الفينومينولوجيا.. والنقد المسرحي (1)

الفينومينولوجيا.. والنقد المسرحي (1)

العدد 800 صدر بتاريخ 26ديسمبر2022

«الصيغة المرئية التي لا مفر منها : هي هذه علي الأقل  إن لم يكن هناك المزيد من الأفكار بين عيني. إشارات  كـل شـيء هـي أنني هنـا لقـراءة فجـر البحـر وثورتـه  واقتراب المد وذلك الحذاء الـصدئ . والمخـاط الفضي الأزرق الصدئ : العلامات الملونة . إنها حدود الشفافية .ولكنه يضيف، الشفافية في الأجسام»
( عوليس، جيمس جويس) .
يختبر جويس حدود الإدراك أثناء سير ستيفن ديدالوس علي شاطئ ساندي ماونت ستراند . إذ يسحق ديدالوس أصداف البحر تحت حذائه، وهو يفحص قدرته علي إدراك ما يوجد بالخارج بنفسه . وان لم يكن هناك شيء مؤكد فيما يتعلق بالحقيقة الخارجية، فيتساءل، هناك على الأقل الإحساس بالإدراك، الإحساس بوجود أشياء سابقة علي الوعي، وانه، حتى مع قابلية حواسنا للخطأ، هناك بعض الثبات – صيغة لا مفر منها – إن لم يكن فيما نعتقد أننا نراه، ثم إلى كيفية اعتقادنا بأننا نراه . هذا الشك العميق هو سمة المعرفة الحديثة، التي يسميها فوكوه مشاهدة انفصال اللغة عن الأشياء، إعادة صياغة علوم الحياة في شكل أنساق وعناصر عضوية وظهور نوع الإنسان . وقد تغلغل التشكيك في يقين المعرفة الإنسانية الذي بدأه كانط وهيجل وتسلل إلى روايات جويس، وتناوله جويس المعاصر لادموند هوسرل تحت راية الفينومينولوجيا . من خلال تنقل الوعي المتعمد والموجه بعقلانية، يمكن أن يجادل هوسرل بأننا يمكننا أن نصف العالم المتاح للإدراك بطريقة تجعل وعينا يكتسب معرفة بالعالم الذي هو كل شيء مع أنه مطلق . لقد أسس هوسرل تصورات جديدة، فضلا عن الادعاء بأنه يصف الجواهر الموجودة في الأشياء المكونة للعالم، إذ سعى إلى تجميع المعرفة بجواهر موضوعات الوعي – لمعرفة العالم من الداخل إلى الخارج .
ويعد برت أوستاتس Bert O’States أول من طبق الفينومينولوجيا المنسوبة إلى هوسرل في نقده لسيميوطيقا الأداء في منتصف ثمانينيات القرن الماضي . ومنذ ذلك الحين، أصبحت الفينومينولوجيا هي الجزء المألوف في مفردات دراسات الأداء . والكثير من استنتاجات فكر هوسرل هو علي وجه التحديد استنتاج للاختزال الفينومينولوجي المعروف بأنه « الوضع بين الأقواس «، أو تعليق الموقف الطبيعي من أجل عزل الصفات الأساسية لإدراك موضوع معين . ومع ذلك تميل تطبيقات الاختزال الفينومينولوجي علي علم المسرح إلى فعل ذلك مع القليل من الاهتمام بفوضى النقد التي تراكمت علي الفينومينولوجيا المنسوبة إلى هوسرل منذ اكتشافها, والقليل من الاهتمام بمشاكل تطبيق فكرة الوعي المعيارية والوضعية، والقليل من الاهتمام بفشل الفينومينولوجيا في تقديم نموذج لدراسة الأداء يختلف أساسا عن ذلك الذي يتجاهل الفينومينولوجيا تماما . وبحث هذه المسائل يعني إيجاد الوضع الحالي لفينومينولوجيا الأداء غير الملائم لمهمتها والذي يحتاج إلى تعديل .
 وهذه المقالة معنية بتأمل ممارسة النقد المسرحي الفينومينولوجي من خلال انتقاد بنية الاعتقاد في تلك الممارسة في عدة نقاط . وبعد وصف موجز لتطبيق الفينومينولوجيا علي الدراسات المسرحية، ولاسيما تفسير أسبقية تلك الدراسة، سوف ندرس هوسرل كمفكر حديث في عصره، بمعنى أنه علماني (بلا شك بمعنى بعد مسيحي)  ووضعي ( بمعنى المستكشف الذي يرسم خريطة لبلد لم يكتشف بعد) ومعياري في توصيفاته للوعي . وفي خدمة اقتراحي من أجل تقديم معنى معدل للنقد الفينومينولوجي، سوف نقدم نقد دريدا لهوسرل الذي سوف يؤثر علي فينومينولوجيا المسرح في موضعين هما النشأة واللغة . وسوف