كليفور أوديتس.. وورطة اليسار الأمريكي

كليفور أوديتس..   وورطة اليسار الأمريكي

العدد 795 صدر بتاريخ 21نوفمبر2022

 يتزعم كليفورد أوديتس (1906-1963) كاتب أمريكا المسرحى الأبرز تيار اليسار الأمريكي، الذي بدأ حياته ممثلا وهو فى سن الخامسة عشر، وساهم فى إنشاء مسرح الجروب فى الفترة ما بين 1931، 1941 م، وهى فرقة مسرحية ذات تأثير كبير فى الحركة المسرحية الأمريكية، والتى أفادت بشكل كبير من تكنيك جديد ذى ارتباط وثيق بفكر الروسى كونستنتين ستانسلافسكى. تأسس مسرح «الجروب» فى مدينة نيويورك، بجهود هارولد كلورمان وتشيريل كراوفورد ولى ستراسبرج فى عام 1931. تبنت تلك المجموعة أعمال زملاءهم الذين يؤمنون بهم وبأعمالهم ذات المهارة الفنية. كما كانت تلك الفرقة رائدة فيما يسمى بالتقنية الأمريكية فى التمثيل التى استقت ذلك الأسلوب كما ذكرنا آنفا من ستانسلافسكى.
  كان من بين أعضاء تلك الفرقة ممثلين ومخرجين وكتاب مسرحيين ومنتجين أمثال كليفورد أوديتس وإيروين شو والمخرج الأشهر إليا كازان وهارى مورجان وستيلا ألدر.
  كانت رؤيتهم متمثلة فى خلق مسرح جديد يسمو بالدراما الأمريكية الأصيلة إلى حيز الأضواء، فجاءت أعمالهم لتبرز مغزًى سياسيا كبيرا، ومن أول الأعمال التى رفعت اسم الفرقة هى مسرحية « استيقظوا وغنوا « فأصبحت صوت الفرقة المسموع وحلمها الذى تحقق. فاستجاب الجمهور والنقاد لهما بحماس.
  احتاج كليفورد أوديتس لمسرح يصب فيه خبرته المبكرة مع الطبقة المتوسطة فى فيلادلفيا وبرونكس، ملعبه المسرحى الذى يظهر وعيه بالورطة الإنسانية تحت نير رأسمالية المدن. فجاء مسرح «الجروب» فأصبح وطنه الخلاق. إن جوهر مسرح أوديتس هو المتشردين، ووحدة البشر فى وقت الفوضى. بعد أن هجر الحزب الشيوعى عام 1934 الذى كان يجد فيه متنفسا لأفكاره ورؤاه المجتمعية، بحث عن إطار خلّاق، عن وطن يعمل فيه فوجد ضالته فى مسرح «الجروب» الذى تأسس ما بين عامى 1928 و1931 فأصبح محورا للأعمال التى تتناول المشكلات الاجتماعية ومعاناة الطبقة المتوسطة بين أنياب الرأسمالية التى دحرت آمالهم وتطلعاتهم فى معيشة أفضل، فكتب له بعض المسرحيات وعُرضت بالفعل وحازت على إعجاب الجمهور وأثنى عليها النقاد.
 لكن طموحه قاده للنظر إلى هوليود فانهالت قريحته فكتب مسرحية «فى انتظار ليفتى» و«حتى يوم مماتى» و«الفردوس المفقود».  
  جاء أوديتس لينادى بتغيير الميزان الاجتماعي وأنساقه، فكانت مسرحية «فى انتظار ليفتى» لتدق ناقوس الخطر فوق التدهور الإنسانى الذى نتج عن التركيب الإجتماعى فنجد بعض الشخصيات تنادى بأن الإضراب الجماعى يمكن أن يخلق عالما أفضل. فجاءت مسرحية « استيقظوا وغنوا» لتبرز ذلك المضمون من خلال إطار مسرحى أكثر دقة وأكثر رحابة، فينتقل الحدث خلال استيقاظ شاب وهو يعد العدة ليأخذ مكانه فى عملية التغيير الاجتماعى. أما مسرحية «الفردوس المفقود» جاءت لتترجم نتيجة المسرحيتين الأوليتين إلى تحليل ماركسى للتفكك الاجتماعي.
