيا بعد البنيوية– يتم تخيل فعل الاتصال كنص مكتوب بشكل جماعي، نص محفور في لا مادية زمن الأداء وفراغ المكان. وبالتالي، في أجسام المشاركين. ومن وجهة النظر هذه، الأداء المسرحي نص مشترك، مكتوب ليتم تفسيره. وبفضل هذا الشرط الأخير، يميل المشاهد، من وجهة نظر ليمان، إلى أن يكون قارئا لعلامات نص منسوج في الزمن الفعلي. ويؤكد رغم ذلك أن هذه العلامات ليس لها معنى دقيق؛ بل إن الأداء بالأحرى هو حدث حيث لا توضع هذه العلامات في الترتيب التسلسلي للحياة اليومية: يتم وضعها في علاقة نظيرة من أجل هدم أشكال التفسير الثابتة وإظهار الطبيعة الحقيقية للعلامات، مثل بعض البنيات ذاتية الإشارة. وبالتالي، من وجهة النظر هذه، فإن الأداء يزيح المشاهد من موقعه التأويلي التقليدي، ويضعه في علاقة متناقضة مع الأداء، لأنه مؤلف مشارك وقارئ لنصه. وعلى هذا النحو، يوضع المشاهد داخل هذه البنية وخارجها على حد سواء. وهما المتفرج والضيف المدعو لكي يكون المنظر (بالمعنى الأصيل للنظرية) لهذا الحدث الاحتفالي الغريب. فالمتفرج هو الغريب الشبيه بعالم الأنثروبولوجيا الذي يشارك في هذه السلسلة غير المفهومة من الأفعال (التي يتم أداؤها في مدينة الأداء اليوتوبية وغير المستقرة)، من أجل تفسيرها بعد الواقعي. وبفضل هذا السلوك التأويلي، يجد المتفرجون أنفسهم في حالة ذهنية متغيرة:
النتيجة هي تغير الموقف من جانب المتفرج. ويستخدم مصطلح “تعليق المتساوي للانتباه” في تأويل التحليل النفسي. وقد اختار فرويـد هذا المصطلح لوصـف الطريقـة التي يستمـع بهـا المحلل إلى التحليل. وهنا يعتمد كل شيء على عدم الفهم فورا. وبدلا من ذلك، يظـل إدراكنا مفـتوحـا عـلى الصـلات، والتطابقـات، والقرائن في لحظات غير متوقعة تماما،  وربما يطرح ما قيــل سابقا في ضوء جديد. وبالتالي، يظـل المعنى مؤجـلا من حيـث المبدأ. وتُسجل التفاصيل الصغيرة وغير الدالة بالضبط لأنها في عـدم دلالتها الفورية ربما تتحـول إلى تفاصـيل دالة. بالنسبة لخطاب الخاضع للتحليل النفسي. وبطريقة مماثلة فإن المتفرج في المسرح بعد الدرامي ليس مُطالبا بمعالجة المُدرك على الفور؛ بل يؤجل تقديم المعنى (الدلالة) ويختزن الانطباعات الحسية بتعليق الانتباه المتساوي.
كما نرى في نموذج ليمان، يجد متفرج المسرح بعد الدرامي نفسه في حالة ذهنية متغيرة، في حالة نزوع، حيث تختلف قصدية انتباهه عن الحالة اليومية العادية: لا يستطيع أن يعرض الدلالة الفورية لتعدد العلامات المستجدة. ولكي يصف ليمان الميل الذي يمكن من خلال الوصول إلى الأداء، فإنه يستخدم المفهوم المنسوب إلى فرويد المتمثل في “التعليق المتساوي للانتباه”.