يتضح أنه بعيدا عن محو الفينومينولوجيا، فان دريدا يستجوبها إلى حد وضع حالة شك لا نهائية في أساسها . إذ يعيد مفهوم الاختلاف difference، وهو نتاج تأملات دريدا في فكر هوسرل، طرح مسألة الحضور presence الذي يمكن أن يغفله هوسرل، ويقدم فكرة لعب المعنى لأولئك الذين يعتنقون الفينومينولوجيا . وفي صياغتي الأخيرة تستفيد الفينومينولوجيا التفكيكية من معنى اللعب هذا، وأيضا من ترحيب دريدا بالآخر، وهو الترحيب الذي يخاطب البنيات التفسيرية الأخرى الملائمة لفينومينولوجيا المسرح .
المحددات: مجال الحجة:
لا توجد فينومينولوجيا واحدة، ولا توجد صيغة فينومينولوجيا جامدة ومتماسكة داخليا في فكر هوسرل . والدراسة الحالية معنية بمعالجة الفينومينولوجيا المنسوبة إلى هوسرل كما تطبق علي دراسة المسرح، وبالتالي، تناول هوسرل بطريقة وثيقة الصلة بتطبيق فكره علي الدراسات المسرحية . وسوف يمتد تأثير الحجة فقط بقدر ما يدعي علماء المسرح اللجوء إلى الاختزال الفينومينولوجي لدعم وصفهم للأداء . فالنقد الفينومينولوجي هو ممارسة استطرادية لا تتطابق مع الفينومينولوجيا المنسوبة إلى هوسرل، ولكن الأولى تتعلق بالأخيرة . وبالتالي، سوف يهتم هذا المقال بانتقاد هوسرل بقدر ما يكون لهما تداعيات علي الطرق الخاصة التي وضعها للعمل في مجالنا .
الحقبة الفينومينولوجية في دراسات المسرح:
 منذ عام 1985، انتشرت الفينومينولوجيا في دراسات المسرح، وبلغت ذروتها في تخصيص جزء للفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا في كتاب المختارات «النظرية النقدية والأداء Critical Theory and Performance “ إعداد جانيل رينيه و جوزيف روش عام 1992 . وقد عزز هذا التضمين الفينومينولوجيا في ذخيرة دراسات المسرح والأداء لمدة أكثر من عقد وحتى الآن . ولا غنى عن الفينومينولوجيا لأي دراسة مستفيضة لنظرية الأداء، واستحضارها للاستخدام في مجموعة متنوعة من المشروعات النقدية .
 ويجب أن تواجه أي محاولة لتوصيف هذه الممارسة الاستطرادية برت أو ستاتس الذي يقدم كتابه «تقديرات كبيرة في مساحات صغيرة Great Reckonings in Little Rooms» حالة بليغة ومقنعة لعقلية بديلة يمكن تفسير المسرح من خلالها. وقد كان ستاتس أول من عالج تجربة المسرح والأداء باستخدام الفينومينولوجيا، ولكن تناول البعض دعوته إلى نقد سيميوطيقي إضافي بقوة في تسعينيات القرن الماضي، ومحاكاته في رعايته لأعمال ادموند هوسرل – حجر الأساس في الفينومينولوجيا – من قبل أولئك الذين فقد السجل التفسيري للثقافة، كما تم تناوله من خلال مشروع السيميوطيقا، وسائل نقل ثقل التجربة الذاتية في الأداء. وقد نشر ستاتس المنهج الفينومينولوجي داخل انتقاد أوسع للسيميوطيقا والنقد الجديد :
مخاطر التناول اللغوي في المسرح ملائم للنظر في الموقع السابق لانخراطـنا الحسي مع الموضوعـات الحسـية. وهـذا الموقع هو النقطة التي لم يعد الفن عندها مجرد لغة. وعندما يفترض الناقد انقساما في فن الصورة، فربما يقول شيئا عن اللغة، ولكنـه لـم يعد يتحدث عن الفن، أو عن القوة المؤثرة للفن على الأقل .
الانحراف المنسوب إلى بورك Burke هنا هو انحراف من السيميوطيقي/اللغوي إلى الحسي/ العاطفي . فالفينومينولوجيا عند أوستاتس تنتج معرفة البدني والحسي والعاطفي : إنها تنتج معرفة البعد الفيسيولوجي لتجربة الأداء كما تُفهم بشكل منفصل عن نسق العلامات والمدلولات . وعلي الرغم من أن ستاتس يضع وجهة نظره الفينومينولوجية علي أنها مكملة للتفسير السيميوطيقي، فان هذا الجانب الفينومينولوجي المكمل الذي يحتاج أن تكون الارتباطات المرجعية «مختزلة» أو «بين قوسين» يعني عزل جوانب إدراك الموضوع الذي ترفعه الفينومينولوجيا إلى أكبر من قيمته .