  كان أوديتس يبث فى مسرحياته فكرة انحطاط الأسرة ومردود ذلك على الانحطاط الاجتماعى ككل، فكانت شخصياته تتفاعل فى جو وقاعدة أساسها فساد أسرى ناتج عن فكر أو وضع اجتماعى خاطئ، كانت الصراعات تدور لتتصاعد نحو ضرورة تغيير المجتمع. إن مسرحية « الفتى الذهبى « التى كتبها عام 1937 توازن بشكل مساوٍ ما بين الحاجة من أجل التغيير فى النظام السائد، والحاجة إلى إيقاظ الشخصيات من كبوتها. يقول أوديتس من خلال شخصية فرانك: « قناعة البقاء حيث تنتمى، أن تكون كما أنت ... أن تكون متآلفا مع الملايين من البشر.»
 إن أبطال مسرحيات أوديتس وزوجاتهم هم ضحايا أو ناجون فى عالم حيث أوجدت الإضرابات فرقا جوهريا فى حياتهم، وهم أيضا ضحايا جشع شخصيات أخرى وظروف مجتمعية لها قوانين مختلفة تتعارض مع آمال الأبطال.
  فى مسرحية « السكين الكبير» التى كتبها عام 1949 ينتقل المشهد من الطبقة المتوسطة المحبطة إلى صناعة الترفيه فى هوليود والنهب الذى يحدث فى أروقتها، ورثاء الذات، النجوم ووكلاءهم ومنتجوهم. ذلك العالم يعكس بشكل تجريدى توترات النفاق الاجتماعى الذى يدمر بوعى ومسؤولية من يقف ضده. فينتحر البطل فى الفخ الذى نصبه له رجلان يريدان أن يمتلكا البشر، يدعم أوديتس موضوع الوحدة بموضوع الرق.
 منذ أن كتب أوديتس مسرحية «فى انتظار ليفتى» انشغل بالابتكار المسرحى فطّور من قدرته التقنية، فخضعت حبكاته البسيطة لإبراز حياة البشر ومشاعرهم. فكانت صرخة شخصية إيدنا وهى تنظر للجمهور وهى توجه كلامها لزوجها سائق السيارة الأجرة: «قفوا وناضلوا من أجل صرخات أطفالكم وزوجاتكم» هى بمثابة صرخة محفزه للمتلقى من خلال شخصية نابضة بالحياة على خشبة المسرح. وفى مسرحية «استيقظوا وغنوا» يقول الجد: « فى الماضى كانت الدعاية تكرث لله. الآن تكرث للنجاح». فى مسرحية «الفتى الذهبي» يقول جو: أنا وحيد ... لا أحد ، لا شئ يقف فى طريقى.  
  تتناول مسرحية « الفتى الذهبى « 1937 موضوع نجاح المال. تقع تلك المسرحية ما بين الميلودراما والتراجيديا، جاء أوديتس ليقترح معاناة الوحدة للأرواح المسجونة فى جحيمها الخاص برغبات محبطة وحب متردد. إن أوديتس لديه القوة أكثر من أى كاتب مسرحى أمريكى لاستقطاب جمهوره ليعيش معاناة شخصياته والملابسات السياسية لمعاناتهم. إن لغة مسرحية «الفتى الذهبى» مزيج من اللهجة الإيطالية الحضرية ولهجة الطبقة المتوسطة اليهودية.
  تتناول المسرحية فتى نيويوركى فى الواحدة والعشرين من عمره، وتحوله من هوايته الأساسية وهى الموسيقى (العزف على الكمان والتى يريد من خلالها أوديتس أن يبين أن يد البطل طاهرة ونظيفة، ويحثه أبوه على المحافظة عليها) التى أعد لها نفسيا من خلال تشجيع أبيه إلى عالم آخر مغاير تماما وهو الملاكمة فينتقل من البيت الموسيقى إلى نجاح اغترابى، ويعود إلى البيت مرة أخرى لكنه ميتا. فيقول السيد بونابرت فى الجملة الختامية : « جو ... تعال ...، سنعيده إلى البيت ... حيث ينتمى». تلك المسرحية الطموحة تقدم مشكلات تقنية لا تصل إلى حل بسبب الحدث المكثف جدا. ونضع فى الاعتبار أن العزف على الكمان هو إيحاء ورمز لا يستهان به. وإبراز موضوع الشهرة على المسرح من خلال الشخصيات المتباينة الفكر، فهناك الشهرة التى ستأتى لجو إذا برع فى العزف على الكمان، والشهرة التى ستأتيه زاحفة إذا برع فى الملاكمة، فهذا سجال فكرى يدور فوق المسرح لتؤدى كل شخصية ما لها وما عليها.
