خشبة المسرح كمساحة متجسدة: يمشي الممثل في مكان، فيتغير المكان(2-2)

خشبة المسرح كمساحة متجسدة: يمشي الممثل في مكان، فيتغير المكان(2-2)

العدد 838 صدر بتاريخ 18سبتمبر2023

     ولتوضيح منهجي من الجدير بالملاحظة أن كل الأمثلة التي لدي معرفة مباشرة بها – وهي مسارح عملت فيها، وفنانين قابلتهم وتحدثت معهم . والانطباعات والتجارب التي أصفها هي بالتالي ليست ظواهر فردية أو عرضية، ولكنها منتقاة تحديدا لأنها تقول شيئا عن المبنى أو الأداء وتقدم نقاط ارتباط بتجارب الآخرين . ومن المهم أن نؤكد علي الطبيعة مفتوحة النهاية لهذا النوع من البحث : هذه الأمثلة   بأي حال من الأحوال ليست شاملة أو تصنيف كامل لمسرح وأنواع المباني . والمنهج الذي أطوره في الجزء النظري من هذه الدراسة قد تم تصميمه لدراسات الحالة، ولكن يمكن تعديله لكي يطبق على أمثلة أخرى . فأمثلتي هي بالضرورة أمثلة شخصية، بسبب الحاجة الى الكتابة والتحليل من منظور متجسد، ولكن ذلك لا يعني أنها  وصف ساذج بضمير المتكلم . فالفينومينولوجيا كمنهج قد تم نقدها غالبا لهذا السبب، وأحيانا بشكل مبرر كذلك . ولكني أريد أن أوضح فيما يلي أنه قد تم القيام بذلك بالشكل الصحيح، فهي منهج صارم ومطلوب . 

المنهج الفينومينولوجي  
     الفينومينولوجيا منهج شائع و مثمر في تحليل التجربة منذ الثمانينيات، ولكنه أحيانا يواجه بالشك، عموما لأنه يعد منهجا لكل شيء، يقنع بوصف التجارب الشخصية بشكل بسيط وغير نقدي . ومحرري المجلد الأخير حول « الأداء والفينومينولوجيا Performance and Phenomenology” يلاحظون على سبيل المثال في مقدمتهم أن الحماس المبدئي للتطبيقات المسرحية للفينومينولوجيا قد أثار العديد من اعتبارات الوصف الذاتي لحضور الأداء أو صناعته، ولكنهم يحذرون بأن « مجرد تقديم تجربة المؤلف ليس فينومينولوجيا في حد ذاته، على الرغم من مدى شعبية هذا  . ولذلك، ما هي الفينومينولوجيا في ذاتها ؟ تقول ماكسين شيتس جونستون أحد أبطال هذا المنهج « منهجية أي تحليل فينومينولوجي ليست الجدل، بل التوضيح، أي عدم الجدال لدعم منظور معين أو حالة معينة، ولكن الكشف عن طبيعة الظاهرة أو سماتها الأساسية من خلال منهجية صارمة. 
      وبتأسيسها كمدرسة في التحليل الفلسفي في مطلع القرن العشرين بواسطة ادموند هوسرل، فان الفينومينولوجيا هي دراسة التجارب كما تظهر للوعي مباشرة. وقد عرف هوسرل منهجه في كتابه « الأفكار Ideas” عام 1913، ومن الواضح أنه تصور أنها سوف تصبح مدرسة بالمعنى الملائم لتناولها وتطبيقها بواسطة التلاميذ والأتباع . ورغم ذلك، فقد تنوعت الحركة على الفور، نظرا لأن تلاميذه ومن تأثروا به ( ومن بينهم مارتن هيدجر وجان بول سارتر و ماكس شيلر وموريس ميرلوبوني ) قد طوروا فروعا للنظرية وانتقلوا الى مجموعة متنوعة من الاتجاهات . وبالتالي لم تصبح الفينومينولوجيا مدرسة موحدة، وبدلا من تقديم رؤية عامة لتطورها ككل هنا، أفضل أن أوضح نوع أو فرع الفينومينولوجيا المهم في هذه الأطروحة . 
