الفرق الشامية.. الظروف الاجتماعية والسياسية التى أدت لهجرتها إلى مصر

الفرق الشامية..  الظروف الاجتماعية والسياسية التى أدت لهجرتها إلى مصر

العدد 656 صدر بتاريخ 23مارس2020

بدايات الفن المسرحى العربى: يجب أن نذكر جيداً، أن بدايات المسرح الحقيقية بدأت فى الشام على يد أبو خليل القبانى فى سوريا، ومارون النقاش فى لبنان، وربما كان هذا السبق نتيجة الأحتكاك الأكبر لبلاد الشام مع الحضارة الأوربية، ومع البلاد المتحدثة بالفرنسية، نتيجه الأحتلال الذى تعرضت له الشام ولفترات طويله من الفرنسيين، مما أدى إلى إجادة أبناء الشام للغة الفرنسية، وبالتالى الأتطلاع على ثقافتهم الفنية، بجانب أشتغال أبناء الشام بالتجارة والملاحة، مما مهد لهم الطريق على الأتطلاع و رؤيه هذه الفنون والثقافات الأوربية عن قرب، لكن رغم نجاح التجربة المسرحية الشامية، إلا أن الأستمرار لم يكتب لها ، لأن الظروف السياسية والأجتماعية، لم تك مهيئة فى بلاد الشام لأستقبال هذا الفن الوافد الجديد، عكس مصر، فقد مهد محمد الساحة منذ بداياته، لأستقبال هذا الفن الوافد الجديد، عن طريق البعثات التى أرسلها، والتى تحدثت بعد عودتها من الخارج عن وجود نوع أدبى جديد فى أوربا أسمه مرسح، ونشطت نوعاً ما مجموعه من الترجمات المسرحية، بأعتبار أن المسرح نوع أدبى، فأدرك المصريين أن هناك نوع أدبى جديد أسمه مرسح، فكان تمهيداً قوياً أن أدراك المسرح ضمن الأدبيات، ثم يأتى بعد ذلك دور الخديوى أسماعيل، الذى أكمل المشهد العام، بتحويل منطقة الأزبكية إلى منتجع فنى ثقافى أحتفالى، وهو ما سنتحدث عنه بالتفصيل فى مقاله أخرى، وكما نعرف أن الخديوى أسماعيل، كان مهتم بتهيئة مصر لهذا المشهد، وهذه الريادة المسرحية، رغم أن ريادتها قدمت من بلاد الشام، فأهتم الخديوى برجال العلم ورجال الثقافة والفن، وتهيئة الأجواء فبرز من بنيهم الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، ليقدِّم تجربة فنية فريدة، كانت الأولى من نوعها، عندما عرَّب مسرحية «هيلانة الجميلة» عن أوبريت أوفنباخ عام 1868م،  وهي مسرحية افتتاح مسرح الدولة الرسمي الأول — الكوميدي الفرنسي، وبذلك عرفت مصر رسميًّا المسرح العربي نصًّا مُعرَّبًا قبل أن تعرفه عرضًا مُمثَّلًا.  
وربما كانت الميزة الوحيدة لفترة الحكم العثمانى على مصر والشام، أن الدولة العثمانية، كانت تعتبر أن مصر والشام بلد واحد، ومن حق أبنائه السفر بدون قيود.
لماذا فشلت التجربة المسرحية فى الشام رغم ريادتها:
أتت إلى مصر العديد من الفرق الشامية، لتقديم عروضها فى مصر، لكنى هنا سأقتصر على فرقتى سليم النقاش، وفرقة أحمد أبو خليل القبانى كنموذج. لدراسة أسباب قدومها إلى مصر.
رغم البدايات الجيده والمحسوسه للنقاش إلا أنه أصطدم بواقع أجتماعى مرير، ورغم نجاح النقاش فنياً إلا أنه أهتم بالقناصل والسفراء وعلية القوم، ولم يجعل نصب عينيه على الجمهور العادى، ولا أريد أن أسترسل فى سيرة النقاش، لكن النقاش، بعد أن ذاع صيته، حصل على فرمان عالٍ يسمح له بإنشاء مسرح بجوار بيته ، وقد شهد هذا المسرح عرض مسرحيته الثالثة والأخيرة “الحسود السليط” في عام 1853م، وهي مسرحية اجتماعية عصرية تدور أحداثها في بيروت، وتقترب أحداثها من أحداث مسرحية مقالب أسكابان لموليير، ولكن حملات الرجعية طاردته، وأتهمته بالرجوع والأنحراف عن أهداف الدين المسيحى، فقرر التوقف عن ممارسة هذا النشاط الفنى، وفي 19 أيلول سنة 1854 سافر إلى طرطوس لأجل التجارة واستقر بها ثمانية أشهر، وفي 23 آيار سنة 1855 مرض بحمّى شديدة وتوفى بتاريخ أول حزيران، وقد قام وزير الثقافة اللبنانى فى عام 1977، وفى أحتفال مهيب بأزاحة الستار، عن لوحة على كنيسة السانتا فى الجميزة كتب عليها “في هذا المكان تم تقديم أول عرض مسرحي في لبنان والعالم العربي، وهي مسرحية “البخيل” للرائد المسرحي اللبناني مارون النقاش عام 1847”، وقد أوصى قبل موته بتحويل منزله إلى كنيسة حيث اشتراه القاصد الرسولي .