 إن تحول البطل من هوايته التى تربّى عليها والتى تقوم على استخدام اليد إلى هواية أخرى مكتسبة حديثا لكنها تجلب له الكثير من المال، هو المحك الذى يجعل المتفرجين يحبسون أنفاسهم كى يتابعوا ذلك التحول، ثم الصعود إلى أعلى درجات البطولة، ومن ثم الانهيار التام. هناك تضاد كامل ما بين العملين، فذلك يضفى على البطل صفة الأسطورية ويخلق منه بطلا تراجيديا، يحاول أن يعود إلى نقطة البداية لكن قدره يناديه ويقوده إلى مصيرة المحتوم. فنجده يقول فى مواجهة مع نفسه ومع لورنا: «كنت عصفورا، وأردت أن أكون نسرا مزيفا».  
  لم يواجه أوديتس حقيقة أن الحافز الذى يستند عليه البطل ليشق طريقة فى مجتمع تنافسى ليس هو نفس الحافز الذى يجعله يشق طريقه ليصبح ملاكما من أجل الجائزة الكبرى. إن حالة الوحدة التى خلقت بسبب النجاح جعلت جو ينجذب إلى وحده متبادلة مع ظروف أخرى أنجبتها معطيات مجتمعية من خلال شخصية لورنا. إن ثقة البطل الملحة بنفسه فى الفصل الأول تصبح مدمرة ومميتة إثناء تطور الحدث. وقبل أن ينتهى الفصل الثالث تتواءم روحاهما وتتحدان، فتقول لورنا له: «سنجد مدينة ما حيث لا يكون فيها الفقر عارا، حيث توجد الموسيقى لا توجد الجريمة». فيرد جو قائلا: طهرى رأسى. سنكون خارج الكرة الأرضية.
   كان أول من أخرجها للمسرح هو المخرج هولدن كلورمان والتى عرضت فى مسرح بيلاسكو، واستمرت مائتين وخمسين ليلة عرض. قام بالتمثيل فيها لوثر ألدر فى دور جو، وروبرت لويس وموريس كارنوفسكى وفرانسيس فارمر التى قامت بدور لورنا مون.
   فى مسرحية « استيقظوا وغنوا» 1930 يتناول أوديتس عائلة من الطبقة المتوسطة  فينتقل من خلال حوار طبيعي إلى تعبيرات غنائية مقتضبة للتوتر والتواصل. إنها عائلة تقف على عتبة الانهيار، لكنها لا تزال متشبثة بالحقوق المفترضة وهى الرفاهية والأمان والتى فقدت معناها من زمن غابر. إن الشقة التى تعيش فيها العائلة خانقة – هى صورة للعالم المغلق للعائلة التى تناضل من أجل الحياة فى وسط الكساد بالتقوقع حتى تسود الراحة الساخرة عندما ينفجر جاكوب فى الفصل الثانى قائلا: «هذا منزل ؟ ماركس قال ذلك – إلغوا العائلات.» إن أوديتس يبنى حبكته على صورة الجنة الممكنة، والحنين إلى عالم جديد: حلم مو ببستان برتقال صيفى: تسجيلات جاكوب الخاصة بكارسو: وطائرة البريد الجوى المتجهة إلى بوسطن والتى هى بعيدة بعد موسكو فى أعمال تشيكوف.
  يقوم جاكوب بإيقاظ رالف إلى الحياة التى تنتظر العمل إلى تحمل المسؤولية، إلى التضامن الاجتماعى، الفردوس الحقيقى. يطلق أوديتس على تلك المسرحية صراع من أجل الحياة وسط ظروف تافهة. نجد أن بعض الشخصيات تحاول أن تُحًول المثالية إلى واقعية، فنجد رالف يقول : « كل ما أحتاج إليه هو فرصة لأصل إلى القاعدة الأولى».
  أخرجها للمسرح هارولد كلورمان، وقام ببطولتها لوثر ألدر، وستيلا ألدر وسانفورد ميسنر. حصلت تلك المسرحية على عدة جوائز منها أفضل ممثل وأفضل إخراج وأفضل مناظر وأفضل إضاءة.