 ولن نكون علي دراية بالنقد الفينومينولوجي لو لم نكن ملمين بالاختزال الفينومينولوجي : التعليق المتعمد لإيماننا اليومي بحقيقة العالم بما هو كذلك، وتعليق التفسير التلقائي الذي نقوم به في محيطنا . ففي تقاليد هوسرل، يقال إن هذا الاختزال يبطل مؤقتا الافتراضات الضبابية التي تتوسط بين المعطيات الإدراكية الناقصة التي نتلقاها في لحظة حالية حول شيء معين والصيغة الكاملة المقدمة للعقل بشكل زائف . وما يتبقي بمجرد القيام بذلك، وفقا لبرت أوستاتس، هو «الشيء نفسه» خال من التفسيرات والدلالات والإشارات، وخال من الافتراضات والذكريات والدوران . إذ يتم تقويم الوعي في الموقف الفينومينولوجي تجربة اغتراب جديدة عن شيء مألوف. انه نوع من الوعي المشابه لما وصفه فيكتور شكلوفسكي بأنه «غرابة التأثير defamiliarization». ويدافع ستاتس عن الموقف الفينومينولوجي تجاه إنتاج نوع جديد من المعرفة بالأشياء في الأداء، ولاسيما أنها معرفة تتوافق مع حقائق الحضور التي تجعل الأداء في حد ذاته فريدا في الفنون التمثيلية .
 والكثير من الكتابات الفينومينولوجية هي كتابات عن المنهج الفينومينولوجي. ولكن ماذا يقال عن معرفة الأداء الناتجة من خلال تطبيقه الصارم ؟ . يوضح المسح الشامل للكتابات الفينومينولوجية عن المسرح أنه يتجلى في اللغة الشاعرية ويهتم بالحضور . ويقدم ستاتس أمثلة للكتابة التي تنشأ من خلال الإدراك الفينومينولوجي المتغير . ففي كتابه “ تقديرات كبيرة “، يروي لحظة الإدراك المتغير لموقف مألوف : “ في طريقي إلى موقف الحافلات للعودة إلى المنزل . وعندما اقتربت بشكل مفاجئ من الحافلة المتوقفة في ساحة الانتظار، أثارني أنها كبيرة ومستطيلة بشكل صارخ، وثقيلة في مادتها وملمسها، إنها ليست حافلة، إنها شكل غريب غير متوقع « . وقد أعاد برت أوستاتس صيغة اللغة الشاعرية غير المألوفة التي طبقا علي وصف الحافلة في مقاله في كتاب « النظرية النقدية والأداء « . وهنا يستدعي ستاتس مفهوم « النقطة punctum «، وهو الاستخدام اللافت للكلمات التي تجعل النص ينبض بالحياة . فمقارنة بارث لوجه جريتا جاربو في فيلمها «الملكة كريستينا Queen Christina” مع بشرة شارلي شابلن البيضاء، ولون النبات الداكن في عينيه، هو بالنسبة لبرت أوستاتس « ابتكار ظاهرة جديدة، وشيء بدون تاريخ للدلالة . ويوجد معيار للكتابة الفينومينولوجية، علاوة علي إثبات قيمتها، في الكتابة التي تعطل التوقعات، ألا وهي الصياغة الشاعرية . وبالرغم من عدم الحضور الفعلي لوجه جريتا جاربو، بالنسبة لبارث، وستاتس وقراءه في هذا المثال، فان الفينومينولوجيا تهتم بالحضور، وفورية الشيء أمام الناقد الفينومينولوجي . وتصف الحالات انتكاسته إلى الموقف الطبيعي، وهي  صيغة الوعي الافتراضي غير الفينومينولوجية . فبمجرد صعوده إلى الحافلة التي وصفها في مثاله، يبدأ في التفكير فيما سيفعله عند وصوله منزله : « ومع ذلك خفت كل هذه التوقعات، لأنني كنت أقرأ الصحيفة في الحافلة، وهي طريقة أخرى لعدم وجودي حيث أنا» . الفينومينولوجيا بالنسبة لستاتس هي الوجود حيث نكون، الحضور للأشياء كما هي حاضرة لنا .
.....................................................................................
•بانيل كامب يعمل أستاذا بجامعة براون بولاية ترينتي بالولايات التحدة .
•هذه المقالة نشرت في Journal of Dramatic theory and Criticism, Fall 2004  .

 


ترجمة أحمد عبد الفتاح