وهذا يؤكد، من وجهة نظري، أنه مفهوم مضلل بعض الشيء لأنه يضع المتفرج بشكل لا إرادي في موقف المحلل النفسي لكونه –وفقا للمصطلحات المنسوبة إلى لاكان– الذات التي يُفترض أن تعرف، ويضع الأداء المسرحي في موقف الخاضع للتحليل النفسي، الذي يحاول أن يخفي الحقيقة في النص الفرعي لبنيته. وهذا الميل الذي يحاول ليمان أن يصفه هنا يتضح بشكل أفضل مع مفهوم “الاختزال الاستدلالي” (أو تعليق الحكم). فممارسة الاختزال الاستدلالي تركز على اكتشاف الظواهر الواضحة من منظور جديد بالدخول في تفاعل معها في موقف معين، فضلا عن فحص المعنى الخفي فيما وراء ظهورها. وبالتالي، فإن العرض المسرحي يؤكد أنه صيغة معروضة على خشبة المسرح من تعليق الحكم كما يزعم كل من مايك بليكر وجون فولي شيرمان وإيريني نيدلكوبولو في مقدمة كتابهم “الأداء والفينومينولوجيا Performanc and Phenomenology”:
 تعليقا على هوسرل، لاحظ دريدا أن الاختزال الفينومينولوجي هو مشهد، وخشبة مسرح. والافتراض العملي هو أنه إذا دعانا المنهج الفينومينولوجي المنسوب إلى هوسـرل إلى الابتعاد عن  المشاركة المباشرة مع العالم، فإن هذه المسافة نفسها ستكرر المسافة المنقولة بين ما يحدث على خشبة المسرح والمتفرجين. وتبعا لذلك يقدم المسرح صيغة من تعليق الحكم لأن كليهما يتعلقان بالإدراك بعيدا عن اليومي.
وبافتراض أن هذا صحيح، فإنه يمكن فهم الأداء المسرحي باعتباره مناسبة فريدة لممارسة فينومينولوجية خاصة، فضلا عن أنه لعبة تأويلية ذاتية الإشارة بعلامات ذاتية الإشارة. إنه يعلق بشكل أدائي قصدية المتفرج اليومية للوجود في العالم. فمن خلال وضع تخيل المتفرج وإدراكه وتذكره في داخل اللعب، يمنح الأداء المسرحي القدرة للمتفرجين لإعادة اكتشاف واقعهم وتأمل تضمينه في واقعهم بين الذاتي.
 ولذلك، يمكن أن نقول إن الأداء المسرحي بعد الدرامي يخلق موقفا مثيرا حيث يجد المتفرجون أنفسهم في عالم الشك، حيث تقدم الكينونات المعروفة والمتجسدة (الإنسان والحيوان والأشياء) نفسها على أنها ظواهر غير قابلة للقياس. فالأداء يستدعي المتفرج للدخول في تفاعل مع الظواهر المتجلية، وليس فقط من خلال فكرها؛ بل أيضا من خلال هيئتها، التي تجرب الإشارات المجهولة أو الانطباعات الحسية لتلك الكينونات في ظاهراتياتها الخالصة.
 وفي منهج إيريكا فيشر ليشت الموصوف في كتابها “القوة التحويلية للأداء”، عندما يدخل المتفرجون موقف هذا الشك المثير، يجدون أنفسهم في وسط عملية فينومينولوجية دينامية. وتصف ذلك بأنه حالة حدية، حيث يفشلون في السيطرة على عملية توليد الدلالة التأويلية لما يمارسونه.
 يُفهم العنصر المسرحي في وجوده الظاهراتي ويؤثر ماديا في الجمهور.  ولذلك، فإن عملية إنشاء عالم قصصي يتم قطعه بشكل فظ. وفي مكانه نجد “اندماجا” للذات الواعية الشيء المُدرك.  ويخضع المتفرج إلى لتيار التداعيات التي تؤدي إلى مزيد من استبطان السيرة الذاتية.
 وعندما ينتقل الإدراك مرة أخرى إلى ترتيب التمثيل، تتحطم سلسلة الفهم السببية وتكوين الشخصية بشكل متماسك. وسوف يضطـر المتلقون إلى استئناف ما تسمح لهم به الذاكرة. وتثبـت محاولة توليد المعنى على نحو تأويلي بأنها محاولة عبثية. فالتغيرات تترك الذات الواعية في حالة عجز. وهـنا تتميز التجربـة الجمالية عموما بتجربـة عـدم الاستـقرار، التي تعلـق الـذات الواعـية بين نظامـين إدراكيين. فالاستقرار الدائم يقع خارج سيطرتهم.