   فى عام 1949 اختار أوديتس موضوعا مختلفا عن الموضوعين السابقين ووضع فى إطار هوليودى، ذلك الموضوع الاجتماعى الذى يتناول قضايا الوسط الفنى وما يعتريها من مشكلات، والنماذج البشرية التى يفرضها ذلك الوسط. كما أن الآمال والطموحات تحددها آليات تتحكم فيها فئة قليلة وهم المنتجون، فلابد أن يسير الكل فى اتجاه واحد وهو العمل السينمائى ومن يعرقله أو يحاول أن يوقفه فيجد صدا منيعا قد يصل إلى القتل. كما يتناول موضوع الشهرة وهل هى نهاية المطاف، أم أن هناك طريق آخر يحاول أن يسير فيه من اعتلى سلم الشهرة؟
  مسرحية السكين الكبير هى نقد للحياة المنهارة بشكل أساسى، يسعى لحل وسط بين المثالية وبين الضعف الإنسانى. ينجلى المشهد بأسلوب إبسنى : فنكتشف أن هناك حادثا قد وقع فى الماضى لكنه يتسبب بشكل تدريجى فى إفساد الحاضر، فيتحدى ذلك الحدث البطل وهو تشارلى كاسل النجم السينمائى فيقوده إلى الموت. ذلك لأن السياق المنطقى للحدث يستهل بتدهور حال تشارلى كاسل بسبب ذلك الحادث وابتعاد زوجته بسبب رغبتها فى أن يبتعدا عن هذا الوسط الذى جر عليهما متاعب جمة، تلك الرغبة يصدها من جانب آخر المنتج الذى لا تهمه المشاعر الإنسانية وما يختلج فيها. فنجد الحيرة التى تنتاب البطل ورغبته فى أن يصل إلى نقطة فى الظل ويترك الأضواء إتقاءً للأحداث التى تنتظره. ومحاولة الشخصيات الأخرى من إثنائه عن عزمه وقيادته نحو طريق واحد مفروش بالدم، لكن النزعة الإنسانية والرفض القاطع لما يفعله المنتج وأعوانه جعلته وحيدا، فصار قراره مشتتا. فكانت النهاية المأسوية لتضع حدا لهذا الجشع الانسانى. لكن جاءت الصرخة العالية طلبا للنجدة لتضع نهاية منطقية لكل الشخصيات التى تعانى دون أن يكون لديها قدرة على اتخاذ قرار بشأن مصيرها أو مصير القريبين منها.
  الفلسفة التى يضمنها أوديتس فى مسرحية «السكين الكبير» تطرح موضوعات فى غاية الأهمية، فمثلا يطرح مكانة الإنسان وهل هو الذى يتخذ قراراته وهو الذى يحدد مصيره أم أن هناك يدا خفيه تُوجهه. يقول تشارلى كاسل: «ألا تراهم يحاولون أن يُخرجوا الإنسان من الأرض ويضعون مكانه العميل؟» فيرد عليه وكيله محذرا : «العمل و المثالية لا يمتزجان. إنهما كالزيت والماء. « كما أنه يطرح جو الوحدة فى مجتمع فاسد يلوث يديه بدم الضحايا. الشخصيات القطبية لأوديتس هم زوجة تشارلى ماريون، وماركوس هوف التاجر السينمائى الذى أحسن أوديتس توظيفه من خلال الحوار. الابتزاز غير المرئى الذى يصل بالمسرحية إلى الذروة، لكن هناك ذروة داخليه وهى تحدى ماريون لتشارلى: « خطيئتك تعيش ضد طبيعتك.»
 ماريون زوجة البطل لا تحتمله لأنه يخضع للاستبداد، وفشل فى أن يقتنص الفرص التى واتته ليقاوم السلطة، على لسان هانك يقول أوديتس: « كف عند تعذيب نفسك يا تشارلى– لا تقاوم!»
 قام بالتمثيل فى مسرحية السكين الكبير فى أول عرض مسرحى لها جاك بالانس فى دور تشارلى كاسل، وإيدا لوبينو فى دور ماريون كاسل، و ويندل كورى فى دور سمايلى كوى، ورود شتاينجر فى دور ستانلى هوف وإخراج روبرت ألدريش.
 كتب كليفورد أوديتس مسرحيات مهمة أضافت للمسرح الأمريكى وجعلت أوديتس فى مصاف أقطابه. فنذكر من مسرحياته «منتصف الليل» 1930، «الليلة الكبيرة» 1933، «كلهم يأتون إلى موسكو» 1933، «رجل النسر الذهبى» 1934، «فى انتظار ليفتى» 1935، «حتى يوم مماتى» 1935 ، «الفردوس المفقود « 1935، «موت الجنرال فى الفجر» 1936، «صاروخ للقمر» 1938، «الموسيقى الليلية» 1940.


ترجمة عبد السلام إبراهيم