سليم النقاش يحمل ريادة مارون النقاش إلى القاهرة:   كان يمكن أن تنتهى ريادة مارون النقاش بوفاته وتحويل مسرحه إلى كنيسة، لولا أصرار أبن أخيه سليم النقاش الذى حمل لواء مارون النقاش إلى القاهرة وعندما عزم سليم خليل النقَّاش الحضور إلى مصر ترجم مسرحية «مي» ونشرها في بيروت عام 1875م، مغازلاً الخديوى فى مقدمتها بقوله، أنه سيخدم الخديوي إسماعيل «بإدخال فن الروايات في اللغة العربية إلى الأقطار المصرية”، كما أكَّد سليم النقَّاش على عمله الريادي هذا عندما تحدث عن الخديوي إسماعيل في مقالته بمجلة «الجنان» فى أغسطس 1875م قائلًا: “بلغتُ فوق ما تمنَّيتُ من أفضال جنابه العالي، وأحسن إلى بقبول طلبي، وذلك بأن أدخل فن الروايات باللغة العربية إلى الأقطار المصرية بتشجيع من رجال الخديوى أسماعيل”.
فكانت فرقة سليم النقَّاش هي أول فرقة مسرحية عربية تُقدِّم عروضًا مسرحية منتظمة باللغة العربية في مصر، منذ قدومها من لبنان إلى الإسكندرية عام 1876م، ومن ضمن هذه العروض روايات البخيل التى عربها مارون النقاش عن بخيل موليير، وكان مارون النقاش قد عربها بصوره شعرية غنائية تقترب للأوبرا أكثر ما تنتمى للأوبريت، ثم قدم بعد ذلك مسرحية أبو الحسن المغفل، ثم رواية السليط الحسود، كذلك قدمت الفرقة روايات قام بترجمتها وتعريبها سليم النقَّاش مثل ، مي وهوراس، وهارون الرشيد، والكذوب، وعائدة. فمن خلال ذلك نستطيع ملاحظة أن المسرحيات التى قدمتها الفرقة فى معظمها أما مترجم، أو معرب.
وسنلاحظ كذلك أن مسرح النقاش ومسرح القبانى كلاهما كان يعتمد على الشكل الموسيقى الغائى، فهو أقرب لقالب الأوبريت.
وكما تعالت الأصوات التى طالبت مارون النقاش بهجر بدعته التى جلبها لصحن منزلة بصيدا، كذلك كان حال أحمد أبو خليل القبانى، حيث رفع بعض المشايخ شكوى للوالى الجديد، يقولون فيها، “إن وجود التمثيل في البلاد السورية، مما تعافه النفوس الأبية، ونراه على الناس خطباً جليلاًورزءاً ثقيلاًل لاستلزامه وجود الفتيان الخصيان، ينشدن البديع من الألحان، بأصوات توقظ أعين اللذات في أفئدة من حضر من الفتيان والفتيات فيمثل على مرأى من الناظرين، ومسمع من المتفرجين احوال العشاق، فتطبع في الذهن سطور الصبابة والمجون، وتميل بالنفس الى انواع الغرام والشجون والتشبه بأهل الخلاعة، فكم بسببه قامت حرب الغيرةبين العواذل والعشاق وكم سلب قلب عابد، وفتن عقل ناسك، وحل عقد” كذلك وقف الشيخ سعيد الغبرا في وجود السلطان عبد الحميد أثناء صلاة الجمعة بالأستانة، محذراً خليفة المسلمين، والمصلين من (البدعة) الجهنمية، التي تهدد العقيدة الدينية، وما تحدثه هذه البدعة في نفوس الناس من فسق وفجور وفحشاء، وصرخ قائلاً، “أدركنا يا أمير المؤمنين فإن الفسق والفجور، قد تفشيا في الشام فهتكت الأعراض، وماتت الفضيلة، ووئد الشرف، وأختلطت النساء بالرجال، فى مسرح هذا الأفاق المدعو أحمد أبو خليل القبانى”، مما الأطفال يطاردوه وهم يرشقوه بالحجاره ويغنون “ أبو خليل مين قلّك.. وعالكوميضة مين دلّك.. إرجع لكارك أحسن لك.. إرجع لكارك قباني.