     أبرز فرق بين مشروع هوسرل والفينومينولوجيا كما تُمارس في مجالات مثل علم المسرح اليوم هو ببساطة أن هوسرل حاول أن يختزل التجربة إلى جوهرها الأساسي، بينما الاستخدامات المعاصرة للمنهج تسعى إلى وصف التجربة في نطاق تمايزها الواسع . وقد ركز النقد الموجه للفينومينولوجيا كمنهج واستمر في التركيز على هذا الميل للتفكير في الجوهر، وأن افتراض عمومية التجربة المباشرة هو الآن نقطة ضعف الفينومينولوجيا عموما . ورغم ذلك، فهناك الآن فهما عاما بأنه لا يوجد تعارض أساسي بين سعي الفينومينولوجيا للامساك بالتجربة نفسها والمشروع بعد البنيوي في نقد الافتراضات الجوهرية فيما يتعلق بالعرق أو نوع الجنس أو الإعاقة أو التوجه الجنسي . في الواقع، لقد استخدم الوصف الفينومينولوجي لفترة طويلة لجعل تجارب الآخرين مرئية ومتاحة . ومع اتخاذ تدابير تحذيرية لمنع الحفاظ على « عمومية غير منطقية «  يمكن أن تكون الفينومينولوجيا طريقة إجبارية لإجراء البحث، لأنها تعترف بالتوتر ثنائي الاتجاه : فمن ناحية نوع تجربة الفرد متعددة الى ما لا نهاية، ولكن من الناحية الأخرى هناك وسيلة لفهم كيف أن هذا التعدد في الخبرات لا يزال قابلا للتواصل بشكل بين شخصي . تسعى بعض خيوط البحث الفينومينولوجي – غالبا الاقتران مع علم الإدراك أو بالتداخل معه – إلى الكشف عن الآليات الإدراكية الأساسية التي تتيح مشاركة الخبرة  ونقلها الى الآخرين . وتلك الخيوط هي التي تستفسر عن دور الجسم في إبداع وصنع المعنى في العالم : دراسة الوعي والفعل للإدراك المتجسد الوعي . ويشرح ستيفان كاوفر وأنتوني شيمرو في كتابها الحديث « الفينومينولوجيا – مقدمة Phenomenology – Introduction أنهما يعتبران خيط الفينومينولوجيا هذا أكثر ملائمة وإنتاجية لمجموعة واسعة من الاهتمامات المعاصرة: «أحد الاهتمامات البارزة للفينومينولوجيا هو تقديم وصف للبنيات التي تجعل العالم الموضوعي المشرك مفهوما . وهذا الوصف يدرك أن الأجسام والمهارات أساسية للفهم  . وبمتابعة خط الفكر هذا، فان المنظرين الذين سوف يظهرون مرة أخرى في هذه الأطروحة هم أولئك الذين يعملون في منطقة التداخل بين الفينومينولوجيا والإدراك وعلم النفس : موريس ميرلوبونتي وكيرت ليفين وجيمس جيبسون وماكسين شيتس جونستون، بدرجة أقل أعضاء مدرسة علم النفس الجشطالتي. 
     وبعد أن ذكرنا هوسرل بإيجاز هنا، فلن تلعب نظرياته دورا بارزا في باقي الدراسة . والسبب في هذا هو النزعة الإدراكية الكامنة في أفكاره . فقد طور هوسرل نظرياته بالقياس الى الفكر الواعي، والذين جاءوا من بعده سعوا الى تأسيس بنيات لتجارب بين الذاتية في أنواع أخرى من الوعي . إذ مال هيدجر نحو أشكال الوجود  العاطفية المؤثرة، وأكد ميرلوبونتي في النهاية على الأهمية الأساسية للجسم كأساس يمكننا من تجربة عالم موضوعي مشترك . ووضح كاوفر وشيميرو أن تقدم آراء هيدجر ادعاءات ضمنية حول الطبيعة الجسدية للمهارات والكفاءة من  خلال فهمنا للعالم .  ونادرا ما يذكر هيدجر الجسم، في  حين أن  ميرلو بونتي  يجعل الجسم هو المتحكم  في نظريته . 