يوضح هذا المقطع الأخير أن “التأثر” بالأداء لا يعني فقط اللمسة الخيالية للمعنى المتسامي (الجمال الشعري للنص التي يُقرأ، أو الشخصية المتخيلة التي يؤديها الممثل) ولكنه نتيجة اللمسة الفعلية والظهور التلقائي لحضور جسم آخر (الذي يؤدي الإيماءة، ويقول الكلمة، وينظر إلينا)، الذي يستدعي الاستجابة الفورية لجسم المتفرج. وينشأ التذبذب كعاطفة تجذب أو تنفر المتفرج مثل الموجة غير المرئية التي تهز الجسم في اختزال حضور الجسم الآخر. وبفضل هذه العاطفة، يتم تعليق التخطيط الهادئ والتأمل –الذي من شأنه أن يقسم العالم ذوات وموضوعات– ويجد المتفرج نفسه في حالة إدراك متذبذب للواقع، ليس فقط في تدفق التجارب الوحشية المجهولة؛ بل في وسط أكثر ذكرياته الخاصة وخياله. ونظرا لأن الموجة العاطفية الناتجة تستفز جسم المتفرج إلى استجابة فورية –إرادية أو لا إرادية– فإنها تؤثر بدورها على جسم الممثلين والمتفرجين الآخرين، وتنشئ حركة فريدة ومتقلبة وتفاعلا عاطفيا في جسم المشاركين الحاضرين في مكان الأداء وزمنه:
 يمثل الممثلون؛ أي أنهم يتحركون في الفراغ، أو يومئون                 أو يغيرون تعبيراتهم، أو يتلاعبون بالأشياء، أو يتحدثون أو يغنون. ويفهـم المتفرجـون أفعالهم ويستجيبون لها.
وعلى الرغم من أن ردود الفعل هذه مقصورة على العمليات الداخلية، فإن استجابتهـم الملموسة متساوية في الأهميــة:   فالمتفرجون  يضحكون،  أو يهللون، أو يتنهدون، أو يبكون، أو يصرخون، أو يجرون أقدامهم، أو يحبسون أنفاسهم؛ يتثاءبون، وينعسون، ويبدأون في الشخير؛ ويسعلون ويعطسون ويأكلون ويشربون؛ ويسحقون ورق الأغلفة، ويتهامسون ويصيحون بالتعليقات، ويصيحـون “هائل” و”أعد مرة أخرى”، ويصفقون، ويسخرون، وينهضـون ويغادرون المسـرح، ويضربـون الباب وهــم
 يخرجون.. باختصار كل ما يفعله الممثلون يثير الاستجابة                 من المتفرجين، التي تؤثر على الأداء ككل. وبهذا المعنى                 تولد العروض وتتحدد من خلال مرجعية ذاتية وحلقة تغذية استرجاعية مستمرة.
ويمكننا أن نرى أيضا أن حلقة الشاعرية الذاتية autopoietic (كما يطلق عليها فيما بعد في كتاب فيشر ليشت)، ليست شيئا مقصورا على العروض بعد الدرامية، ولكنها الموقف الأساسي في كل أداء. وفي هذه المرحلة، يمكننا أن نقول إن الأداء المسرحي (بغض النظر عن طبيعته الدرامية أو بعد الدرامية) يفصح عن نفسه كمجال لتفاعل اجتماعي غير محدود بمفهوم تمثيل الفعل الخيالي، ولكن باعتباره فعلا لتفاعل العواطف بين كياناتهم (التي تتضمن أجسام الحيوانات والأشياء وحتى الفراغ نفسه). ويمكن أن نلاحظ أيضا أنه بفضل تنظيم الأداء المسرحي الجمالي، فإن له قصدية خاصة، تضم نوع الحركة في الفعالية التمثيلية لخيال المشاركين وتذكرهم الذي ينشأ من إدراك مغاير للظاهراتية المستمرة.
يجذب مفهوم حلقة تغذية الذاتية الشاعرية الاسترجاعية انتباهنا إلى حضور جمهور الأداء المسرحي المترابط، فضلا عن تعدد المتفرجين الدائمين. إذ يشكل هذا الجمهور أيضا مسار الأداء المستمر بحضوره. وبالتالي، لا ينفصل عن المؤدين. ولوصف هذه الظاهراتية، أقترح تقديم مفهوم “كيان الأداء المسرحي غير المحدود. فالأداء المسرحي ككيان هو ظاهرة حية تتنفس وتنبض، فضلا عن أنه نص مشترك، مقروء وجسم ميت، كما يقترح ليمان. ورغم ذلك، أؤكد أيضا أن مفهوم كيان الأداء المسرحي غير المحدود لا يفترض مسبقا أن يكون الجمهور وحدة متجانسة، وكتلة بلا وعي ولا شكل. بنفس الطريقة تنطوي تجربة الكيان المستقل على إدراك أجزائه المستقلة ومناطق جسمه، علاوة على كل أجزائه، وحالته المزاجية.


ترجمة أحمد عبد الفتاح