رحيل القبانى إلى مصر: فى عام 1883، زار عبده الحامولى سوريا، وأحزنه ما آل أليه أمر القبانى، فدعاه للحضور إلى مصر، التى كانت تشهد رواجاً فنياً وقتذاك”، لم يجد القبانى فى النهاية بداً من الرحيل إلى مصر، وكان هذا فى عام 1884، بعد أن شجعه تاجر سورى مقيم بالأسكندرية هو الشيخ سعد حلابة، وهو خال والد الفنان زكى طليمات، الذى كانت تربطه بالأسرة الحاكمة صلات قرابة ونسب، و يقول الفنان  المصري (عبد العزيز الجاهلي) الذي تعلم على يدي أبي خليل القباني،  أن أبو خليل القباني أتى إلى مصر بصحبة أربع فنانين سوريين هم موسى أبو لهيق وتوفيق دمشقية وإثنان آخران (هما  وخليل مرشاف ومحمد مهدوجاد) إلى الأسكندرية مع فرقته عام 1884، كما نشرت جريدة الأهرام فى 23 يونيو 1884، وقدم أول رواية له على قهوة الدانوب هى رواية أنس الجليس، ثم قدم أعماله بعد ذلك على مسرح زيزينيا، مسرحيات على الباغى تدور الدوائر، أنيس الجليس، الأمير محمود وزهر الرياض، عنتره العبسى، ثم على مقهى الدانوب مسرحيتى، عائدة، حمزة المحتال.
القبانى فى القاهرة:  وشجعه نجاحه على الأنتقال إلى القاهرة، فى أواخر 1884، وأستأجر مسرح البولتيتياما، التى قدم عليهاعروضه الغنائية، وكان عبده الحامولى، وألمظ، يشاركانه بالغناء فى بعض الروايات، كذلك بعض أفراد فرقة سلامة حجازى، ليقدم مع عبده الحامولى نهاية عام 1884 طلباً لنظارة الأشغال للعمل على الأوبرا الخديوية، ورغم الموافقة على الطلب، إلا أن القبانى والحامولى لم يقدما أى عمل مشترك بينهما على دار الأوبرا الخديوية، ولكن قدم على مسرح حديقة الأزبكية، عدة مسرحيات منها ولادة، وقيس وليلى.
الهجوم على القبانى نتيجة عدم ألتزامه بالتقاليد الاجتماعية:
كان نصيبة من العمل على مسرح حديقة الأزبكية نقداً لاذعاً فى جريدة الزمان بتاريخ 22 ديسمبر عام 1885 تحت عنوان “ التشخيص العربى فى تياترو الجنينه” ولم يكن النقد نقداً فنياً بقدر ما كان نقداً أخلاقياً ينتقض ظهور الممثلين بزى النساء وتلفظهم ببعض الألفاظ الجارحة، وكان القبانى بنفسة، نتيجة ندرة الممثلات يقوم ببعض الأدوار النسائية بنفسه، وعادت نفس الجريدة تهاجم الفرقة بتاريخ 26 ديسمبر عام 1885 تحت عنوان “حديقة الأزبكية” ثم عادت ذات الجريدة تمدح فرقة القبانى عندما بدأت تمثيلها فى الأوبرا الخديوية فى مارس من عام 1886،
تخلى الخديوى عن دعم القبانى: وأنقطعت أخبار الفرقة لأكثر من ثلاث سنوات، ربما لعدم دعم الخديوى الذى كان يرى فى أعماله اثارة للرأى عليه، وفى نهاية عام 1889 عادت أخبار الفرقة قوية، بعد أنضمام المطربة ليلى للفرقة، ثم قامت الفرقة بجولات أقليمية فى عام 1890 وذلك بعد أنضمام الممثلتين الشقيقتين ( مريم ولبيبة سماط )، ثم تنقطع أخبار الفرقة لتعود بعد ذلك إلى القاهرة فى عام 1894، وتستمر مسيرته فى القاهرة بعد أن تبنى فرقته اول منتج فنى مصرى، وهو عبد الرازق عنايت، وسماه مسرح القبانى، مكان سوق الخضار بالعتبة، لكن المسرح يحترق، فيقوم بجوله فى شيكاغو بالولايات المتحدة عام 1892 مع 20 ممثلاً الى شيكاغو في الولايات المتحدة، كان بينهم صالح بك الملقب بالدرويش ومصطفى القاري وابو الخير النجارن وامين الأصيل وابراهيم المنجد، وموسى ابو الهيء وحسين الساعاتي، واقام القباني وفرقته ستة أشهر في معرض شيكاغو.
عودة القبانى إلى سوريا: وأستمر القبانى فى تقديم عروضه على مسرحه بالعتبة حتى 18 مارس من عام 1900 حيث توقفت الفرقة بعد أحتراق المسرح الخاص بالفرقة، وعلى آثر ذلك عاد القبانى إلى سوريا، وتوسط له صديقه أحمد عزت العابد، رئيس كتاب الباب العالى، للأفراج عن أملاكه وأجرت له الأستانه راتباً شهرياً.
من هذا يتضح لنا أن الأجواء الأجتماعية والثقافية التى مهد لها محمد على ومن بعده الخديوى أسماعيل هى التى أهلت لمصر لتكون ملاذاً لأى فنان يريد أن يقدم أعماله على أرض مصر، ولتوجد لمصر ريادة فنيه مستحقه.


سمير حنفى محمود