 إذ يجادل بأن الطريقة التي نواجه بها العالم، وهو قصدنا، هو في قصد حركي يرتكز على قدرتنا الجسدية .  
وخلال هذه الأطروحة وبالرجوع الى ميرلو بونتي، أؤكد أهمية الجسم كأساس للتجربة والفكر والوعي – ووجودنا في العالم ومعرفتنا له – والمسرح بلا شك هو جزء من العالم، ويجب أن يتبع ذلك أنه يمكننا أن نكتسب رؤى مهمة حول كيفية توظيف المسرح من خلال الاهتمام بالآليات الجسدية لأدائه وممارسته . 
     بمصطلحات فينومينولوجية، فان ما أخطط للقيام به في هذه الدراسة هو القيام باختزال فينومينولوجي أو ابستمولوجي لعمارة المسرح  وهذا يعني استبعاد جميع  أشكال كل المعرفة غير الإدراكية  التي نمتلكها عن الشيء الذي نواجهه، بما في ذلك افتراضات الفطرة السليمة الأساسية . ويسميها ميرلو بونتي « الطموح لجعل التفكير يحاكي الحياة غير العاكسة للوعي « . فمثلا، عبارة مثل « مبنى المسرح يضمني « ربما تبدو مستحيلة في إطار الفطرة السليمة، ولكنها تبدو وصفا فينومينولوجي  للتجربة المباشرة لفراغ مسرح بعينه في لحظة معينه . وسوف تستكشف هذه الدراسة مجموعة متنوعة من هذه الأوصاف . 
     يجب أن أوضح عند هذه النقطة أنني لا أفترض أن أقوم باختزال استدلالي لعمارة المسرح بالمعنى الهوسرلي الكلاسيكي . فهذا يتعلق بمحاولة إيجاد جوهر لماهية مبنى المسرح، من خلال محاولة الكشف عن طبيعته الأولية . فعلى الرغم من أن هناك محاولات سابقة بواسطة علماء المسرح لتوضيح ماهية المسرح والاستفسار عن ماهية العناصر الخارجية التي يجب استبعدها للكشف عن جوهره، فاني لا أعتقد أن هذا تناول مفيد في هذا السياق . والأكثر من ذلك، قد يبدو من الجرأة المطالبة بالحق في الحدس بالطبيعة العامة الأساسية للمسرح, لاسيما وأن الاتجاه اليوم هو العكس من ذلك : « اننا نعيش في عصر التعددية والآنية حيث تظهر باستمرار أشكال للمسرح والأداء المتغيرة والمتعددة . وتنظر هذه الأطروحة الى فراغ المسرح في الأداء وتفهم هذا الفراغ بأنه يبتكر من جديد في كل مرة في جهد إدراكي مشترك من خلال المؤدين والمتفرجين . والمقاربة الأساسية لهذه الدراسة لا تتوافق فعلا مع فكرة غير قابلة للنقاش وغير قابلة للتغيير لماهية عمارة المسرح وما يمكن أن تكون عليه . وبالدخول الى الجزء الرئيسي في هذه الدراسة، يمكنني أن أعتمد على فكرة التعدد، التي يتصادف أن تكون أكثر المفاهيم المثمرة في الفهم الحالي للفراغ . فمثلا تصف عالمة الجغرافيا دورين ماسي الفراغ بأنه «مجال احتمال وجود التعدد بمعني الكلية المتزامنة ؛ مثل المجال الذي تتعايش فيه المسارات المتعددة» وتقترح بأنه «ربما يمكننا تخيل الفراغ كتزامن للقصص حتى الآن» . 

الأمية المكانية 
     حقيقة أن العلماء المعاصرين مثل ماسي مازالوا يقدمون تعريفات لماهية الفراغ, أو كيف يمكن وصفه، تشير إلى أحد التحديات في هذا المشروع : الأدوات المتاحة للتعامل مع الخبرة المكانية نادرة وغير متطورة . وعلى الرغم من أن الفراغ والعمارة جزء مهم من الخطاب الاجتماعي والتاريخي، وقد تعريفهما لغويا على هذا النحو، فان التحليل المكاني الاستطرادي يميل إلى معالجة الفراغ المعماري كتجلي للممارسات الاجتماعية أو السياسية . وفي نفس الوقت، فان التجربة المكانية المباشرة هي مفاهيم غير لغوية يصعب صياغتها في كلمات، أو ربما لا مكن صياغتها في كلمات على الإطلاق . فالإدراك المكاني، بعكس الممارسات الاجتماعية المكانية، لا يمكن اختزلها في إلى لغة . وباقترانها مع الفهم المتخلف بنفس القدر لكيفية عمل الإدراك نفسه، فان هذا يعني، عموما، أن هناك وعيا قليلا حو مدى مرونة وتغير تصور الفراغ في الواقع . 
     وعلى مدار هذه الأطروحة سوف أجادل بأن مرونة أو عد ثبات الإدراك يتضخم في المسرح، لأن جانبا كبيرا مما يفعله ممارسو المسرح ( بما في ذلك المؤدين ومصممي الديكور والصوت )، هو التلاعب بفراغ المسرح بطرق فنية وخفية . فربما كان فراغ المسرح نفسه قابل للتعديل أو مقاوم لممارسات التلاعب، وكما يفسر مستشار المسرح جوش داشيز : 
 أول وأهم شيء – السؤال الرئيسي في عمارة المسرح في رأيي – هو صنع أماكن جيدة للأداء ونشاهد فيها تلك العروض (...) فهناك بالتأكيد أمثلة سيئة كثرة في العالم وهناك بالتأكيد مئات المشروعات بها أحدث المعدات التكنولوجية، حيث يتم تنفيذ كل شيء بسلاســة في خلفية المسرح، ولكنها أماكن مروعة لمشاهدة العروض وأدائها لعشرات الأسباب . 
المشكلة، في رأيه، هب أنه لا توجد كلمة لوصف خاصية جودة المكان للأداء . ويمكننا أن نتكلم عن جودة أو رداءة الصوتيات في المكان، ولكن سؤال القابلبية للأداء تمضي إلى أبعد من هذا . واقتراح داشيز هو أن روح المكان هي الكلمة الملائمة، ولكنه يستنتج أن البحث عن الكلمة الصحيحة لم ينته حتى الآن، وأن مهمة معماري المسرح ما تزال تعمل لابتكار الأماكن القابلة للأداء فضلا عن إيجاد الكلمات الصحيحة لوصف خصائصه : « نحتاج كلمة لهذه الخاصية نقدرها جميعا لمكان يجعلها مكان أداء رائع، وبالنسبة لي إنها أساس مهنة الاستشارات المسرحية, لمعرفة كيفية جعل هذه الأماكن بالخصائص الصحيحة . 
     في التسعينيات، تضرر المعماري ليان ماكنتوش بأن العمارة كانت من أقل الجوانب المفهومة في المسرح على الرغم من أنها أحد المكونات الحيوية في التجربة المسرحية . ومن قبله في الخمسينيات تحدت المعماري والمنظر برونو زافي عن الأمية فيما يتعلق بالأماكن بشكل أكثر عمومية . واليوم قد تغيرت الأشياء – تحول مكاني في وقت لاحق وفي منتصف ما يمكن تسميته في المستقبل «التحول المعماري « . والخطاب المكاني في مجالات تتراوح بين الجغرافيا وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا الى العمارة ثم في دراسات المسرح والأداء هو خطاب دينامي وشامل بشكل حيوي . وتسعى هذه الدراسة إلى  المشاركة في هذا التطور، وتسير على خطى أولئك الذين يحاولون تأكيد أن الفراغ والعمارة لا يتم قراءتها فحسب، بل تمارس بشروطهم الخاصة .  
.................................................................................
ليزا ماري بوللر تعمل استاذا بقسم دراسات المسرح في جامعة ميونيخ 
هذا المقال هو الفصل الأول من كتاب « عمارة المسرح كمساحة متجسدة» 


ترجمة أحمد عبد الفتاح